الشارع المغاربي – وليد أحمد الفرشيشي : ثمّة اتفاق حاصلٌ لدى النخب السياسية التونسية وغيرها من الحساسيات الفكرية والأيديولوجيّة حول حقيقة أنّ نتائج الانتخابات البلدية التي شهدتها تونس أعادت تشكيل مشهد سياسي كان قد وقع تصميمهُ افتراضيًّا وفق خارطة لموازين القوى لم يقع تحديثها منذ الانتخابات التشريعيّة والرئاسية لعام 2014.
وإن شكّلت مقاطعة الناخب التونسي بلديات 2018 إحدى الإحداثيات البارزة للخارطة الجديدة، فإنّ خسارة الأحزاب السياسية الكبرى أرصدتها وصعود كيان مدني “هلامي” هو المستقلون، مثّل هو الآخر رجّات ارتداديّة داخل المشهد العام، رجّات كشفت الأوزان الحقيقية لهذه الأحزاب “الكبرى” مثلما نزعت ورقة التوت عن أحزاب أخرى، قدّمت نفسها في وقت من الأوقات على أنّها “البديل” الموضوعي للأحزاب الحاكمة. وهنا تحديدًا كشفت نتائج بلديات 2018 الغطاء نهائيّا عن “كذبتين” سياسيتين هما محسن مرزوق، الأمين العام الحالي لحركة مشروع تونس وقائد الحملة الانتخابية السابق لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، ومحمد المنصف المرزوقي، مؤسس ورئيس حراك تونس الإرادة ورئيس الجمهوريّة السابق.
محسن مرزوق: أحلام الفتى الطائر… !
ولئن سارع محسن مرزوق غداة انتهاء الاقتراع إلى نشر جملة من المغالطات لتسويق انتصارٍ وهميٍّ، حين كتب في تدوينة له أنّ “حركة مشروع تونس شاركت بصفة حزبيّة في 96 بلدية وحققت فيها نسبة 9 بالمائة وأنها ساهمت في تشكيل ودعم 105 قائمات مستقلة حققت 15 بالمائة تقريبًا دون احتساب نتائج الاتحاد المدني“، فإنّ الحصاد النّهائي للحزب لم يتجاوز حاجز الـ1.7 بالمائة، محققا 69 مقعدًا حسب القائمات المقبولة.
هذه المغالطة التي لن تكون الأولى والأخيرة في السجلّ “الخطابي” لمحسن مرزوق سفّهت ما كان أعلنهُ يوم 27 جانفي 2018 بمدينة البقالطة من ولاية المنستير بأن حزبه استعدّ لبلديات 2018 منذ مارس 2017 وأن “مشروع حزبه يمتدّ إلى سنة 2030” مؤكدًا في ذات الوقت أنّ بقية الأحزاب السياسية تفتقر لبرامج سياسية.
وبعيدًا عن القراءة المتسرّعة لوقائع ليلة السقوط الكبير، بدا واضحا أنّ مشروع محسن مرزوق انتهى رسميّا في سنة 2018 أي مع الانتخابات البلديّة، رغم أنّ حزبه يزخرُ بالكفاءات السياسية التي أجبرت على البقاء في ظلّ الأمين العام.
ومثل هذه النتيجة تبدو أكثر من متوقعة بالنسبة لحزب أراد أن يتفادى أحد أهمّ إشكالات الحزب الأمّ، نداء تونس، أي الشخصنة فوقع فيها هو الآخر. ذلك أنّ مسار انشقاق محسن مرزوق عن نداء تونس، ومن ثمّة تأسيسه لحركة مشروع تونس، بني في الأصل على مقاس أحلام “الفتى الطائر“، وخدمة مشاريعه الشخصيّة بل وهنا مربط الفرس، على ترجمة طموحهِ الجارفِ داخل قالب انتقاميّ هو الذي خسر الحظوة التي كان يتمتع بها لدى الرئيس المؤسس لنداء تونس.
لقد عجنت مغامرة محسن مرزوق السياسية داخل جرن المواقف المتقلّبة والبحث عن موقع تحت شمس المشهد السياسي، فمنذ تأسيس حزبهِ، فعل محسن مرزوق الشيء ونقيضه، سواءً في انضمامهِ إلى وثيقة قرطاج ومن ثمة رفضهِ تعيين يوسف الشاهد، أو في اقترابهِ المعلن من حكومة الوحدة الوطنيّة دون أن يشارك فيها، أو في تشكيله جبهة سياسية، هي جبهة الإنقاذ، مع أحزاب أخرى منها الوطني الحرّ، قبل أن تتهمه قيادات الحزب الأخير بالتآمر مع الحكومة لإسقاط سليم الرياحي أو في احتفاظه بتلك “العلاقة” الغريبة مع رئيس الجمهورية، رغم ما يعتريها من فتور في غالب الأحيان.
وإذا كانت المواقف المتقلّبة تعتبرُ ماركة مسجلّة باسم محسن مرزوق، الذي تلاحقهُ تهم الفساد هو الآخر، خاصة في علاقته التي باتت معلنة مع الأجندة الإماراتية في المنطقة، وتحديدًا مع منفذّها محمد دحلان، أو علاقاته الاقتصادية غير المفهومة مع إيطاليي “صقلية“، أو في سلوكاته الشخصية، التي باتت الحديث المفضّل لصالونات النميمة السياسية، فإنّ “الغرور” الذي يطبع شخصيته و“الارتهان” الذي فرضهُ على قيادات حزبهِ، ناهيك عن إقصائهِ كلّ من يشكّل تهديدًا جديّا لديكتاتوريته المتنامية داخل الحزب، كلّها عوامل أسقطت مشروعهُ في أوّل امتحانٍ انتخابيٍّ جدّي مثلما رفعت من منسوب الغضب في محيطهِ الضيّق.
ولعلّ آخر المغالطات التي رصّعت سجّل محسن مرزوق هو ما وقع نشره في بيان الحزب بعد الانتخابات البلدية حين شدّد على أن “التونسيون والتونسيات عاقبوا الأحزاب الحاكمة جرّاء حصيلة حكمها السلبيّة” متناسيًا في الوقت نفسه أن نفس التونسيين والتونسيات أجهزوا بالمناسبة على مشاريعه الشخصيّة وأنّ الحصاد النهائيّ للانتخابات وما يليها أنهى أحلام الفتى الطائر.
المنصف المرزوقي: عقاب ديمقراطيّ عاقبته الديمقراطيّة… !
في الضفّة المقابلة، لا يبدو أنّ مصير المنصف المرزوقي، رئيس الجمهورية السابق ورئيس حراك تونس الإرادة، أفضل حالاً من مصير محسن مرزوق. فحزب الرّجل الذي حلّ ثانيا في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية التي شهدتها تونس في 2014، بـ44.32 بالمائة، أي بمجموع مليون و378 الف صوت، لم يتمكنّ من حصد سوى 1.7 بالمائة من أصوات الناخبين في بلديات 2018.
هذه الحصيلة “الكارثيّة” لحزب بنى كلّ أسطورتهِ على “كاريزما” و“نضالات” مؤسسه، محمد المنصف المرزوقي، الذي خسر بالمناسبة كلّ الأصوات التي جمعها في رئاسيات 2018، أصواتٌ منحتها له في النهاية حركة النهضة، أنهيت هي الأخرى إحدى “الأكاذيب” السياسيّة في تونس، أيّ كذبة الحزب الذي يشكّل بديلاً موضوعيا لأحزاب الحكم.
وفي هذا الإطار لن نعدد الأمثلة عن مرض “الشخصنة” الذي أنهى هذا الحزب في مرحلة الشرنقة، سواءً خلافاتهِ مع الشق الرافض للدمج داخل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، أو سيطرة القلّة المقربة منه على غرار عماد الدائمي وعدنان منصر التي أدت إلى استقالة جماعية لأعضاء الهيئة السياسية لحراك تونس الإرادة، أو ترسيخ منظوري هذا الحزب لما يشبهُ عبادة “الفرد الخارق” في شخص المرزوقي الأمر الذي حوّلهُ إلى ما يشبه الطائفة الدينية أكثر منه حزبا سياسيا ذي توجهات مدنية.
وإذا كانت أمراض الحزب الداخلية معلومة، وتكفّل بإخراجها إلى العموم المستقيلون من الهيئة السياسية، فإنّ مرض الحزب الحقيقي، والمعلوم هو الآخر، يكمنُ في شخص المنصف المرزوقي نفسهِ، الذي أضاف إلى حصيلة حكمه الكارثيّة عندما أقام لثلاث سنوات في قصر قرطاج سلسلة من “الكوارث” التي لا تليق برئيس جمهورية سابق وهو يفشي أسرار الدولة على شاشة قناة الجزيرة. كما أنّ مواقفهُ المتشنّجة وسلوكياتهِ المرضيّة حوّلتهُ إلى “فزّاعة” في المخيال الشعبي التونسي، فزّاعة لا يمكنُ التكهّن بتصرّفاتها أو مواقفها أو حتّى أخذ ما تقولهُ بجدّية.
ولم تشفع للمرزوقي جولاته داخل المدن الجنوبيةّ التي رفع خلالها شعار “الثلاث أصابع” وهو شعارٌ يكشفُ طموحاته الشخصية في الوصول إلى الرئاسات الثلاث أي قرطاج والقصبة وباردو، ذلك أنّ خبرة التونسيين مع “المشاريع المتطرّفة” ذات الأفق المتشنّج والمرضيّ، ذلك الأفق الذي يرى السواد في كلّ شيء، أنهت بدورها مشروع المرزوقي الذي اكتفى بـ89 مقعدًا رغم اختراقه لمجموعة من القائمات المستقلّة والائتلافيّة. ووفق هذا المنطق فإنّ الديمقراطيّة التي عاقبت التونسيين بتصعيد المنصف المرزوقي إلى المجلس الوطني التأسيسي ومن ثمة إلى رئاسة الجمهورية في 2011، هي نفسها التي عاقبت المرزوقي بإسقاط مشروعهِ القائم على “أناه” المتضخّمة ورؤاه السوداويّة لحاضر ومستقبل تونس.