الشارع المغاربي – مسيرة 14 نوفمبر: فشلت «النهضة» فهل نجح سعيّد ؟/ بقلم: معز زيود

مسيرة 14 نوفمبر: فشلت «النهضة» فهل نجح سعيّد ؟/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

20 نوفمبر، 2021

الشارع المغاربي: انتهت مظاهرة خصوم رئيس الجمهوريّة، يوم الأحد 14 نوفمبر 2021، إلى فشل ذريع مثلما كان منتظرًا. فهل يُحسب ذلك نجاحًا لرئيس الدولة أم تراجعًا تراجيديّا لمنظومة ما قبل 25 جويلية ولرموزها الممثلين اليوم في حركة النهضة وحلفائها؟! المشهد يحتاج إلى محاولة تشخيص رغم ما يكابده من ارتباك…

انهمرت، خلال الأسبوع الماضي، الدعوات إلى التظاهر والاحتجاج أمام قصر البرلمان بساحة باردو بشكل واسع على شبكات الميديا الاجتماعيّة. حاول القائمون على حراك «مواطنون ضدّ الانقلاب» جعل موعد 14 نوفمبر تاريخًا ملهمًا للجموع المعارضة للإجراءات الاستثنائيّة التي مكّنت الرئيس قيس سعيّد، بمقتضى الأمر الرئاسي عـ117ـدد، من الهيمنة المطلقة على جميع السلطات في البلاد. وتكتيكيّا تجنّبت حركة النهضة إظهار تزعّمها لهذا الحراك واستعاضت بعلم البلاد عن استخدام أعلامها الزرقاء، لا فقط لتلافي إحراج حلفائها، وإنّما لأنّ الدفاع عن مكاسب الديمقراطيّة والحقوق والحريّات يُفترض أن يهمّ جميع التونسيّين الذين كانت أنفاسهم مكتومة قبل الثورة. لا يخفى إذن أنّ حركة النهضة قد بذلت كلّ ما أمكنها من جهد ودعم لفرض انضباط قواعدها بشأن المشاركة المكثّفة في تلك المظاهرة وحثّهم إلى القدوم إلى العاصمة من كافّة الجهات. في المقابل، يبدو معلومًا أنّ النخب غير النهضويّة المنصهرة في حراك «مواطنون ضدّ الانقلاب» لا وزن حركي أو ميداني لها. فقد اقتصرت انتصاراتها على بعض علامات الإعجاب الافتراضي التي تُحصّلها على منشوراتها «التعبويّة» بشبكة «فيسبوك» أو على ما تحظى به من تغطية إعلاميّة تُوفّرها لها خصوصًا منصّات الإعلام القطري الذي تقهقرت متابعته في تونس إلى ما دون الصفر بعد 14 جانفي 2011…

أوهام الانتصار الوشيك

يبدو للوهلة الأولى أنّ من سهروا على إعداد مظاهرة، الأحد الماضي، قد ارتكبوا خطأ تكتيكيّا جسيما في رفع سقف أهدافهم وانتظاراتهم وتوقّعاتهم لمخرجات هذا الحراك. فقد بلغت درجات الوهم و/أو الإيهام حدّ الترويج لكون مكوث الرئيس قيس سعيّد في قصر قرطاج أمسى مسألة «سويعات» لا أكثر قبل عزله ثمّ محاكمته باستعادة المؤسّسات الدستوريّة. وتدليلا على هذا المشهد السريالي ما جاء في «خارطة الطريق» المنسوبة إلى رئيس الجمهوريّة الأسبق محمد المنصف المرزوقي للإيحاء بأنّ ساعة الحسم قد اقتربت كثيرا، في انتظار تحقّق «وعد» عودته المظفّرة إلى قصر الرئاسة!.

ولاستيعاب مدى سطحيّة آليات الحشد والتحشيد، ينبغي تأمّل بعض نقاطها. تتمثّل النقطة الأولى في «استقالة الرئيس قيس سعيّد»، هكذا! وكأنّ سعيّد الذي اطمأنّ لالتزام الأمن والعسكر بإفشال مخطّطات خصومه وانهمك في احتفاله المتأخّر بعيد الشجرة، قد بات طريّا إلى درجة الاستسلام الطوعي وتقديم نفسه قربانا لتحقيق أوهام ضحايا قراراته، في وقت لم يدّخر سطرا واحدا في الأمر عـ117ـدد لتجميع كافّة صلاحيات إدارة شؤون الحكم بين يديه والتنصيص الحرفي على منع أيّة إمكانيّة للطعن في أوامره وقراراته «المنزّلة» من علوّ قصر قرطاج مهما كانت!.

وبما أنّ هذا السيناريو «الخيالي» يحاول التدثّر بمقولات الشرعيّة الدستوريّة التي أفرزت خراب السنوات العشر الماضية، فإنّه نصّ في نقطته الرابعة، بَعدَ نُقطة عودة البرلمان السابق ثانيا واستقالة الغنوشي من رئاسته ثالثا، على تولّي سميرة الشواشي رئاسة البرلمان ومن ثمّ تفعيل مقتضيات صفتها تلك في تولّي الرئاسة المؤقّتة للجمهوريّة، في انتظار سنّ قانون انتخابي جديد وتنظيم انتخابات رئاسيّة وبرلمانيّة… وبذلك تعود حليمة إلى عادتها القديمة فرحةً مسرورةً، بعد إعادة إنتاج منظومة الحكم السابقة بكلّ كوارثها، أسوةً بسيناريو السطو على الثورة أوائل عام 2011 عبر تصعيد أحد رموز نظام بن علي إلى منصب رئيس الجمهوريّة.

استشعر المرزوقي إذن غياب شخصيّة سياسيّة وازنة لتزعّم هذا «الحراك» باستثنائه، ولاسيما بعد استبشاره باحتراق ورقة زعيم حركة النهضة نهائيّا واحتدام صراع المواقع بين قياداتها. ومن ناحيته قبِل حزب الغنوشي باضطلاع المرزوقي بهذا الدور لاستخدامه مَعْبَرًا مؤقّتًا كما عادته. أفلم يخاطبه سيف الدين مخلوف، ببرنامج على قناة «الزيتونة» قُبيل الزجّ به في السجن، قائلا حرفيّا: «سيدي الرئيس… تونس تحتاجك باش تاقف معانا وكان لزم تقود مسيرة إسقاط هذا الانقلاب الخارج عن التاريخ». دورٌ استمرأه المرزوقي طبعًا، وقبل يوم واحدٍ من المظاهرة نشر لافتةً تحمل عنوان «رسالة الرئيس منصف المرزوقي للمتظاهرين وللشرطة في إطار دعوات 14 نوفمبر»، مُدرجًا فيها تِباعًا النقاط التالية: («الحفاظ على السلميّة»، «الثبات أمام محاولات التفريق والتشتيت»، «الحفاظ على كرامة المواطنين ودمائهم»، «أنتم في خدمة الوطن والدستور، وليس في خدمة شخص»). ومع ذلك فإنّ المرزوقي لم يتمالك نرجسيّته المتضخّمة، فوشّحَ لافتته بصورته الشخصيّة الكبرى وهي تعلو ذرّاتٍ من التونسيّين المجهولين، مُوجّهًا سبّابته إلى الأعلى فوق رؤوسهم، وكأنّه قائدٌ مُلهمٌ لهؤلاء الماكثين تحته في الصورة…

مؤشرات الانكماش والهَون!

تحدّث الكثيرون عن توظيف حركة النهضة للاحتجاجات الشعبيّة، على غرار انتفاضة أهالي مدينة «عقارب»، والنفخ فيها بهدف تأجيج لهيبها واستثمارها في خدمة أجندتها لإسقاط رئيس الجمهوريّة أو على الأقلّ لإكراهه على الحوار معها، باعتبارها جزءا مهمّا من المعادلة السياسيّة التونسيّة. مبدئيّا ما مِنْ أحدٍ كسر ظهر حركة النهضة كما فعل الرئيس قيس سعيّد. فهو من أفقدها ثقلها السياسي وانتزع هيمنتها على دواليب الدولة وجرّدها من امتيازاتها وألحقها عنوةً في صفوف المعارضة. وهذا بصرف النظر عن كلّ توصيفات التخوين التي ما انفكّ يروّجها عنها وسائر التهم التي يكيلها إليها صراحةً أو تلميحًا، دون أن يمضي في تفعيل الإجراءات القانونيّة المتعلّقة ولو بقضيّة فساد واحدة قد تخصّ قياداتها. ومن ثمّة، يبدو من الطبيعي أن «تتجنّد» حركة النهضة للدفاع عن وجودها ومصالحها المهدّدة، وذلك عبر محاولة إضعاف خصمها الذي منحها كلّ المبرّرات لجعل استهدافه البند الأوّل والوحيد في أجندتها الحاليّة.

لماذا فشلت حركة النهضة إذن في حشد التونسيّين لاستعادة البرلمان الذي جمّد سعيّد أنشطته، على خلاف ما ينصّ عليه الدستور من انعقاد دائم؟!. بعيدًا عن كلّ التأويلات الدستوريّة، ينبغي أن يكون الأمر واضحًا أنّ ما كان يهمّ حركة النهضة وأتباعها وحلفائها من اليمين واليسار، يوم 14 نوفمبر، هو التمكّن من الدخول إلى مبنى البرلمان، لا برمزيّته فقط وإنّما بالإمكانيّات السياسيّة التي يُتيحها الاعتصام فيه ومباشرة إجراءات عزل رئيس الجمهوريّة، وإدخال البلاد في فوضى صراع عارم قد يؤدّي إلى الاحتراب… أمّا الترويج لكون الأهميّة تكمن في مؤسّسة البرلمان وليس في مبناه، فإنّه لا يعدو أن يكون سوى تهويمات لاستبلاه الرأي العام.

وفي ظلّ التطويق الأمني المتوقّع، بدا أنّ الإمكانيّة الوحيدة التي قد تسمح بتحقيق أجندة جماعة «مواطنون ضدّ الانقلاب» هي حصول اختراق أو تواطؤ مّا في أحد أجهزة المؤسّسة الأمنيّة المعنيّة بالتحكّم في مسارات تلك المظاهرة. ومن المؤكّد، في الآن ذاته، أنّ الوحدات العسكريّة التي تُرابط داخل أسوار البرلمان كانت على استعداد لمواجهة الاحتمالات الطارئة. وزارة الداخليّة التي اتّسمت بياناتها بالتضارب ذكرت أنّ عدد المشاركين في المظاهرة بلغ حوالي 3500 شخص. وحتّى إن بلغ العدد الحقيقي ثلاثة أضعاف ما أعلنته، فإنّه يبقى رقما هزيلا جدّا بما لا يعكس خيارات معظم التونسيّين، ولا يمكن أن يجبر السلطة على التراجع وتقديم تنازلات كفيلة بتغيير المشهد السياسي العام.

كانت الشعارات المرفوعة في مظاهرة يوم الأحد، المطبوعة على لافتات متناغمة وبخطوط أنيقة، متناسبة مع أصحابها. اقترن معظمها بمصطلح «الانقلاب»، على غرار «جرائم الانقلاب لا تسقط بمرور الزمن» و»بالانتخاب مش بالانقلاب» و»أساتذة ضدّ الانقلاب» وما إلى ذلك. وكانت بعض الشعارات تعكس المخيال الخفيّ الذي يُحرّك أنصار حركة النهضة، مثل شعار «ضحايا الاستبداد ضدّ الانقلاب». فيوم 25 جويلية 2021 كان آخر مهلةٍ حدّدها رئيس مجلس شورى النهضة للبدء في دفع التعويضات، ثمّ أسقط قيس سعيّد مشاريع تلك الغنيمة المشتهاة التي كانت ستلتهم غصبا المليارات من مقدّرات الدولة. مع ذلك كانت تلك الشعارات مفرغة من أيّ معنى، فمن يُصدّق شعارًا مثل «الشعب التونسي يريد عودة البرلمان»، وأيّ برلمان هذا الذي يريد «الشعب» المحروم عودته بعد كلّ المصائب المعلنة التي خلّفها خلال فترة تقلّ عن عامين؟!.

معضلة الشعبويّة

لا ينبغي طبعًا وضع الجميع في السلّة نفسها، على خلاف المقولات التعميميّة لرئيس الدولة. فلا شكّ مثلا في نزاهة بعض الشخصيّات المشاركة في مظاهرة 14 نوفمبر والمعروفة بنظافة الأيدي وبمسارها النضالي، لكن يبدو أيضا أنّها لم تستوعب بعد أنّها مجرّد حطب في معركة غير مبدئيّة لجماعةٍ لا تعنيها الديمقراطيّة وما تنبني عليه من حقوق وحريّات، ولا ترى فيها سوى آليّات تُتيح لها إحكام الهيمنة والانتفاع بخراج سياسة الغنيمة. ولا أدلّ على ذلك من أنّ حركة النهضة أصرّت على ترشيح شخصيّة تكفيريّة معروفة لعضويّة المحكمة الدستوريّة. أفلم يكشف الحبيب الصيد رئيس الحكومة الأسبق والمستشار الأمني لحمّادي الجبالي، في كتابه «حديث الذاكرة» الصادر منذ أيّام، أنّ قرارات الحكومة زمن الترويكا كانت تُغربل ثمّ تُصاغ في مونبليزير بمقرّ حركة النهضة. ذلك هو إذن منوال الشرعيّة الدستوريّة التي يُريدونها، شرعيّة زاوجت بين الديمقراطيّة والفساد والفوضى، حتّى أمست شرعيّة مغشوشة وهلاميّة.

هكذا يبدو واضحًا أنّ تقهقر حركة النهضة وحلفائها لا يعود بالأساس إلى قوّة الرئيس قيس سعيّد أو إلى الحزام الأمني المهول الذي حَوّط مبنى البرلمان بباردو، وإنّما إلى الرفض الشعبي لدعم مناورات منظومة ما قبل 25 جويليّة المسؤولة عن خراب عشريّة كاملة.

ومع أنّ جماعة «مواطنون ضدّ الانقلاب» بدت في منتهى العجز عن حكمة التدبير، فإنّ رئيس الجمهوريّة لم يخرج بدوره أقوى ممّا كان عليه، على خلاف ما يروّجه أنصاره معصوبو الأعين، بدليل أنّه لا يزال يعتمد الخطاب ذاته المعتمد على التهديد والتخوين. ففي اليوم نفسه للمظاهرة كرّر ما سبق أن تلفّظ به مرارا وتكرارا، متوعّدا خصومه بأنّه «ستأتي (عليهم).. ريح عاتية لن تترك منهم بقيّة باقية».

ليس من الفطنة في شيء أن يفهم أيّ شخص قادر على القراءة أنّ الأمر الرئاسي عـ117ـدد، رغم اندراج مقتضياته في إطار التدابير الاستثنائيّة، قد أفرغ دستور البلاد من أيّ معنى، وضرب المسار الديمقراطي في مقتل حين حوّل منصب رئاسة الحكومة إلى مجرّد إدارة فرعيّة ملحقة برئاسة الجمهوريّة. يأتي ذلك ورئيس الدولة لا يزال مصرّا على مواصلة سياسة الإقصاء إزاء مختلف الفاعلين في المشهد الوطني، وكأنّ لا أحد غيره قادر على تشخيص الأوضاع المتأزمة التي ترتهن البلاد وتقديم الحلول لمعالجتها. أدار ظهره لأشدّ مسانديه، وآخرهم أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي الذي صرّح يوم 14 نوفمبر تحديدًا أنّ «قيس سعيّد في عزلة» وأنّ «حركة 25 جويلية محفوفة بمخاطر في الخارج والداخل وحتّى من الرئيس في حدّ ذاته»، إلى درجة أنّ رئيس الدولة لم يتواصل مع المركزيّة النقابيّة، إلّا يوم 14 جويلية حين استشعر محاولات خصومه تضييق الخناق عليه. يعني ذلك بمنتهى البساطة أنّ الرئيس لم ينجح بدوره، رغم حالة العجز والفشل التي أصابت عموم خصومه.

من ثمّة، فإنّ النجاح في إنقاذ البلاد يمرّ بالضرورة عبر التخلّي عن الخطاب السائد المبني على ادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة، والكفّ عن التهديد والوعيد والتخوين وتقسيم التونسيّين، بما في ذلك حيال ألدّ معارضيه. والحال أنّنا لم نشهد بعد محاسبة حقيقيّة وملموسة للضالعين في طوفان الفساد. آن الأوان إذن للتجميع بدلا من التفريق، والسعي إلى طمأنة النفوس والتهدئة والإعلان صراحة عن الالتزام بتجنيب البلاد خزعبلات «النظام الجماهيري» أو «المجالسي» الذي من شأنه أن يُعيد تونس آلاف الخطوات إلى الوراء ويقضي على أحلام إقامة نظام ديمقراطي فعلي. وبعيدا عن التهويمات الانتخابويّة المتداولة عن تشريك الشباب، يبدو ملحّا التعجيل بإطلاق حوار وطني بمشاركة الفاعلين السياسيّين وكبرى المنظمات الوطنيّة، ومنحه صلاحيّة تحديد المواعيد الأوّليّة للانتخابات السابقة لأوانها من أجل وضع حدّ لحالة الإرباك السائدة والضبابيّة المفتعلة في زمن تونسيّ لم يعد يقبل بالحكم الشمولي ومشتقّاته. انتهى إذن وقت التردّد وولّى، فكما لا مجال إلى العودة إلى بهلونيّات البرلمان السابق وشرعيّته المغشوشة، لم يعد مسموحًا أيضا بخسارة فرص الإصلاح تلو الأخرى جرّاء تناسل الارتباك والضبابيّة وتراكم منسوب الشعبويّة التي قد تُطيح إكراهات الواقع قريبًا بمفاعيلها…

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 نوفمبر 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING