الشارع المغاربي – تحقيق محمد الجلالي: استغلال نفوذ ومحاولة التستر على وثائق ادارية وتقصير في حماية الثروة الحيوانية وهرسلة الأعوان واستغلال موظف منصبه لتحقيق منافع شخصية هي عينات من شبهات فساد تلاحق عددا من مديرين وموظفين بوزارة الفلاحة.
تجاوزات يبدو انها كانت وراء آخر زيارة اداها وزير الفلاحة عبد المنعم بالعاتي الى المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بقفصة وقبل ذلك وراء عزل المدير العام السابق للغابات وتعيين مدير عام جديد مكانه.
قنص عشوائي وتفقّد
يوم 15 ماي الفارط أعلنت وزارة الفلاحة أن حراس غابات بحديقة دغومس التابعة لولاية توزر تفطنوا الى تسلل عدد من الصيادين الى الحديقة وقنص حيوان أبو حراب (يعرف أيضا باسم المها الافريقي) مشيرة الى ان الصيادين ذبحوا الحيوان بعد رميه بالرصاص وقطعوا جزءا من جسمه الخلفي. ونقلت الوزارة عن احد الحراس ان المعتدين هددوا بإطلاق النار على أعوان الغابات قبل الفرار في اتجاه ولاية قفصة.
ما لم تكشف عنه الوزارة في ما بعد أن الفرقة الوطنية للصيد البري التابعة للادارة العامة للغابات تكفلت بالموضوع وتحوّلت يوم 19 ماي المنقضي الى ولايات القيروان وسيدي بوزيد وقفصة وتوزر (بعد مرور خمسة ايام فقط على جريمة قنص ابو حراب داخل محمية عمومية) لتفقد عدد من المحميات الوطنية. زيارة كشفت ان أغلب المحميات التي تم تفقّدها تعيش اوضاعا كارثية.
على مدى أربعة أيام قضاها فريق الفرقة الوطنية للصيد البري بالجنوب عاين أعضاؤه اخلالات شتى بالمحميات وضمنوها في تقرير تم توجيهه في ما بعد الى المدير العام للغابات (قبل اقالته) للنظر في الاجراءات والقرارات التي يفترض اتخاذها للتصدي للجرائم المقترفة في حق الثروة الحيوانية.
ويفيد موظف بوزارة الفلاحة بأن اعوان التفقد لاحظوا لدى تحولهم يوم 21 ماي الماضي الى محمية عُرباطة انه تمت سرقة عديد التجهيزات من المحمية وأن من بينها مصباح انارة كانت جمعية قد ركّزته على باب المحمية الرئيسي لمعاضدة مجهودات الدولة في المحافظة على الثروة الحيوانية وطاقم انارة آخر من داخل المحمية مع العلم ان الحراس الذين كانوا بالمكان حينها نفوا علمهم بمن يقف وراء عمليات السرقة مطالبين بضرورة توفير معدات اضاءة وأسرّة وأغطية لتيسير عملهم ليلا.
وأضاف الموظف الذي فضّل عدم الكشف عن هويته تفاديا لأية هرسلة ادارية: “اعضاء الفريق لاحظوا أيضا انه تم الاستيلاء على قرابة 30 مترا من سياج المحمية مع وجود ثغرة كبيرة فيه من جهة الطريق المعبدة بين قفصة وسيدي بوزيد وأن أكثر من نقطة مراقبة بالمحمية كانت مغلقة وبلا حارس اضافة الى ان اغب الحراس كانوا لا يرتدون أزياء العمل.
وتفيد معطيات مؤكدة حصلت أسبوعية “الشارع المغاربي” عليها بأن فريق التفقد حرص قبل الشروع في مهمته الرقابية على التواصل مع رئيسة دائرة الغابات بقفصة (قريبة احد الوزراء) لإعلامها بمرافقته من طرف احد حراس الغابات بالجهة لمعاضدة جهود أعضائه مع التشديد عليها بملازمة التكتم على المهمة وبأنهم فوجئوا بأن حراس محمية عرباطة كانوا على علم يزيارتهم عند تحولهم اليها.
نفس المعطيات تشير الى ان زيارة الفرقة الوطنية للصيد الى محمية هدّاج التابعة لمعتمدية منزل بوزيان من ولاية سيدي بوزيد كشفت عن عدم وجود أي حارس داخل المحمية بمن في ذلك من رئيس الحراس وعن وجود ثغرة بسياجها كانت تسهل دخول المخالفين لقنص الحيوانات. وبمواجهة رئيس الحراس الذي التحق بالمحمية بعد مرور نصف ساعة على وصول فريق التفقد اشتكى من نقص في الحراس مشددا على ان 6 عمال حضيرة محسوبين عليها يتقاضون مرتباتهم ولا يباشرون عملهم.
نفوق مُريب
ويؤكد تقرير تفقد حصلت الصحيفة على نسخة منه ان عدد الغزلان من نوع “دركاس” الذي تمت معاينته بمحمية عرباطة لا يتوافق مع العدد المصرح به شهريا وان 39 غزالا من نوع “دركاس” و7 غزلان من فصيلة “مها” و7 فراخ نعام نفقت بمحمتي عرباطة وهدّاج دون وجود شهائد طبية تثبت نفوقها الشيء الذي فسّره احد اعوان الغابات بوجود عملية قنص وسرقة داخل المحميات في ظل غياب شبه كلي للحراس او حتى تواطئهم.
كما تطرّق التقرير الى محمية دغومس التي شهدت قنص حيوان ابي حراب من قبل متسللين اليها مبينا ان عونين اكدا عدم وجود حراس غابات بمحمية توجد بها 3 نقاط مراقبة تمتد على 5 كلم.
واقترح فريق التفقد حسب ما جاء في تقريره تشكيل لجنة للبحث في نفوق الحيوانات دون توثيق ذلك بصور أو بشهائد طبية من طبيب بيطري وتحيين تعداد الحيوانات البرية بمحميتي عرباطة وهداج وحديقة دغموس واجراء نُقل في الحراس والاعوان المكلفين بتسيير المناطق المحمية والتحرّي في وضعية العمّال غير المباشرين رغم تقاضيهم رواتب من المال العمومي وفي السرقات المتكرّرة لتجهيزات الاضاءة والاسيجة.
في هذا السياق أكد احد أعوان الغابات ان ما جاء في تقرير التفقد ليس سوى غيض من فيض الانتهاكات التي تطال المحميات مرجحا ضلوع حراس في المشاركة في ابادة الثروة الحيوانية البرية عبر ادخال صيادين لقنص الحيوانات والتغاضي عن جرائمهم وبيع ازياء العمل وخيانة مؤتمن عبر التواكل او التخلف عن اداء مهامهم.
من جهتهم طالب اعضاء التفقد وزارة الفلاحة بالتدخل العاجل لإعادة الحراس إلى نقاط المراقبة بأكثر من محمية وحديقة وطنية وصيانة أسيجتها والزام الحراس بارتداء أزياء العمل والالتزام بساعات العمل الفعلية وملازمة اليقظة التامة على مدار الساعة مع التأكيد على التزام رؤساء الدوائر الغابية بمراقبة انشطة منظوريهم بالمحميات والحدائق وتوفير وسائل العمل كالسيارات رباعية الدفع ووسائل الاتصال ومعدات الاضاءة.
لقاء غير معلن
اعوان غابات أكدوا لـ “الشارع المغاربي” أن أكثر من 60 مواطنا من معتمدية بالخير من ولاية قفصة رفعوا شكاية الى رئيسة دائرة الغابات متهمين محافظ المحمية بتشغيل عملة وهميّا مؤكدين انهم حصلوا على رواتب دون ان يباشروا عملهم. معطيات يجزم الاعوان بأن رئيس عملة المحمية لم ينفها.
من جهة اخرى حصلت الجريدة على شهادات من فلاحين بمعتمدية السند تتهم مندوبية الفلاحة بقفصة ومن ورائها دائرة الغابات بالتستر على تجاوزات ارتكبتها شركة خاصة مختصة في التنقيب عن المعادن.
الفلاحون تحدثوا عن اكتشافهم عند مقاضاة الشركة وجود وثائق مفتعلة تحمل ختم المندوبية الجهوية مشيرين الى ان عدم تجاوب المعتمدية مع مطالب نفاذ كانوا تقدموا بها للحصول على الوثائق ونفي اكثر من معتمد ورودها على اداراتهم يؤكدان ان الوثائق التي بحوزة الشركة مفتعلة.
وابرز الفلاحون ان الشركة استغلت ترخيصا من ادارة الفلاحة للتنقيب عن المعادن للاستيلاء على جانب من أراضيهم وأراض عمومية لفتح مسالك للمرور الى الجبل فيما رجّح عون بمندوبية الفلاحة في قفصة استغلال الشركة خرائط جيولوجية تابعة لشركة فسفاط قفصة ومهندس متقاعد من نفس الشركة في التنقيب عن المعادن مع العلم ان المحكمة كانت قد قضت ابتدائيا لفائدة الفلاحين.
وذكر المصدر ان مندوبية الفلاحة لم تسع للتصدي لتجاوزات الشركة الخاصة لافتا الى ان الادارة حاولت في المقابل توريط موظف بالمندوبية عندما سعى لكشف اخلالاتها.
المصدر اعتبر ان تعاطي المدير العام السابق للغابات مع التقرير ساهم بقسط كبير في الاطاحة به وفي اعفائه يوم 23 جوان الماضي مؤكدا انه بعدما اثنى على عمل الفرقة الوطنية للصيد وشدد على ضرورة الاخذ بتوصياتها التي ضمنتها في التقرير تراجع عن موقفه واكتفى بتدوين عبارة “اجراء زيارة الى ولاية قفصة ومعاضدة مجهودات الادارة الجهوية”.
ما يتردد في الكواليس انه رئيسة دائرة الغابات عبّرت عن استعدادها للتدخل لدى قريبها الوزير (وزارة اخرى غير وزارة الفلاحة) للوقوف الى جانب المدير العام حتى لا يتم عزله شريطة اتخاذه قرارا بعزل رئيس الفرقة الوطنية للصيد البري والتخلي عن التقرير الذي انجزته فرقته.
وتشير المعطيات التي تناهت الى الصحيفة إلى ان المدير العام السابق تخلف يوم 15 جوان الفارط عن ترؤس اجتماع اللجنة الوطنية للصيد وإلى ان رئيسة دائرة الغابات بقفصة تحولت الى تونس العاصمة للقائه وبررت سفرتها بجلب أزياء خاصة بأعوان الغابات.
ولكن المؤكد حسب شكايات واردة على وزارة الفلاحة ان قريبة الوزير استغلّت تطمينات المدير العام السابق وتراجعه عن الاخذ بتوصيات الفرقة الوطنية للصيد لمضاعفة هرسلة أكثر من موظف بالدائرة.
شبهات فساد خلف قرار الإعفاء
ملف المدير العام السابق للغابات وُضع على طاولة وزير الفلاحة. ويتضمن الملف شبهات جدية حول استغلاله تمويلات من منظمة الاغذية والزراعة لإنجاز جرد على أشجار الزيتون والأشجار الغابية في نفقات غير قانونية منها تمويل رحلات الى اوروبا وترميم مكتبه بالادارة العامة للغابات الشيء الذي دفع الوزير الى الحسم في امره وتعويضه بمدير عام جديد.
ويبدو ان العزل جاء اثر توجيه الوزير توبيخا للمدير العام بعد ان علم بأن رئيسة دائرة الغابات التقته سرا والاتفاق على التدخل له لدى قريبها الوزير مقابل تستره عن التجاوزات الحاصلة في محميات تحت اشرافها.
ومع قدوم مدير عام جديد للغابات تحوّل فريق التفقدية العامة الى مندوبية الفلاحة بقفصة اين جمّع عديد الشهادات والاتهامات الموجهة للمندوب الجهوي ولرئيسة دائرة الغابات وعدد من الموظفين والنقابيين وفق تأكيد موظف بالوزارة.
الموظف استغرب من عدم حسم الادارة الجديدة للغابات ومن ورائها وزارة الفلاحة في ملف الاعتداءات المتكررة على المحميات. ورغم تثمينه زيارة بالعاتي الاخيرة الى مندوبية الفلاحة بقفصة وتنحية المندوب الجهوي فقد اعتبر ذلك غير كاف للتصدي للفاسدين.
سيارة النقابي والمخازن المُغلقة
موظفون بالمندوبية استغلوا قدوم الوزير الى قفصة لاحاطته علما بما يعتبرونه فسادا متراكما في القطاع رغم مرور أشهر على ابلاغ المدير العام الجديد للغابات والتفقدية العامة بكل التجاوزات المرتكبة على المستوى الجهوي.
وتؤكد مصادر بالمندوبية ان الوزير بادر حال لقائه بالمندوب الجهوي بالاستفسار عن وضعية سيارة ادارية كان يستغلها نقابي دون وجه حق مبينا ان بعض المسؤولين أكدوا ان النقابي امتنع عن اعادتها.
وكشفت المصادر ان الوزير قرر حينها عزل رئيس ورشة السيارات بالمندوبية وأنه طالب المندوب باللحاق به الى الوزارة مشددة على أن بالعاتي لم يغادر قفصة الا بعد ان اطمئن بنفسه على استرجاع السيارة.
وتحدثت المصادر عن وجود شبهات استيلاء على قطع غيار والتفويت فيها لتجار بولاية ساحلية موضحة ان المشتبه فيهم كانوا يتسلمون ثمن التجهيزات المباعة خلسة ودون وجه حق نقدا حتى لا يتم التفطن لعملياتهم المشبوهة.
كما ذكرت المصادر ان الوزير عاين ايضا منبت الغابات بالجهة وانه لاحظ الحالة المزرية التي اصبح عليها مشددة على ان المنبت كان ينتج 800 ألف شجرة وعلى انه العدد تدحرج الى 130 الفا فقط.
وقالت المصادر ان مندوبية الفلاحة بالجهة باتت في السنوات الاخيرة تتزوّد بالاشجار من مندوبيات أخرى مع حلول كل عيد وطني للشجرة.
في السياق نفسه حصلت الصحيفة على مقاطع فيديو توثّق الوضعية الحالية للمنبت وتكشف ما بات عليه من اهمال رغم عشرات الاعوان العاملين به.
وكان الوزير بالعاتي قد تطرّق خلال زيارته الاخيرة الى قفصة الى الوضعية المزرية للمنبت معتبرا انه لو تمت احالته الى احد الخواص لتضاعفت انتاجيته وتحسنت احواله.
موظّف بالوزارة ذكر بدوره ان المندوبية حصلت على تمويل بقيمة 4 ملايين دينار لتسييج محمية عُرباطة واستغلال المنابت العمومية لانتاج اعلاف للحيوانات البرية حتى لا تكون الثروة الحيوانية تحت رحمة المزودين لافتا الى انه لم يتم صرف سوى قرابة ربع التمويل قبل تعيين رئيس دائرة الغابات (سنة 2019) مع العلم انه كان من المفترض ان يتم الانتهاء من الأشغال نهاية السنة الحالية.
من جهة اخرى تشير المعطيات المستقاة من زيارة الوزير الى قفصة إلى أنه اكتشف ان مخزنين تابعين لورشة السيارات بالمندوبية كانا مغلقين والى ان المسؤول على الورشة خرج في عطلة صيفية على متن احدى السيارات الادارية مؤكدة ان الوزير طلب فتح المخزنين واجراء جرد فوري للمخزون وموافاته به في اقرب الاجال.
وأكد احد العاملين بمندوبية قفصة انه وزملاءه ممن يحرصون على تطهير الادارة من العابثين بالمال العمومي يتوسمون خيرا في المدير العام الجديد للغابات ملاحظا انه في صورة تيقنهم من عدم تصديه للتجاوزات سيتوجهون الى وزير الفلاحة لمواجهته بما يجري صلب ادارتهم مشددا على انهم سيلجؤون الى رئيس الجمهورية قيس سعيّد ان لم يلمسوا اي تغيير.
ولئن نجحت جهود عدد من الموظفين النزهاء صلب الوزارة في لفت نظر الوزير بالعاتي الى ما يحدث في مندوبية الفلاحة بقفصة وفي اعفاء المندوب ووضع حد لعربدة بعض المسؤولين فإنهم استغربوا من التأجيل غير المفهوم في تحميل المسؤوليات عن عديد الملفات الحارقة مثل ملف الثروات الحيوانية المنتهكة والرخص المشبوهة والاستيلاءات على الاموال العمومية مع العلم ان كاتب المقال كان قد تحول الى الادارة العامة للغابات لطلب لقاء مع المدير العام الجديد ووجه استفسارات عبر البريد الالكتروني للوزارة لكن لم يتسن له الحصول على أية اجابة الى حدود كتابة هذا المقال.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 أوت 2023