الشارع المغاربي – محاولة اغتياله : سعيّد يشير إلى النهضة ! /بقلم :معز زيّود

محاولة اغتياله : سعيّد يشير إلى النهضة ! /بقلم :معز زيّود

27 أغسطس، 2021

الشارع المغاربي: هل هناك حقّا مخطّط لاغتيال رئيس الجمهوريّة؟ هذا ما أكّده سعيّد منذ أيّام!، ونظرا إلى الخطورة القصوى لهذا التصريح، فإنّه من المستبعد أن يكون مجرّد ورقة ضغط سياسيّة مثلما يروّج خصومه. مَن المستفيد إذن من استهداف رأس الدولة بأقصى جريمة إرهابيّة ممكنة؟

من الطبيعي ألّا تكون كبرى أسرار الدولة وخفايا أمنها القومي مثار حديث عامّة النّاس، باعتبار أنّ الكشف عن تفاصيلها قد يُلحق أضرارا كبرى بالبلاد وبكافّة مؤسّساتها. ومع ذلك فإنّه يُفترض منذ لحظة الكشف عن وجود مخطّط لتصفية رئيس الدولة أن ينطلق تحقيق جادّ وسريع من أجل المحاسبة الصارمة وردع من يجرؤ على الزجّ بتونس في دوّامة عميقة من العنف الدموي وحالةٍ من الفوضى لا يمكن التكهّن بنهايتها ومآلاتها وعواقبها…

أصابع واضحة! لم يطلق الرئيس قيس سعيّد مجرّد كلمات عابرة في مهبّ رياح التجذابات والاستفهامات التي أفرزتها قرارات 25 جويليّة غير المتوقّعة حينها، بل اختار موعدا محدّدا للبوح بها واستخدم عبارات ومصطلحات انتقاها بدقّة لتوجيه أذهان التونسيّين إلى وجهةٍ بعينها. جاء هذا التصريح الخطير بمناسبة التوقيع على اتّفاقيّة منح مساعدات للفئات الأكثر تضرّرا من جائحة كورونا. اتّفاقيّة جمع عددا من كبار مسؤولي القطاع المالي العمومي لتوقيعها. والرسالة الضمنيّة تقول: هذا ما يبذله الرئيس من جهود لتحميل مسؤوليّ الدولة تأمين وصول المساعدات إلى أصحابها، وفي المقابل أنظروا إلى ما يفعله من يدّعون المرجعيّة الإسلاميّة. إنّهم يُدبّرون المكائد ويخطّطون للاغتيال ويفكّرون في سفك الدماء!. أليس هذا ما نفهمه من ربطه المباشر بين الصفة والفعل، أي بين ذوي المرجعيّة الإسلاميّة ووجود تخطيط لاغتياله. قال حرفيّا ما يلي: «بالنسبة إلى الذين يقولون إنّ مرجعيّتهم هي الإسلام… أين هم من الإسلام؟ ومن مقاصد الإسلام؟ كيف يتعرّضون لأعراض النساء وأعراض الرجال ويكذبون، وبالنسبة إليهم الكذب من أدوات السياسة، أقول لهم وأعرف ما يدبّرون: إنّي لا أخاف إلّا الله ربّ العالمين (أعاد هذه العبارة ثلاث مرّات)، بالرغم من محاولاتهم اليائسة التي تصل أو يفكّرون في الاغتيال، يفكّرون في القتل ويفكّرون في الدماء»…

من الواضح، إذن ودون أدنى مواربة، أنّه يقصد جماعة الإسلام السياسي وتحديدا حركة النهضة والمتشدّدين المرتبطين بها من داخل البرلمان وخارجه. فهي الأكثر تضرّرا من قرارات 25 جويلية الماضي، بعد إقدام رئيس الجمهوريّة على تجميد مجلس النوّاب ورفع الحصانة عن نوّابه، في وقت كانت حركة النهضة تستعدّ تحثّ الخطى لتشكيل حكومة سياسيّة برئاسة هشام المشيشي، ظنّا منها أنّها كانت آنذاك في أوجّ قوّتها وأنّ الرئيس قيس سعيّد يمرّ بأقصى درجات الضعف والاستضعاف.

وما من شكّ أنّ قيادة حركة النهضة قد قرأت رسالة سعيّد جيّدا واستوعبتها أكثر من غيرها لأنّها تبدو أمام الرأي العام المقصودة قبل سواها بتلميحات رئيس الدولة. وهو ما دفعها إلى نشر بيانيْن متتاليين على إثر كلمة سعيّد المذكورة، للإعراب عن أمانيها بسلامة الرئيس وتنصّلها من أيّ جهة قد تستهدفه أو تنال من عرضه أو أعراض عائلته. لم تُقدم حركة النهضة في بيانيْها على التشكيك في تصريح رئيس الدولة بشأن وجود مخطّط لاغتياله بأيّ شكل من الأشكال. ومع ذلك قرأنا تدوينات لبعض قياداتها يفنّدون وجود مخططات الاغتيال المذكورة إلّا في ذهن قيس سعيّد. فقد أعرب علي العريض القيادي البارز في الحركة عن خشيته «من أن تتّخذ هذه التصريحات غطاء لمزيد النيل من الحريات والحقوق بمقتضى مجرّد تعليمات وبعيدا عن القانون والمؤسّسات». والحال أنّ العريض، الذي يتحمّل مسؤوليّة سياسيّة في اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي زمن كان وزيرا للداخليّة ورئيسا للحكومة، يُفترض أن يكون في موقع من يعي أكثر من غيره ضرورة الأخذ على محمل الجدّ تلك التصريحات المتعلّقة بوجود تخطيط لاغتيال رئيس الدولة. ولا ندري، في هذا الصدد، إنْ كانت قيادة حركة النهضة قد باركت ما يسود في صفوفها من توزيع للأدوار بين مواقفها الرسميّة ومواقف بعض قياداتها، ولئن كان ذلك ما يُستشفّ من لغة الخطاب المتناقض كليّا.

سوابق ومحاذير! جريمة التخطيط لاغتيال رئيس الدولة لا يمكن أبدًا أن تُدرج ضمن ما قد ينسجه الخيال، لاعتبارات معلومة وأخرى قد لا تخطر إلّا على بال من خطّط ومن نفّذ. ولا أدلّ على ذلك من تعدّد جرائم الاغتيال السياسي للعديد من زعماء العالم الذين سبق أن سقطوا قتلى جرّاء فشل أو تواطؤ مخابراتي…

ويكفي أن نُشير إلى استهداف موكب رئيس أكبر دولة في العالم، وهي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، انتهت باغتيال الرئيس الديمقراطي جون كينيدي عام 1963. وهل ننسى كذلك حادثة المنصّة الشهيرة التي شهدت قيام عناصر من تنظيم «الجماعة الإسلاميّة» اغتيال الرئيس المصري أنور السادات يوم 6 أكتوبر 1981؟ وعلى مقربة من حدودنا في الجزائر، كانت بشائر الإصلاح وتجاوز الأزمة السياسيّة عظيمة لدى الشعب الجزائري سنة 1992 عند استقدام المناضل محمد بوضياف من المغرب لرئاسة المجلس الأعلى للدولة. حدث ذلك تحديدا بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد وإبطال الجيش لنتائج الانتخابات وحلّ «الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ»، لكنّ الرئيس بوضياف لم يلبث أن أغتيل يوم 29 جوان 1992 تحت عدسات كاميرا التصوير بعد أن استكمل عبارته الأخيرة قائلا إنّ «الإسلام يحثّ على العلم». كان معارضو الرئيس الجزائري الراحل يتّهمونه آنذاك بمناصرة العلمانيّين وبناء مجده الذاتي، مع أنّه كان يركّز في كلّ خطبه على الإصلاح ومحاربة الفساد، وهو الذي قال يوم تنصيبه رئيسا: «جئتكم اليوم لإنقاذكم وإنقاذ الجزائر وأستعد بكلّ ما أوتيت من قوّة وصلاحيّة لأن ألغي الفساد وأحارب الرشوة والمحسوبيّة وأهلها وأحقّق العدالة الاجتماعيّة من خلال مساعدتكم ومساندتكم التي هي سرّ وجودي بينكم اليوم وغايتي التي تمنيّتها دائما». ومع أنّ مبارك بومعرافي الذي نفّذ عمليّة الاغتيال ينتسب إلى المؤسّسة العسكريّة برتبة ملازم، فإنّ خلفيّات هذه الجريمة السياسيّة بقيت من ضمن الأسرار الدفينة الغامضة للدولة الجزائريّة، في ظلّ تبادل تُهم تجنيد منفّذ عمليّة الاغتيال بين الجيش والجماعات الإسلاميّة المتطرّفة. وفي كلّ الأحوال، ألا نُلاحظ تشابها بين خطاب بوضياف المتّصل بمكافحة الفساد والفاسدين وإقامة العدل وتحقيق إرادة الشعب وما درج الرئيس قيس سعيّد على ترديده في مختلف تصريحاته حول محاسبة الفاسدين استنادا لما يحظى به من تأييد شعبي؟!.

لا يخفى كذلك أنّ الإرهابيّين التونسيّين لهم تقاليد متجذّرة في اغتيال القيادات الوطنيّة في أكثر من قارّة. فالأمر لا يقتصر على اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وإنّما سبقهما إقدام إرهابيّيْن تونسيّيْن من عملاء جماعة طالبان على اغتيال الزعيم الأفغاني شاه مسعود في عمليّة انتحاريّة بشعة باستخدام كاميرا التصوير.

لا يخفى أنّ تاريخنا حافل بالاغتيالات السياسيّة لقادة الدول، بل وانطلق ذلك فجر تأسيس الدولة الإسلاميّة، بدليل اغتيال ثلاثة من ضمن أربعة خلفاء راشدين. والمقصود بهذا المثال أنّ المجتمع العربي الإسلامي لم تُفارقه الاغتيالات السياسيّة لقادته وحُكّامه منذ فترات نشأته الأولى إلى اليوم ولاعتبارات جدّا متشعّبة.

ما لا يقبل التشكيك لن نتوقّف عند ما أشيع مؤخرا من معلومات عن تمكّن قوات مكافحة الإرهاب من اعتقال عنصر إرهابي كان يُخطّط لاغتيال رئيس الجمهوريّة خلال زيارة مرتقبة كان سيؤدّيها إلى إحدى مناطق الساحل التونسي، باعتبارها معلومات غير رسميّة وغير مؤكّدة. وفي المقابل، فإنّه إن كنّا لا نعرف بالضبط متى اكتشفت أجهزة المخابرات التونسيّة وجود مخطّط الاغتيال المذكور، باعتبار أنّ ذلك ينبغي أن يستند لا إلى آراء وتحاليل وإنّما إلى معطيات في منتهى السريّة والخطورة، فإنّه لا يمكن أيضا التشكيك في تأكيد رئيس الجمهوريّة نفسه لأكثر من مرّة وجود مخطّط لاغتياله. فقد سبق له تأكيد الأمر ذاته بتاريخ 15 جويلية 2021، في كلمة ألقاها أمام عدد من رؤساء الحكومات السابقين، أي قبل عشرة أيّام من إعلان قراراته المتعلّقة بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن نوّاب البرلمان بعد أن كانت تحمي بمقتضى الدستور الفاسدين والتكفيريّين منهم. قال يومها حرفيّا قاصدا خصومه المعلومين: «من كان وطنيّا مؤمنا بإرادة شعبه لا يذهب إلى الخارج سرّا بحثا عن طريقة لإزاحة رئيس الجمهوريّة بأيّ شكل من الأشكال، وأعي جيّدا ما أقول بأيّ شكل من الأشكال حتّى بالاغتيال».

وبصرف النظر عن المقاصد الحرفيّة لما كشفه رئيس الدولة، فإنّه ينبغي الوعي بأنّ هناك جهات متعدّدة بات من مصلحتها التخلّص من رئيسٍ قد يستهدف مصالحها بما جمعه من صلاحيّات تنفيذيّة وتشريعيّة واسعة ولو مؤقّتًا، أكانت أحزابا أم شخصيّات سياسيّة أم جماعات إرهابيّة تتربّص بالبلاد أم محاور إقليميّة ودوليّة أم لوبيّات فساد متغوّلة باتت على مرمى حجر من اقتناصها… وممّا يُؤلّب العناصر التي قد تحاول استهداف الرئيس قيس سعيّد أنّ الارتفاع الصاروخي لشعبيّته بات واقعا لا يقبل التشكيك، ولاسيما بعد قرارات 25 جويليّة. ومن ثمّة، أمست كلّ الأسباب مجتمعة تؤكّد ضرورة الملازمة الدائمة للحيطة والحذر الشديد لاحتمال اختراق القوّات المسلّحة الأمنيّة والعسكريّة أو التخطيط لاستهداف رئيس الجمهوريّة في أيّ مكان يقصده. فمن أوجب واجبات القائمين على أمن الرئيس أن يستعدّوا لأسوأ الفرضيّات وأشدّها خطرا على استقرار البلاد بأسرها والتعاطي بجديّة مع التهديدات والمعلومات الأمنيّة ذات العلاقة والاستعداد لكلّ السيناريهات المحتملة. وهو ما من شأنه أن يُجنّب تونس أوضاعا أكثر سوءا وتدهورا ولا يجهض فرصة تاريخيّة تقيها من اجترار واقع سياسي كتم أنفاسها، دون رجعةٍ عن صونِ مسار ديمقراطي اختاره شعبها…

*نشر في أسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة يوم 24 أوت 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING