الشارع المغاربي – لِماذا نُعَارِضُ الاسْتفتاء وندعو إلى مقاطعته؟ بقلم: حمّه الهمامي

لِماذا نُعَارِضُ الاسْتفتاء وندعو إلى مقاطعته؟ بقلم: حمّه الهمامي

قسم الأخبار

23 يونيو، 2022

الشارع المغاربي: “إنّ الطّريق إلى جهنّم مفروش بالنّوايا الحسنة…”مثل أنغليزي

لا حديث اليوم، في الأوساط المتابعة للشأن العام، إلّا عن استفتاء قيس سعيد المبرمج ليوم 25 جويلية القادم المناسب للذكرى الأولى لانقلابه على الدستور وعلى المسار الثوري عامة. وإذا كان من البديهي أن يصفّق أنصار قيس سعيد لهذا الاستفتاء المهزلة ويدعون إلى المشاركة فيه لمبايعة “سيّدهم” و”صنمهم” “الملهم”، فإن القوى المعارضة له، سياسية ومدنية، لم تحزم أمرها نهائيّا في خصوص الموقف العملي المطلوب من هذا الاستفتاء إذْ يوجد تردّد بين الدعوة إلى المقاطعة وبين الدعوة إلى المشاركة والتصويت بـ”لا” وهو ما من شأنه أن يخلق نوعا من الاضطراب لدى الرّأي العام سيكون المستفيد منه قيس سعيّد المهموم أولا وقبل كل شيء، بعد مهزلة “الاستشارة الوطنية”، بنسبة المشاركة لأنّ ما تبقّى، أي التصويت بالإيجاب أو السلب،لا يهمّه كثيرا طالما أنّه يتحكّم في هيئة الانتخابات وفي الإدارة. وفي هذا السياق يتنزّل هذا المقال الذي سعينا فيه إلى توضيح الموقف من هذه المسألة.

الاستفتاءات ديمقراطية أو لا تكون…

من نافل القول إننا لسنا ضدّ الاستفتاءاتكآليّة ديمقراطية تمكّن الشعب من التعبير مباشرة عن إرادته بخصوص هذه المسألة أو تلك من المسائل التي تهمّه. ولكن هذه الآلية لا تحقق هدفها إلّا إذا توفّرت فيها الشروط التي تجعل منها آلية ديمقراطية.فإذا لم تتوفّر هذه الشروط القانونية (تقرير الاستفتاء وفق شروط دستورية/قانونية، وجود هيئة انتخابية مستقلة، إدارة محايدة، الشفافية، النزاهة…) والسياسية (مناخ حرّ يمكن مختلف الأطراف من الدعاية الحرّة) يصبح الاستفتاء عملية شكلية، أو بالأحرى مبايعة. وقد عرفت بلادنا مثلها مثل العديد من البلدان العربية وغيرها نماذج من الاستفتاءات الشكلية (استفتاء بن علي على تحوير الدستور عام 2002) معروفة النتائج مسبقا بهدف “شَرْعَنَةِ” الدكتاتورية ومؤسساتها.

إن قيس سعيد نفسه الذي يدعو اليوم إلى استفتاء يوم 25 جويلية القادم كان له قبل الصعود إلى دفة الرئاسة موقف مغاير من الاستفتاءات على الدساتير، إذ اعتبرها بصريح العبارة “أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكّرة…تتنكّر تحت عباءة الاستفتاء”. ولكن من الواضح اليوم أن قيس سعيّد يستخفّ بذكاء الناس ويغيّر مواقفه دون حرج ولا حياء (تماما مثلما غير موقفه من التطبيع مع الكيان الذي اعتبره في حملته الانتخابية “خيانة عظمى” وما أن وصل إلى الحكم وقام بالانقلاب حتى تمدّد التطبيع وآخر مظاهره الصارخة المشاركة هذه الأيام في مناورات “أسد إفريقيا” بقيادة أمريكا ومشاركة الكيان الصهيوني…)  من أجل تمرير مشروعه الاستبدادي، الدكتاتوري، المتخلّف، وهو “متنكّر” تحت “عباءة استفتاء” شكلي، زائف، لا تتوفر فيه أدنى الشروط الديمقراطية. فهذا الاستفتاء قرّره سعيد المنقلببمفرده، وهو يمثلحلقة من حلقات المسار الانقلابي الذي انطلق يوم 25 جويلية2021 والذي رفضناه بالكاملمنذ اليوم الأول.

وعلى هذا الأساسلا يمكن لمن عارض الانقلاب منذ البداية كما رفض مختلف حلقاته الموالية، أن يقبل حلقة الاستفتاء الحالية التي نعرف مسبقا أنها حلقة شكلية، مغشوشة مثلها مثل بقية الحلقات السابقة، ولا هدف منها غير “شرعنة” الانقلاب وتركيز مؤسساته الاستبدادية.إن الجميع يعلم أن استفتاء سعيد الذي قرّره بمفرده،قائم على نتائج استشارة وطنية فاشلة ومزورة لا تعبّر عن إرادة الشعب التونسي إذ أن نسبة المشاركين فيها لا تتجاوز 4 أو 5 بالمائة من مجموع الناخبين. لقد اعتمد قيس سعيد هذه الاستشارة التي أشرك فيها حتى من هم دون سن الانتخاب (النزول بالمشاركة إلى حدّ سنّ السادسة عشرة) ليخلص إلى أن أكثر من 86 في المائة من الشعب التونسي يختارون النظام الرئاسي وضمّن ذلك، إلى جانب أشياء أخرى، في دستوره “الجديد” الذي سيعرضه على الاستفتاء.

حوار شكلي وزائف

هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنّ “الحوار الوطني” المزعوم الذي نظّمه قيس سعيد بدار الضيافة بقرطاج لتقديم مشروع دستور “الاستفتاء” بناء على نتائج الاستشارة المهزلة قد قاطعته الغالبية الساحقة من القوى السياسية والمدنية الفاعلة في المجتمع لأنها أدركت مسبقا أن هذا الحوار شكلي ومهزلي.فالدستور، حسب كل المؤشرات، جاهز أوهو شبه جاهز ، لكن سعيّد، لإرضاء الأجانب  وللمحافظة على بعض الشّكليات التي تستوجب التّزيين ورشّ البهارات، كوّن “لجنة وطنية استشارية” جمّع فيها آخر وزير داخلية لبن علي ، مع أربعة وزراء من “عشريّة الفشل والفساد” مع تجمّعيين سابقين، مع ثلّة من المشبوهين الآكلين على كل الموائد، مع من كان مع قلب تونس أو مع حركة النهضة أو مع من كان مع حزب “الرياحي” و”قلب الفيستة” عملا بمقولة “الله ينصر من صبح”، إلى جانب بعض الأحزاب أو الجمعيّات التي خيّرت خطأ أو طمعا أو من باب الانتهازية بشكل عام الانخراط في العملية ظنّا منها أنها ستؤثّر فيها أو أنّها ستغنم منها.

وقد وضع سعيّد على رأس “اللجنة”، التي لم تصدر قائمة في أسماء كافة المشاركين فيها، أستاذ القانون الدستوري المتقاعد الصادق بلعيد الذي انفضّ من حوله غالبية أهل الاختصاص من عميدات وعمداء وأساتذة وعبّروا عن اختلافهم معه. وقد عيّن إلى جانبه عميد المحامين، “إبراهيم بودربالة”، الذي نُصّب على رأّس ما يسمّى بـ”اللجنة الاقتصادية والاجتماعيّة” دون أيّ تشاور مع زميلاته وزملائه في الهيئة الوطنية للمحاماة وفي فروعها في مختلف الجهات. وقد عبّر بعضهم علنا عن استنكاره للخطوة التي اتّخذها العميد والتي لا تُلزِم المحاماة في شيء.

لقد طُلب من كل هؤلاء الذين لا يمثلون سوى القلّة القليلة من المجتمع، اقتراح “الدستور الجديدلتونس الجديدة” للفترة الممتدة من 2020 حتى سنة 2060 في صفحتين وفي ظرف 72 ساعة، مع العلم أن اجتماعات اللجنة، وهي قليلة، تمّت في كنف السرية والإقصاء فلا أحد يعلم ما جرى في تلك اللجنة ولا بالورقات التي قدّمت فيها. وحين يُسأل بعض الفاعلين فيها عمّا يفعلون يجيب بأن واجب التحفظ يفرض عليه الصمت، مُدّعيا أنّ الرئيس وحده هو المؤهّل للحديث عن مضمون الدستور الجديد. فهل يحقّ لفرد أو لمجموعة قليلة أن تحلّ محل المجتمع كلّه لتقرر مكانهوفي كنف السرّية فيما يتعلق بالدستور الذي سينظم حياتهم لفترة غير قصيرة؟أليس في المسألة استبلاه للتونسيات والتونسيّين واستخفاف طائش بعقولهم ؟

لقد ظلّ دستور 2014 محلّ جدل داخل المجلس التأسيسي لمدة ثلاث سنوات. وكان للشّارع دور مباشر في التأثير في توجّهاته وفي عدة فصول منه خاصة تلك التي تتعلق بالطابع المدني للدولة وحرية الضمير والمساواة وحقوق النساء الخ…كما كان للإعلام وصنّاع الرأي من مثقفين ومبدعين وجهات نظرهم التي عبّروا عنها خاصة أن محتويات النقاشات داخل المجلس التأسيسي كانت علنية. إن دستور 2014 ليس، كما يدّعي سعيد ومؤيّدوه، دستور حركة النّهضة. إن دم شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي واعتصام الرّحيل وصيف من التضحيات هي التي أسقطت دستور 1 جوان 2013 الذي طبعته حركة النهضة بطابعها وأضفت عليه طابعا ديمقراطيا عامّا وفرضت فيه العديد من المكتسبات.

شتّان بين دستور عُمّد، على الرغم من نقائصه، بالدّم والتضحيات وبين دستور قرّره قيس سعيد وكتبه قيس سعيد وتكفّلت جوقة من الانتهازيين والأغبياء والأزلام لإحاطته بالسرّية والكتمان والتحفّظ والغموض لإضفاء قدَرٍ من الأهمّية والتشويق الزائفين عليه. إن ما جرى في تونس مع قيس سعيّد يعتبر مهزلة كبرى، والعيب ليس في سعيد وحده وإنّما في الذين قبلوا المشاركة في مهزلته ليمنحهم التاريخ أوْسِمة الغباء والانتهازية.

التّسريع للغشّ و”الغَمّة”

ومن الطبيعي أن يتساءل النّاس هل يعقل تكوين لجنة بهذه السّرعة وبمثل هذه التركيبة الغريبةويطلب منها تقديم مشروع دستور في هذا الحيّز الضيّق من الوقت في إطار التكتّم التام عن مضامينه؟ بالطبع هذه الأمور لا يقبلها العقل الجدّي ولكن “إذا عُرف السبب بطُل العجب” كما يقال. إنّ دوراللجنة الوطنيةالمكلّفة رسميّا بحوصلة المقترحات وتقديم مشروع الدستور استشاري كما يدل عليه اسمها، فالدستور النهائي سيكون دستور قيس سعيد الذي منح نفسه “سلطة تأسيسيّة”. إن الفصل 22 من الأمر 117 الذي ألغى به سعيد الدستور يمنحه صلاحيّة“إعداد مشاريع التعديلات المتعلقةبـالإصلاحات السياسيّة بالاستعانة بلجنة” يعيّنها هو بنفسه.وينبغي أن يكون الإنسان غبيّا حتى لا يفهم أن الأساسي من الدستور، إن لم نقل الدستور كلّه جاهز، وأن الحاجة إلى اللجنة لا تتعدّى الحاجة إلىغطاء لمناورة قيس سعيد لا غير. وهو ما يفسّر عدم الحاجة لا إلى طول وقت ولا إلى توسيع المشاركة لغير الموالين فسعيد هو الشعب والشعب هو سعيّد، وهو في كل الحالات صاحب القرار الأوّل والأخير.

إن بقيّة المسار “الدستوري” تؤكّد الطابع الشكلي للعملية برمّتها أي الطابع الشكلي للحوار المزعوم وللدور البهلواني/الكراكوزي للمشاركين فيه. لقد قدّم “مشروع الدستور”  إلى قيس سعيد يوم 20 جوان 2022 وسيبقى طيّ الكتمان حتّى يوم 30 جوان منتصف الليل ليعرض على العموم لمدّة 48 ساعة فقط للاطلاع والدراسة وتقرير الموقف منه والتسجيل، بالنسبة إلى الأطراف الراغبة في المشاركة في الحملة، لدى “الهيئة الانتخابيّة” مع تحديد ما إذا كانت ستقوم بالحملة بـ”نعم” أو “لا” وبالطبع فهذه الأطراف المسجلة هي الوحيدة التي يحق لها القيام بالحملة. أمّا دعاة المقاطعة، وغير المسجلين في الحملة، فهم مقصيّون ولا حقّ لهم في المشاركة في الحملة وإن قاموا بشيء ما فهم يعاملون كمجرمي حق عام. كلّ هذا يمثّل في حدّ ذاته مهزلة إذ كيف يمكن تحديد موقف من دستور في وقت قصير كهذا؟ولماذا حصر المشاركة في الحملة في القابلين بالمشاركة في الاستفتاء فقط ومنعها على المقاطعين وتهديدهم بالسّجن؟ وكيف يمكن للمواطن/ـة أن يصوّت على دستور بأكمله وهو لم يناقشه بحريّة ورويّة؟ وبأيّ حق تمنح أقلية نفسها حقّ التفكير وبلورة الدستور مكان الغالبية الساحقة من المجتمع؟

لقد جرت العادة في المناخات الديمقراطية عرْض الدساتير للنقاش لمدّة معقولة لا تقلّ أحيانا عن ثلاثة أشْهر لكي يتمكّن الناس من الاطّلاع على الدستور ومناقشته وتكوين رأي حوله. وفي بعض التجارب تجاوزت مدّة النقاشات الشعبية للدستورالعام  وتمّ تجميع المقترحات التي قدّمها المواطنات والمواطنون عبر “جلسات عموميّة”(des états généraux) وتضمينها في الدستور الجديد قبل عرضه على الاستفتاء.كما جرت العادة فسح المجال لكلّ القوى للمشاركة في الحملة سواء بالنسبة إلى الذين يريدون الإدْلاء بأصواتهم بنعم أو لا أو بالنسبة إلى الذين يريدون الدّعوة إلى المقاطعة. أما قيس سعيد فقد أغلق الباب أمام كل نقاش حر ناهيك أن الإعلام نفسه لن يتمتّع بهذه الإمكانية. وليس من الصّعب إدراك هدف قيس سعيد وهو تمرير استفتائه ودستوره بكلّ الوسائل. وكما أنه اعتبر الاستشارة الفاشلة نجاحا واعتمدها أساسا للاستفتاء فهو سيعتبر الاستفتاء ناجحا حتى لو شاركت فيه أقلّية قليلة ليعتمده أساسا للانتخابات التي أعلن تاريخها مسبقا (ديسمبر 2022) دون اعتبار لإمكانية فشل الاستفتاء لأنه عارف مسبقا أنه سيفرضه بالقوة.مع العلم أن قيس سعيد لم يطرح مناقشة القانون الانتخابي على “الحوار الوطني” وإنما ترك الأمر له وحده فهو الذي سيكتب القانون الانتخابي ويصدره بمرسوم دون أن يشاركه أو يناقشه فيه أحد.

كل الظروف مهيّأة للتزوير

إنّاستفتاء قيس سعيد تزوير مفضوح، فقد أعدّ كل الظروف للتلاعب بالإرادة الشعبية وتزويرها وتحويل الاستفتاء إلى عملية تحيّل ومبايعة لشخصه. ففي المرسوم الذي أصدره لم يحدّد عتبة أي تحديد نسبة مشاركة لاعتبار الاستفتاء صالحا ومقبولا. ففي فرنسا مثلا يعتمد الاستفتاء إذا كانت نسبة المشاركة لا تقل عن 50 في المائة. ولا يعتبر الاستفتاء ناجحا إلا إذا كانت نسبة التصويت بنعم لا تقلّ عن نصف المشاركين (أي ربع الناخبين المسجّلين)، وفي استفتاء جنوب السودان قبل سنوات حدّدت العتبة بـ60 في المائة. ولكن قيس سعيد تعمّد عدم ضبط أيّة عتبة، أوّلا خوفا من ضعف المشاركة كما حصل في الاستشارة،وثانيا لكي يمرّر الاستفتاء حتى لو شاركت فيه نسبة ضئيلة لا تعكس بالمرّة الإرادة الشعبية.فقد جاء في المرسوم أن الاستفتاء يعتبر ناجحا إذا فاق عدد الأصوات بـ “نعم” عدد الأصوات بـ”لا” بقطع النظر عن نسبة المشاركة.

بالإضافة إلى ذلك فقدعيّن قيس سعيّد بنفسه هيئة الانتخابات التي ستشرف على الاستفتاءوجعلها تحت وصايته. كما سيطر بالكامل على السلطة القضائيةومنح نفسه سلطة إعفاء القضاة بمراسيم،وألغى الهيئة الوقتيّة لمراقبة دستورية القوانينونسف هيئة مكافحة الفساد، بعد أن حلّ البرلمان واستملك السلطة التشريعية وصار يحكم بالمراسيم غير القابلة للطعن، وأقال الحكومة وعيّن توابع في خدمته، ودجّن الإعلام العمومي واستخدم القضاء العسكري في محاربة خصومه وغيّر العديد من الولّاة والمعتمدين وعوّضهم بموالين له.وفي نفس الوقت ظهرت ميليشيات واقعيّة (جماعات تهاجم اجتماعات معارضي قيس سعيد) وافتراضية تشهّر وتشوّه وتخوّن وتهدّد، عبر صفحات مدفوعة الأجر، كل من ينتقد قيس سعيّد.

لقد دمّر قيس سعيد كل الضمانات الممكنة لتحقيق استفتاء ديمقراطي أو حتّى شبه أو نصف ديمقراطي ووفّر كلّ الشروط التي تفتح الباب واسعا أمام التزوير. فلئن لم تكن يوما الانتخابات السّابقة كاملة الشفافية وإن لم تكن يوما هيئة الانتخابات المنحلة تامّة الاستقلالية، إلاّ أنّ ما يقوم به سعيّد أمر غير مسبوق، يذكِّرنا بعهد الديكتاتورية ونتائج الـ99%. وفي كلمة فإن هذا التمشّي لا يمكن أن يؤدّي منطقيّا إلى قيام جمهورية جديدة، ديمقراطية، أفضل من الجمهورية السّابقة، الفاشلة والمتعفّنة. إن هذا التمشّي لا يقود إلّا إلى قيام نظام استبدادي جديد. لقد اتّهم قيس سعيد منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 بالمحاصصة، وهي بالفعل كذلك، لا ليتجاوزها بإرساء منظومة تمثّل حقًّا الشعب بل ليحتكر الحكم وحده، ليصبح الحكم “حصّة” واحدة له وحده، لا يتقاسمه لا مع أحزاب أو منظمات أو سلطات تشريعية أو قضائية أو هيئات دستورية، فهو “الحاكم بأمره”.

وما من شكّ في أن ما رشَح عن مضمون الدستور الجديد، خاصة على لسان رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية، الصادق بلعيد، وفيما ورد في نسخة المشروع التي نشرتها جريدة المغرب في عددها الصادر بتاريخ 15 جوان 2022 يبيّن أننا لسنا فعلا أمام تأسيس جمهورية جديدة وإنما دكتاتورية جديدة. فالرئيس سيكون “الحاكم بأمره”، فوق كل “السلطات” التي ستُنْزع عنها هذه الصفة لتتحوّل كما قال الصادق بلعيد، الذي اعتبر نظرية مونتسكيو حول فصل السلطات “تجاوزها الزمن”، إلى “وظائف”. فالرئيس سيكون “أكبر الموظّفين” وتحته “موظفو” الحكومة و”البرلمان” (أي النواب) والقضاء الذين يأتمر جميعهم بأوامره. وبالطبع لن تكون ثمة هيئات دستورية رقابية منصوص عليها في الدستور ليتصرف الحاكم بأمره كما يشاء. أماالحريات ومنها الحرية النقابية فهي “مضمونة وفقا لما يحدده القانون” كما كان الحال في دستور 1959 الذي شكّل أداة دكتاتورية بورقيبة وبن علي. هذا هو “النظام التونسي الخصوصي” الذي تفتّقت به عبقرية قيس سعيد وخادمه الصادق بلعيد و”تجاوزا” به أفكار مونتسكيو. وهو في الواقع نظام قديم قِدم الأنظمة الدكتاتورية والفاشية القائمة على حكم الفرد الذي يجمّع كل السلطات وهو يقدَّم إلى الشعب التونسي بطِلاء “شعبوي” لم يعتده.

استفتاء لمغالطة الكادحين والفقراء

وأخيرا فإن استفتاء قيس سعيد يراد منه أيضا تحويل الأنظار عن العدوان الصّارخ على قوت الشعب بل عن ذبحه بلا رحمة وسلخه دون رأفة.فهل تغيير الدستور هو اليوم أولويّة الناس الذينيعانون من الخصاصة والبطالة والفقر والمرض والعطش والارتفاع الجنوني للأسعار وندرة عدد من المواد الأساسية وتعفّن المحيط؟ هل هو أولوية الاقتصاد الذي يعاني من الرّكود والكساد؟ هل هو أولوية الميزانية التي تعاني من العجز وتفاقم المديونيّة؟ إن خدم قيس سعيد يروّجون: “دعوا الرئيس يركّز نظامه السياسي وبعد ذلك سيهتمّ بالاقتصاد”. ولسائل أن يسأل ماذا فعل قيس سعيد منذ وصوله إلى الرّئاسة وخاصة منذ انفراده بالحكم غير مواصلة تدمير حياة الشعب؟ لقد رفض تطبيق القانون 38 الخاص بتشغيل من طالت بطالتهم.كما رفض إصدار أي مرسوم لصالح الكادحين والفقراء سواء تعلّق الأمر بالتشغيل أو بالحد من غلاء الأسعارأوضرب الفساد والاحتكارأو توفير الدواء والمواد الأساسية المفقودة؟. وماذا هو فاعل الآن غير التخطيطمع حكومته التي لا تتمتع بأية شرعية لفرض إملاءات صندوق النقد الدولي (رفع الدعم، تجميد الأجور، وقف الانتدابات، خوصصة المنشآت العمومية…) التي ستعمق التبعية وتفاقم المديونيةوبؤس الشعب وفقره وهو ما يفسّر الهجوم على منظمة حشاد وشيطنتها وتجريم تحركاتها؟ وإلى ذلك كلّه فإن الطابع المخادع والمناور لما يفعله سعيّد وصنيعته المكلف بلجنة الدستور،  يظهر أيضا من خلال تخصيص الجزء الأول من الدستور للحديث عن الاقتصاد والتنمية للإيهام بالعناية بمشاغل الشعب بينما المقصود بهالتغطية على تلك الإملاءات التي تستعد حكومة التعليمات لتنفيذها ودسّ أركان النظام الاستبدادي وسط الكلام الإنشائي عن حقوق الشعب الاقتصادية والاجتماعية. إن الاستبداد لا يصنع الرفاهية ولا يحسّن حياة الشعب وإنما هو مجعولليدمّرها لصالح حفنة الأثرياء المحلّيين والأجانب الذين تكمن مصلحتهم في سياسة العصا الغليظة،مقابل بيع الوهم للكادحين والفقراء ملفوفا بعبارات شعبوية قمّة في الصلف والنفاق.

مقاطعة الاستفتاءلعزل الانقلاب وإسقاط مشروعه

خلاصة القول إن ما يقوم به قيس سعيد هو مُناورة إضافيةلإرساء الحكم الفردي والرجوع بالبلاد إلى ما هو دون حتى تلك الديمقراطية التمثيليّة المتعفنة التي كانت سائدة قبل 25 جويلية 2021. إنّ التمشّي من أوّله باطلٌ،فالتقرير للرئيس وما على الرعيّة سوى التنفيذ. فباسم الشعب و”الدستور الجديد”، سيجمع الرّئيس كلّ السلطات، هو القضاء وهو القدر، هو الشعب وهو الوطن،هو التشريع وهو التنفيذ،هو الخير ومعارضوه هم الشرّ،هو الخصب ومعارضوه هُم الجدب، هو النّقاء ومعارضوه أصل الفساد… في “الجمهورية الجديدة”،أي ما بعد الاستفتاء لا فائدة من التعدّديةولا من حرية التعبير والإعلام ولا جدوى من الاختلاف، فالمعارضة مؤامرة والتحزّب خيانة والحريّات خُدعة والنقابات مأجورة والإعلام مرتزق …وفي كلمة فإن الاستفتاء على الدستور هو استفتاء لتشريع حكم فردي مستبدّ بغطاء شعبي. وهو، بعبارة أخرى، الانتقال من مرحلة “الحزب-الدولة” إلى مرحلة “الفرد-الدولة”. ولذلك فإن الموقف السّليم هو مقاطعة هذا الاستفتاء لأنه مبني من البداية على باطل، هو حلقة من حلقات انقلاب سافر على المسار الثوري والمكتسبات الديمقراطية ولا يمكن بأي شكل من الأشكال قبوله.

إن المشاركة بشكل عام، سواء بالتصويت بـ”نعم” أو بـ”لا” لا يكون لها معنى إلا في مناخ ديمقراطي، توجد فيه ضمانات تعطي النتائج مصداقية، ومن هذه الضمانات استقلالية الهيئة الانتخابية، حياد الإدارة، استقلالية القضاء، حياد الإعلام العمومي خاصة، النزاهة، الشفافية، وجود ملاحظين ومراقبين الخ… لكن كل هذه الضمانات كما بيّنّا، غير متوفّرة في استفتاء 25 جويلية وهو ما يجعل التزوير سيّد الموقف. إن قيس سعيّد لم يقم بانقلاب لكي يخسر الاستفتاء، لذلك فإن المشاركة فيه موقف خاطئ، يخدم الانقلاب ولا يخدم الديمقراطية. إن المشاركة حتى إن كان الهدف منها التصويت بـ”لا”تشرّع الانقلاب بكافة حلقاته وهو ما يبحث عنه قيس سعيد. كما أنها تقوي نسبة المشاركة في الاستفتاء وهو ما يبحث عنه قيس سعيد الذي يجنّد كل أجهزة الدولة وأدواتها الإعلامية للحث على المشاركة حتى لا تتكرر له مهزلة “الاستشارة الوطنية” كما ذكرنا أعلاه، أما فيما عدا ذلك فهو يملك كل الوسائل لتزوير النتائج. لذلك واهم من يعتقد أنه قادر في مثل هذه الظروف على قلب الموازين بالمشاركة في الاستفتاء والتصويت بـ”لا”. فـ”اللّاء” ستتحول إلى “نعم” ولا توجد أي هيئة مستقلة لتتصدى لذلك بل الهيئة الحالية نُصّبت للتزوير وليس لضمان شفافية الاستفتاء ومصداقيته.

إن مقاطعة الاستفتاء وحدها هي القادرة على خلق الفراغ حول الانقلاب وإضعافه ونزع كل شرعية عن قيس سعيد وخلق الظروف الملائمة لإسقاط نظامه وفتح آفاق جدية للنهوض بمجتمعنا ووطننا دون العودة لا إلى وضع ما قبل 25 جويلية 2021 ولا إلى وضع ما قبل 14 جانفي 2011. ومن البديهي أنّ المقاطعة لن تكون ناجعة وفعّالة إلّا إذا كانت نشيطة: دعاية مكثفة وعمل ميداني لفضح المهزلة وإقناع غالبيّة التونسيّات والتونسيّين بعدم الذهاب يوم 25 جويلية إلى مراكز الاقتراع وخلق الفراغ حولها. إن تونس “الشهيدة” حقّا في هذه الأوقات الصّعبة لا تحتاج إلى دستور جديد يعود بها إلى الوراء، إلى الاستبداد قرين الفقر والبؤس والعمالة، وإنما هي في حاجة إلى خيارات جديدة تربط مع أصول الثورة التونسية وتكرّس سيادة الشعب على الدولة وعلى الثروة لتحقيق التحرر الفعلي لوطننا من الهيمنة الاستعمارية الجديدة بمختلف أشكالها والديمقراطية الشعبية لتمثيل غالبية المجتمع الكادح والمفقّر في كافة مؤسسات الحكم عبر الانتخاب النزيه، والعدالة الاجتماعية التي لا معنى لها دون توفير الشّغل لطالبيه نساء ورجالا، والصحّة والتعليم الراقيَيْن والمجانيّين والسّكن اللائق والنقل والثقافة والترفيه والبيئة السليمة للجميع.

كلمةأخيرة لتنشيط الذاكرة: في عام 1987 اعتبر حزب العمال ما قام به بن علي يوم 7 نوفمبر انقلابا وعارضه ونبّه التونسيّات والتونسيين إلى مخاطره…وقد أنصف التاريخ حزب العمال الذي كان موقفه في البدايةأقليّا…واليوم كما بالأمس ما تنفكّ الوقائع تؤكد أن ما قاله حزب العمال (وأصدقاء آخرون) عن انقلاب سعيد سليم… وسيتكفّل القادم من الأيام بتأكيد ذلك ليصبح الموقف الأقلّي أغلبيّا…إن قيس سعيد وخدمه وعلى رأسهم “رئيس لجنته” سيحاسبون، بكل تأكيد، مرّتين الأولى من شعبهم يوم يسقط الانقلاب والثانية من التاريخ يوم يتناول أفعالهم بالتّقييم.

قاطعوا الاستفتاء المهزلة

ولا تكونوا شهود زور….

تونس في 20 جوان 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING