الشارع المغاربي – "مركز الفنون جربة"... مقام صادح لا يفهمه إلا الفنانون والمتصوفون/ بقلم: د. فوزية ضيف الله (ناقدة)

“مركز الفنون جربة”… مقام صادح لا يفهمه إلا الفنانون والمتصوفون/ بقلم: د. فوزية ضيف الله (ناقدة)

قسم الأخبار

9 مارس، 2023

الشارع المغاربي: ذات يوم غزته رياح عاتية جدا، شقّت بنا الطائرة السماء، نحو سماء أخرى، مرصعة بشموخ النخيل. لعلّ السفر على وقع الرياح، سيجعل المقام صادحا بإيقاع مختلف، لا يفهمه إلا الشعراء والفنانون والمتصوّفة. فوحدهم المبدعون لا يؤجلون مواعيدهم، ولا يُعدّلون ميقاتهم على وقع الطقس وأحوال المناخ. تذكّرت قصائد كثيرة كُتبت عن الريح، وأفلام سينمائية جمّلها الريح، ومسرحيات صاحبها صوت الرياح. كأنّ الرياح التي جعلت طقس جربة غائما،  هي نفسها جاءت تختبر ما في من صبر ومن عناد. لكل فنان صادق، حوار مميز مع كل طقس، ولكلّ الغيوم والأمطار والرياح، من الوقع ما يُمكن لها أن تُغيّر مشهدية التلقيّ وانشائية الابداع.

1 – الفنون مثل الرياح، خلق يأتيك من السماء

وصلت الطائرة جربة بسلام، وبعد دقائق، اتصل بي السائق الخاص بمركز الفنون جربة. كان عمّ «مبروك» حريصا على أن يصل قبل موعد نزول الطائرة.  حضر  بلباسه التقليدي الجربي، «الكدرون» الذي قُدّ من الصوف الأبيض.
زادني منظر الاستقبال، رغبة في التقدّم نحو المسالك المؤدية الى الفن. تأكدت أنّ الجزيري يستقبل ضيوفه، كما استقبلني بمركز الفنون بجربة، وفق تمشي فني، ينتظرك السائق بزيه الجربي التقليدي، الذي يسمى كدرون شتاء أو بلوزة صيفا، لا بد أن تنخرط في مناخ الفرجة منذ اللحظات الأولى. يعبر بك السائق الطريق، كأنه بيداغوجي، يحملك نحو معالم الفن الصعبة والطويلة، وكان تلك الرحلة لها دلالات عدة من بينها أن تُدرك أن الوصول إلى نقطة أرخميدس، أي مركز الفنون جربة، ليس أمرا هيّنا، فلا يأتيه إلاّ من يتحمّل المشقة أي الا المغرم بمسالك الفن الوعرة.
ليس الفن مقاما ظرفيا، بل هو مقام يسكن الفنان ويتقوم به في كل سياقات الوجود. ليس اكسسوارا نرتديه أو نحمله بل عمقا ينبجس  في صاحبه ويتدفّق عنه  فلا يُغادره حتى إذا قرّر أن يكون يومه عاديا. وتلك هي الولادة الطبيعية والحقيقية للفنان.

2 – مركز الفنون بجربة، للفنّ مقام الاستقبال

تبدأ الضيافة من السماء، من الجوّ، وعلى الأرض تبدأ ضيافة أخرى. كأن يطمئن مضيّفك على وُصولك سالما، يحرص على أدق التفاصيل. هكذا أدركت ما معنى أن يكون «مركز الفنون جربة»، مركز استقبال وضيافة فنية في بادئ الأمر. يتبّع الجزيري في ذلك أنموذجا عريقا، يُخرجه على طريقته، ليتوافق مع مقام المركز وأهداف المشروع. فتشعر منذ عزمك على بدء الضيافة أنّك في ضيافة الفن بكل صوره المتعددة.  يختار لك أول نقطة للضيافة، وسط مكان الإعاشة، فتجد فطور الصباح في انتظارك. يستقبلك المشرف على الفطور، يُهيئ لك مكانا شرقيا، تلتقي فيه مع الشمس. يبدو أنّ السماء هناك أقرب، والشمس أقرب، والكلام الموزون يَحدث في النفس أكثر من حُدوثه في المكان. صمت الرمال، وشُموخ النخيل العاتيات أمام الرياح، صوت الموج وراء المسرح. كل هذه العناصر الطبيعية كانت شاهدة على ذلك الفطور. أواني بيضاء، شاهد على الصفاء، ما قلّ ودلّ من الأثاث، خشب طبيعي غير مدهون، ملاءمة للحمية الايكولوجية، جانب كبير من الواجهات البلورية، تستقبلك وسط الطبيعة، بل تجعل السماء والشمس عند يديك. اللون الرمادي، لون الاسمنت الذي قُدّت منه الحيطان، دلالة على حياد ما، بعيدا عن صخب الحياة الزائف، ارتفاع البنيان والحيطان، دلالة على علوّ الأهداف وارتفاع سقف الأمل.
شربت قهوتي بسرعة، كنت أحسّ أن النهار سيمضي بسرعة، ولعلّ وقت القهوة إذا طال، سوف يحرمني ممّا هو أهمّ. يبدأ التذوّق الفني، بالأكل، تلك هي فلسفة مركز الفنون بجربة، قبل أن تستطعم الفنّ عليك أن تستطعم الأكل، وينبغي أن يتوافق الأكل مع المكان. فالمحميات الفنية، هي محميات طبيعية بالأساس، تتناغم مع الطبيعة وأحكامها، ومع تقاليد الأكل بالمنطقة. لا شيئ يُترك للغفلة أو الصّدفة.

3 – الفنان فاضل الجزيري، يظلّ مخرجا حتى في يومياته

قدم الفنان فاضل الجزيري، يُصافحني، بعد الفطور الصباحي. قبالة الشمس البازغة في كبد سماء جربة، تندفع طاقات التراب والبحر والنخل والسماء، من خلال الواجهة البلورية على يساري، ويجلس الجزيري على يميني. كعادته، يُجيد الصمت أكثر من إجادتي للكلام. لا أدر كيف شرع في الحديث عن المركز، قبل أن أشرع في ترتيب أسئلتي. فهمت أنه سيكون «المخرج»، مثلما هو في الحقيقة، ولا يؤمن بالثرثرات الطويلة، لكل كلمة ميزانها وزمانها ومكانها، ولكلµ حركة سياقها ومجالها. فلا يفيض عن القول إلا ماهو ضروري للمقام. لا يمكن أن تتحدث مع المخرج فاضل الجزيري دون أن تدرك أنه مخرج ليومياته، متحدث جيّد، يجيد المراوحة بين الكلام والصمت، وأحيانا يراك ولا تراه. تساعده النظارات في كسب رهان الرؤية، تُخوّل له مسافات الاطمئنان الإخراجي أن يجعل اللقاء يتحدد وفق مشهدية اخراجية (La mise en scène).  لذلك تركت أسئلتي التي جهزتها جانبا، وكان الحديث وفق سياقه الطبيعي، غير مصطنع، حديث ضيافة  الفنون والطبيعة، على مقربة من السماء.

4 – فضاء الاستقبال: مذاقات وألوان

تحوّل سياق اللقاء من مرحلة الحوار المنظم، الى استكشاف المشاهد الاخراجية،(des mises en scène). يبدأ الحديث في علاقته بالمكان،  وبما فيه من عناصر. ازدحمت الأفكار في رأسي، فكيف لي أن أتذكّر كل ما سأسمعه؟ سوف استحث ذاكرتي على أن تتذكّر، وإن نسيت فلا مجال للقلق. لن يكون هذا الحوار كلاسيكيا، ولن يتم تدوينه كسائر الحوارات الصحفية. لا يحتاج لأداة تسجيل ولا لمذكرة، يحتاج عمقا فكريّا وحضورا ذهنيا.
يسمح فضاء الاستقبال، بتقبل مختلف المذاقات والألوان. انضافت له شاشة كبيرة، لعرض برامج فنية وثقافية بالتنسيق مع المعاهد والمدارس في الأيام المقبلة.  يحتاج الاستقرار بجربة، العودة الى المذاقات الأصلية، الأصوات الأصلية، الحركة، الألوان، «لا مجال للصدفة» هكذا قال فاضل الجزيري،  ولا مجال «للعاطفة»أيضا، فليس الابداع الفني في نظره  أمرا من أمور الوجدان، بل هو تفكر فني خالص، مدروس على قواعده وعلى أصوله الطبيعية. ويُشير الى نباتات الكاكتوس في الخارج، الفن تماما مثل النبات، ابن بيئته، ويتأقلم مع المناخ، وللنبات مذاق طبيعته وتربته.

5 – مشروع فيلم حول فرحات حشاد ومسلسل حول الدغباجي

تحدّث الجزيري عن مشروع تصوير «فيلم مقتل القرقني» الذي سيشرع قريبا في تصويره، سيكون التصوير شاملا لمنطقة الجنوب بداية من منتصف شهر جويلية تقريبا. وكذلك مسلسل «الدغباجي»، وفي العودة الى التاريخ، عودة الى تصوير «الحاضر» الذي كان، هو حاضر تونس، الذي يهم الجزيري في كل مرة. وفي كل مرة يعيد استحضار الحاضر أو تمثيله من خلال سياقات سينمائية أو مسرحية أو فرجوية. كل هذه العناصر تدور في سياق واحد، هو مشروع الجزيري المتجدد، يستأنفه في كل مرة، ليكون متوافقا مع الراهن، ومع اللحظات التاريخية التي تمرّ بها تونس. سيكون تصوير فيلم «مقتل القرقني» (الزعيم فرحات حشّاد) انطلاقا من المذاقات. ماذا كانوا يأكلون؟ من أين يأكلون؟ ماهو مصدر القمح والشعير؟ علاقتهم بالاستيراد والتصدير؟ هل يُحقّقون إكتفاءً غذائيّا؟ فهل أن اكتفاءهم  بانتاجهم الفلاحي هو سبب صدّهم الاستعمار ورفضهم لكل ماهو أجنبي على أراضيهم؟ ألا يبدو أن لمقاومة الاحتلال علاقة بما كانوا فيه من اكتفاء غذائي وفلاحيّ؟ ربّما تصلح هذا التساؤلات لقراءة الحاضر، وما يحدث في العالم.

6 – بعد الحضرة، يأتي “المحفل” هذه الصائفة

سيكون “المحفل” هذا الصيف  بمسرح الهواء الطلق، بمركز الفنون جربة، عالم من الفرجة الكاملة، تجريب للسياحة الثقافية وفق طرق جديدة، بالتنسيق مع النقاط السياحية المنظمة لاستقبال السياح والبرمجة الثقافية الخاصة بالنزل والوحدات السياحية. يطمح مركز الفنون إلى تسويق انتاجاته وفق معايير رقمية معاصرة. سوف يضمّ «المحفل» عناصر الفلكلور الجربي، الطبلة والزكرة، لذلك فإنه سيكون مورد رزق للعديد من البحارة والفلاحين، كما يُسميها الجزيري «الخبزة». فلا يؤمن الجزيري بفنّ لا يضمن حياة كريمة لأهله وللمزاولين له. سيكون المحفل، استحضارا لتاريخ المكان، وحاضر الأرض، بدءا باللباس واللون والحركة، وصولا الى النغم والصوت والرقص والبهجة.

7 – معالم المكان:  رواق للفنون، قاعات متنوعة  للعرض والتمارين واقامات فنية

يُوجد بمركز الفنون جربة، قاعة كبيرة للعروض، الى جانب مسرح الهواء الطلق. قاعات للتمارين، اقامات فنية في الطابق العلوي، فضاء لإقامة الندوات والاجتماعات، حوله مكتبة سيستفيد منها المقيمون والزوار بعد تجهيزها وتزويدها بالكتب. مدارج خشبية واسعة تحملك للطابق العلوي، الى جانب مصعد كهربائي، على أهبة الشروع في الاستعمال حولك اللون الرمادي الرافض لكل مادة كيميائية، يحاوره لون الخشب الطبيعي، وفوقهما لون السماء، وخضرة النخيل. يُساعد الامتداد بالمكان، وبالغرف وبالقاعات على الامتداد في النظر والتفكير. لذلك فإن المبدعين الذين سيستضيفهم المركز، سوف يجدون كل محفزات التخييل والإبداع والكتابة.
يضمّ المكان رواقا للفنون، تعرض به حاليا أعمال الفنان التشكيلي العالمي طاهر المقدميني، وقد أمضى المركز عقودا مع فنانين لعروض مقبلة على امتداد خمس سنوات. ينفتح المكان على السماء، على الأفق، لذلك يكون الخلق الفني، في مرتبة ثانية بعد الخلق الرباني مباشرة، بلا وسائط. سوف ينتفض الابداع  فيك، إذا رفعت بصرك، فبينك وبين الواجهات البلورية التي تمثل تقريبا 50 بالمائة من المبنى، إنّك تحتفل بالشفافية، بالصدق، وكأنّك صرت في مباهج الصوفيين، ترتدي جبّة الابداع على اللحم.

8 – قاعة العروض الكبرى، توظيف الطبيعة والمناخ سينوغرافيا

يتحوّل مكان الحوار، من فضاء الاستقبال إلى قاعة العروض الكبرى. يجلس فاضل الجزيري على مقعد خشبي، قبالة مكان العرض، خلف الركح المخصص للعرض، نرى الواجهة البلورية الضخمة، مقسمة إلى مستطيلات طويلة شفافة، على طابقين،  يفصل بين بياضها الشفاف، فاصل يميل الى السواد، ُيحدث طباقا بصريا، يجعلنا نرى ما في الخارج، من طبيعة ونباتات، وسماء ونخل وسماء. كما يحينا مباشرة على صورة المفاتيح الموسيقية للبيانو، وكأنّ تلك الشاشة هي لوحة لفنان يعزف على أوتار الطبيعة، في كل الفصول، فتصلح الواجهة البلورية الشفافة الكاشفة للطبيعة، أن تكون مكونا سينوغرافيا، ومكونا ركحيا، يتلوّن حسب المناخ والفصول، وكذلك حسب تلوينات السماء والأرض، شتاء ربيعا، خريفا أو صيفا.  هكذا حدّثني الجزيري، كما خطط  لمشروعه. لكنه يُمكّن من يرغبون في حجب هذه الواجهة البلورية، من استعمال ستائر طويلة، تحوّل قاعة العرض وفق المواصفات التي يحتاجها العرض. ويجلس المشاهدون، على اليمين واليسار، وكذلك أمام ركح العرض، حيث جلسنا.

9 -فلسفة الاكتفاء الذاتي، والصنع المحلي

لمركز الفنون جربة، اكتفاء فني في صنع ما يحتاجه، من حصائر ومقاعد وأثاث. تجوّلت بي السيدة هادية الجزيري، وسط ورشات مخصّصة لخياطة ملابس الممثلين، ما يحتاجه العرض من منسوجات ومفروشات. تُصمّم الأزياء والمقاعد والمفروشات والحصائر، وتُنجز بالمركز، بالتوافق مع الفريق العامل الذي يضم اختصاصات متنوعة. أمام العمل، لا يوجد منفذ آخر للنجاح.
حدّثني الفنان فاضل الجزيري، عن الفلسفة التي ارتآها في تصميم المقاعد، وما عليها.  فلا يُطلب مثلا ما يزيد على الحاجة، ولا يُوضع ماهو خارج عن سياقات الاستعمال. إلى جانب فلسفة الشكل واللون، ثمة فلسفة الفصول والمناخ، فلا يتم استعمال ما لا يتوافق مع المناخ من أثاث أو من مفروشات.
10 – الاقامة الفنية،يأتيك الابداع راكعا

تسلّمت غرفتي بعد انتهاء المرحلة الأولى من اللقاء، غرفة تطلّ على المسرح،  مستطيلة الشكل، يشقّ سقفها مبنى المدارج المؤدّي الى المسرح في الأعلى. في الحقيقة، تصلح الغرفة نفسها لأن تكون ركحا للتمارين. ماذا لو استحدثت «مونولوغ»، وأخرجته يومها أمام الواجهات العاكسة التي أراني فيه؟ تشعرك شفافية النوافذ الكبيرة، وامتاد الفضاء داخل الغرفة، أنك أمام مرآة نفسك، أرضية تصلح للرقص والمشي حافيا، خالية من المفروشات، الا من حصيرة محلية الصنع، قٌدّت من «الﭪديم»  الرقيق جدّا، وأخيطت في طرفيها بعناية داخل المركز حتى لا تتلاشى العيدان الرقيقة. ستائر رمادية فاتحة، تميل الى البياض، تغطي الشرفتين، مكتب في جانب بعيد من الغرفة، خزانة يمكنك أن لا تراها في الأول لبعدها عن مجال نظرك. يعمّ البياض المكان. تساءلت: هل لفلسفة البياض علاقة بكاليغولا الثاني؟ أم له علاقة بالحضرة والمنزع الصوفي؟ أم أنه بياض يُحيل على الخلق من العدم؟ فالبياض هو اللوحة البيضاء (table rase) في فلسفة ديكارت، ويمكننا أن نكتب ما نريد على البياض، بل إنّ الكتابة تبدأ من الدرجة الصفر.
داخل تلك الغرفة، يمكنك أن ترتاح الى درجة أنك لن تنام. ستغفو فقط. يرتفع بصرك الى سقف الغرفة، سوف تجد أن تلك المدارج، تحملك مجدّدا للسماء، أية قصة مع السماء أكتبها؟ لقد قررت أن أكون صديقة السماء من قبل، دون أن أتطاول على ما وراءها؟
طُرق الباب، فتحت، مدّتني السيدة بمزوّد الانترنات، وأشارت إلى الأرقام الخاصة بتشغيله.  لكنني لم أكن أحتاج الى الانترنات. فهمت وقتها أن العزلة التي اختارها الجزيري، له ولمشروعه، وللمبدعين الزائرين، هي عزلة فنية. يحتاج المبدع نكهات من هذه العزلة. تصوّرت وقتها، أنني في مثل هذا المكان، يُمكنني أن أُنهي مشاريعي المبتورة، يمكنني أن أكتب نصوصا مسرحية فاتنة، تتالت أمام ذهني لوحات تشكيلية عابرة. وضعت مزوّد الانترنات جانبا، وتساءلت: لا يكفيني الوقت اليوم لأكتب، حتى أنتهي من المقامة الجزيرية، بجزيرة الأحلام، علي أن أفهم سياقات هذه العزلة، وأتأوّل مقامات الاقامة الفنية ههنا. سوف أجرّب الوضعية ولو لساعات، حتى أفهم، علاقة المكان والإقامة بالابداع.  خمّنت أنّ ذلك  الطالب بالجامعة المركزية، في قسم السينما، الذي استقبله الجزيري ليُقيم لفترة بالمركز، خلال أيام عطلته، هو أحد المستمتعين بهذه الاقامة. تأكدت أن الاقامة الفنية بالمركز، لا تتلخص في مجرّد الحصول على غرفة وإعاشة، بل هي تنفتح على تصور فني كامل لمفهوم المكان المحفز على الابداع. وأدركت أن هندسة الغرف والمركز بصفة عامة قُدّت بالعودة الى مقوّمات ما يُسمّى «طاقة المكان» التي تستوجب مقاييس علمية دقيقة تجعل المكان باعثا على طاقات ابداعية وجاذبا للتحفيز. وتستند طاقة المكان على كل السيميائيات المتعلقة بالأشكال والألوان والمسافات بين الأشياء والأثاث، كما تستثمر طاقة الأعداد والمساحات والارتفاعات، وقرب المكان من البحر والطبيعة.

11  – فاضل الجزيري، تلقى درس الفلسفة باكرا

تلقّى الجزيري تعليمه الثانوي، في الصادقية اين جالس اساتذة من خيرة المربين وتلاميذ ممن اصبح لديهم باع في المجال الثقافي بحكم صداقته لتلاميذ وأساتذة السنوات النهائية. كما عاصر فاضل الجزيري طيلة مروره بالجامعة مفكرين كبار أمثال محمود المسعدي وصالح القرمادي. لم يكن الجزيري يشعر بالاطمئنان الى وضع الفلسفة والكتاب في تونس. كان أبوه  صاحب مكتبة، وعرف عن قرب كساد الفكر والكتب. فقرر أن يغيّر مساره نحو الفنون. ولكن رغم ذلك، نفعه شغفه بالفلسفة في استخلاص ما ينبغي قوله، وفي استحضار الزمن الذي يهرب من أيدينا، وهو حاضر تونس كما كان ويكون، ويتم مراجعة التاريخ كل مرة، وقراءته فنيا، مراوحة بين الحضرة والمسرح والسينما والموسيقى، وما تغيير الشكل الا تغييرا لنكهة التذوق. وان كان المرور من المسرح الى السينما هو مرور من الفرجة المصنوعة والمقتطعة، نحو الفرجة الحية والكاملة، حيث يمكننا أن نتذوّق المسرح بحواسنا كلّها، ويمكننا أن نشمّ رائحة اللحم الممسرح على الركح ينشر عبقا من روحه.
تعلّم الجزيري الاهتمام بالتفاصيل، من خلال دروس الرسم المبكّرة على يد الرسام زبير التركي، وهو ملاحظ جيّد. لذلك يتابع بدقة فائقة كل الالوان التي تظهر في الفرجة، وعلى الركح. يُعلّم الرسم فن الصمت، والاجابة تكون برسم الحركة، وتحريك اللون واللحن. يمكّنه صمته من ادراك التباينات والتمايزات. وقد يُدهشك حذقه للصمت، لكنه صمت له دلالاته.
وتظلّ الحضرة النفس الروحي والصوفي الأول، هي منشأ الابداع ومنبع الفيض. يمكن لتاريخ تونس أن يغزو العالم، إذا تم تسويقه فنيا، كما يريد الجزيري، فيُحوّل من المحليّ واليوميّ والطبيعي لغةً يُخاطب بها العالم، فتسافر أعماله وتغزو السوق العالمية، وتلك فلسفة أخرى في التسويق للسياحة الثقافية.

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 مارس 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING