الشارع المغاربي – مخاطر عودة الرقابة المسبقة على الإعلام: القضاء فوق الدستور ! - بقلم: معز زيّود

مخاطر عودة الرقابة المسبقة على الإعلام: القضاء فوق الدستور ! – بقلم: معز زيّود

23 مارس، 2019

الشارع المغاربي : على الرغم من أنّ حريّة الرأي والتعبير والإعلام تبدو أهمّ المكاسب القليلة التي حصّلها التونسيّون بعد 2011، فإنّ التطوّرات القضائيّة الأخيرة المتّصلة بقضيّة وفاة الرضّع بأحد أشهر مستشفيات العاصمة قد شكّلت تهديدا جسيمًا لهذه الحقوق الأساسيّة المنصوص عليها في دستور الجمهوريّة الثانية…

 

بلغ الترهيب الفكري المعلن منذ أسابيع، في قضيّة المدرسة السلفيّة بالرقاب، حدّ “تكفير” عدد من الصحفيّين. وتتمثّل خطورة اعتماد المرجعيّات التكفيريّة في ما تستبطنه من دعوات ضمنيّة إلى إقامة “حدّ الكفر” على المخالفين في الرأي وتصفيتهم جسديّا. ولئن بدا هذا الترهيب الفكري المكشوف غير مستغرب من جماعة تتوهّم امتلاك الحقيقة الواحدة، فإنّ النزوع إلى التعتيم وتكميم الأفواه قد صدر في القضيّة الكارثيّة لوفاة الرضّع عن قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس نفسه، حين اتّخذ قرارًا استباقيّا بمنع بثّ تحقيق صحفي بقناة “الحوار التونسي”. وباعتبار أنّ هذا القرار قد نبع هذه المرّة عن السلطة القضائيّة بوصفها إحدى أهمّ مؤسّسات الدولة، فإنّه يُنبئ بمواصلة اجترار عقليّة سابقة للثورة، لا تتردّد في انتهاك حقّ دستوريّ أساسيّ. وهو ما يستبطن خلفيّات وممارسات مهنيّة موروثة من الأهميّة الوقوف عنها.

الحقّ الدستوري والموروث الشمولي!
كان من الطبيعي والمنتظر أن يُثير القرار الأخير لقاضي التحقيق بفرض رقابة مسبقة على برنامج تلفزيوني سيلا من الانتقادات، أهمّها ما صدر عن الهيكل التعديلي المعني حصريا بتنظيم القطاع السمعي والبصري والمتمثّل في “الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري”. وقد اعتبرت هذه الهيئة أنّ القرار القضائي المذكور يُعدّ “سابقة خطيرة تهدّد بنسف ما تحقّق من مكاسب في مجال حرية التعبير والإعلام”، داعية إلى التراجع عن هذا الإجراء المرفوض عمليّا ومبدئيّا. ويبدو ذلك طبعا موقفا في غاية الوضوح، لا فقط لأنّه يستند إلى مقتضيات المرسوم عـ116ـدد لسنة 2011 الذي أحدث الهيئة المذكورة، وإنّما خصوصا إلى مبادئ دستوريّة واضحة ولا غبار عليها.
وتجدر الإشارة ههنا إلى أنّ الفصل 31 من الدستور ينصّ على أنّ “حريّة الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة”. ولا يكتفي بذلك بل يؤكّد حرفيّا في الفقرة الثانيّة من الفصل الدستوري ذاته على أنّه “لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريّات”. وهذه الفقرة تحديدًا تجعل القرار القضائي المذكور غير دستوريّ، بما يضعه في حكم الباطل، وإن كان من الضروري تطبيقه في دولة القانون، ومناهضته بالسبل القانونيّة دون الالتجاء إلى منطق الاستقواء من هذه الجهة أو تلك. ومن ثمّة فإنّ هيئة الاتصال السمعي والبصري لم تتردّد في اعتبار قرار قاضي التحقيق بكلّ وضوح “عودة إلى آلية الرقابة المسبقة المرتبطة تاريخيا بالنظام الدكتاتوري”. ولتسمية الأشياء بأسمائها يبدو أنّ هذا القرار ليس مجرّد عودة إلى ممارسات ما قبل الثورة، بقدر ما يبدو استمرارا لها.

وفي هذا المضمار، من الأهميّة الإشارة إلى أنّ منظوري الجسم القضائي في شتّى بلدان العالم، وخصوصا في الدول ذات الإرث الشمولي والاستبدادي، ينزعون إلى اعتبار إقبال وسائل الإعلام على تداول المعطيات والمعلومات ذات الصلة بالقضاء بمثابة “أنشطة خطرة” على سير العمل القضائي. ولا يخفى أنّ ذلك إنّما يعكس تأثّرًا بموروث غير ديمقراطي سابق يُرجّحُ كفّتي السريّة والتكتّم المبالغ فيهما، على حساب حريّة التعبير والممارسة الصحافيّة وحقّ وسائل الإعلام، ومن ورائها الجمهور، في النفاذ إلى المعلومات…
ومن المعلوم كذلك أنّ هذه العلاقة الملتبسة بين القضاء والإعلام تعود إلى بعض الاعتبارات الموضوعيّة، على غرار الخشية من خرق وسائل الإعلام لـ”قرينة البراءة” ومبادئ “المحاكمة العادلة”، فضلا عن احتمال التأثير في السير العادي للقضاء والمسّ من استقلاليّته من خلال انتهاك سريّة التحقيق الجنائي. وفي المقابل من الأهميّة التذكير بأنّه لا مجال اليوم لتكريس منظومة قضائيّة عادلة في غياب حريّة التعبير والصحافة. فالقضاة أنفسهم يدركون أنّ أيّ سلطة لا تجد قوى مقابلة، ولو اعتباريّا، تردع جموحها إلاّ ونزعت إلى تجاوز صلاحيّاتها وإضفاء بعد مطلق على أحكامها. ولا يعني ذلك طبعا أن تجعل وسائل الإعلام نفسها سلطة موازية للتشريع والإفتاء، لكن من واجبها المهني أن تُسلّط الأضواء بالإخبار والتحليل على خفايا القضايا وما قد يشوبها من غموض، دون الكشف عن جوانب من التحقيق الجنائي قد تؤثّر في سير القضيّة ذات الصلة.
منطق قطاعي
لم يكن غريبا، في ظلّ الجدل المحتدم بشأن هذه القضيّة، أن تواجه جمعيّة القضاة التونسيّين سيل الانتقادات التي استهدفت القرار القضائي المذكور بالاصطفاف إلى منظوريها، دون اعتبار لما جاء في الدستور بعبارة لا تحتمل أيّ تأويل في عدم جواز “ممارسة الرقابة المسبقة” على “حريّة الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر”. فقد عبّر القضاة، المجتمعون يوم الأحد الماضي بمدينة الكاف في نطاق المجلس الوطني لجمعيّة القضاة التونسيّين، عمّا أسموه بـ”رفضهم المطلق لجميع الضغوطات والتهديدات المسلّطة عليهم”. كما اعتبر المجلس الوطني في لائحته أن ذلك يُعدّ “تعدّيا صارخا على استقلال السلطة القضائية والقرار القضائي”.
من حقّ القضاة طبعا الدفاع بكلّ السبل المشروعة عن مهنتهم النبيلة وعن منظوريهم وأماكن عملهم، ولاسيما في ظلّ استهداف بعض الخارجين عن القانون لحرمة المحاكم وأهلها. وهو ما يوجب التضامن المبدئي غير المشروط مع القضاة، باعتبار أنّ “القضاء سلطة مستقلّة تضمن إقامة العدل، وعلويّة الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريّات”، وفق الفصل 102 من الدستور. ومع ذلك فإنّه من الضروري أيضا أن ينعتق القضاة من المنطق القطاعي (Corporatisme) ويلتزموا هم أنفسهم بهذه المبادئ ذاتها، دون تكريس عمليّة انتقاء من أجل تبرير تأويلات لا تحترم علويّة الدستور ولا تأخذ بالروح التحرّرية لدستور 2014، على غرار ما كان سائدا زمن العمل بالدستور الصادر عام 1959. فالفصل 109 من الدستور الذي “يُحجّر كلّ تدخّل في سير القضاء” لا يُبيح إطلاقا وبأيّ حال من الأحوال ممارسة رقابة مسبقة على حريّة الرأي والتعبير والإعلام…
ويمكن أن نسوق مثالا بسيطا لما قد يصل إليه الضغوط القضائيّة في حال كان الهاجس هو الانتصار إلى قطاع دون سواه على حساب الحقّ والحقيقة. فقد سبق أن وقفتُ أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس2 من أجل نشر رسالة خطيّة وجّهها قاض إلى رئيس النظام السابق، وأدّى له فيها بخطّ يده ولاءات الطاعة، واعتبر القاضي السابق أنّ إنجازات بن علي للمنظومة القضائيّة سيذكرها له التاريخ. والمؤسف أنّه تمّ تحويل وجهة القضيّة من “الثلب” إلى “السرقة الموصوفة”. وقد شكّل ذلك طبعا مفاجأة من العيار الثقيل. فقد اتّهم الشاكي، وهو قاض سابق معروف، الصحفي بأنّه سرق رسالته الخطيّة تلك من بيته بهدف تشويهه. وهو ما يعني اتّهام الصحفي باقتحام بيت القاضي بطريقة غير مشروعة للحصول على تلك الرسالة!!!. والحال أنّ القاضي الراحل كان قد وجّه رسالته في ظروف معيّنة إلى رئيس النظام السابق، بما يعني أنّ الصحيفة حصلت عليها من مصادر أخرى، ولا يمكن للصحفي أن يكشفها، رغم ضغوط قاضي التحقيق، التزاما بأخلاقيّات المهنة الصحفيّة وكذلك بالحقوق التي يشمله بها الفصل عـ11ـدد من المرسوم 115 لسنة 2011 المتعلّق بحريّة الصحافة.
ولا شكّ إجمالا في أنّ ممارسة حريّة التعبير والخروج بها من النطاق الضيّق للتنظير هي التي تُتيح لنا اليوم القول إنّ قرار قاضي التحقيق كان خاطئا، على اعتبار أنّه قد أخلّ بمبدأ دستوريّ واضح. كما لا يُعدّ التراجع عن القرارات الخاطئة تقليلا من قيمة القاضي أو المؤسّسة القضائيّة إطلاقا، فهي الضامنة قبل غيرها لإقامة العدل دون أن تكون فوق الدستور…

صدر بالعدد الأخير من اسبوعية “الشارع المغاربي”.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING