الشارع المغاربي : يُقرّ عنوان هذا المقال بأنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تُمارس ضغوطا على تونس، لكنّه يتساءل إن كانت تلك الضغوط قد بلغت درجة المسّ بسيادة الدولة وضرب استقلاليّة القرار الوطني. موضوع يُثير بين الفينة والأخرى جدلا كبيرًا، غير أنّه كثيرا ما يصطحب بطرح أيديولوجي فيغرق في اللبس ويُطيح بما يستوجبه من وضوح…
اجترّت بعض المواقع الإخبارية التونسيّة منذ أيّام «مقالا مسموما» غير مُمضى منقولا عن موقع فرنسي بعنوان: «ماذا يطبخ حلف الناتو في تونس؟». يزعم المقال المتداول أنّ رصد واشنطن 20 مليون دولار لتمويل مشروع تأمين الحدود التونسية الليبية إنّما يضرب سيادة تونس لأنّه سيكون ثمنا لإقامة قاعدة عسكريّة أمريكيّة على الأراضي التونسيّة. يُعدّ هذا الطرح سطحيًا للغاية، ولا يُصدّقه إلاّ من روّجهُ من سُذّج دون أدنى تبصّر لخلفياته. فمثل هذا المبلغ لا يكفي حتّى لإعادة صيانة طريق سريعة غير طويلة أو لإنشاء مشروع سياحي ذي شأن، فما بالك باشتراطات إقامة قاعدة عسكريّة أمريكيّة!؟. ومع ذلك لا يعني ممارسة واشنطن ضغوطا شتّى على تونس تنفيذا لأجندتها في المنطقة أنّها وجدت أمامها مجرّد حصير بالٍ لتفترشه أو جمهوريّة موز يُمكن أن تدوس سيادتها واستقلاليّة قرارها بمنتهى السهولة.
اشتراطات الحليف…
كما هو معلوم، أعلن البيت الأبيض، خلال زيارة رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي لواشنطن في ماي 2015، منح تونس «صفة حليف أساسي خارج حلف شمال الأطلسي» (الناتو). حينها اشتدّ الجدل في البلاد، لا فقط بسبب توقيع محسن مرزوق مستشار الرئيس آنذاك لوثيقة منح صفة الحليف بدلا من وزير الخارجية، ولكن خصوصا بشأن التداعيات المحتملة لإقرار تلك الصفة واعتبارها مقدّمة لإنشاء قاعدة عسكريّة أمريكيّة في البلاد.
هذا التوصيف روّجه شقّان، أحدهما داخلي يتمثّل في بعض أطياف المعارضة التونسيّة التي اعتبرت الأمر ضربًا لسيادة الدولة التونسيّة، وآخر خارجي تأتّى أساسًا من الجارة الجزائر التي تكتنفها حساسيّة مفرطة من موضوع التعاون العسكري التونسي الأمريكي، بالنظر إلى ما يُخطّطُ أو يمكن أن يُخطّط لها من «سيناريوهات» غربيّة لزعزعة استقرارها. ومن ثمّة اندفعت وسائل إعلام جزائرية إلى الحديث بإسهاب عن وجود قاعدة عسكرية أمريكيّة وهميّة في تونس. واعتبر محلّلوها أنّ منح تونس صفة حليف من خارج الناتو «تهديدا للأمن القومي الجزائري»، يهدف إلى «تطويق» الجزائر بقواعد عسكريّة من الغرب المغربي والشرق التونسي. وعليه، فقد مضت الجزائر بدورها في فرض ضغوط أخرى على تونس لتجنّب قرارات قد تُخفي «تهديدات محتملة». وكان الهدف من ذلك أيضا هو جعل القيادة التونسيّة تحت ضغط دائم.
والأهمّ في كلّ ما حدث أنّ السلطات التونسيّة عرفت، إلى حدّ ما، كيفيّة المُوازنة بين الضغوط المتهاطلة من الجانبين الأمريكي من جهة والجزائري من جهة أخرى. فلا شكّ أنّ تونس، في ظلّ محدوديّة إمكانيّاتها مقابل مواجهتها لأخطار إرهابية غير مسبوقة، بحاجة إلى تلك الصفة من أجل الحصول على تجهيزات عسكرية وتبادل الخبرات والمعلومات والتدريب. يبقى أنّ رئاسة الجمهوريّة ووزارة الدفاع الوطني لم تنجحا «اتّصاليا» إلى حدّ اليوم في رفع اللبس القائم وتجنّب تداعياته المستمرّة. فالأمر لا يتعلّق بإبرام اتفاقيّة للدفاع المشترك مع الحلف الأطلسي، وإنّما بإمضاء وثيقة تمنح تونس «صفةً» سبق أن حازتها العديد من الدول العربية الأخرى مثل المغرب ومصر والأردن والبحرين والكويت وغيرها… وهي تُتيح أصلا الاستفادة من «فائض» أسلحة أمريكيّة ذات طراز «متقادم» نسبيًا، لكنّه كفيل على المدى المنظور بمواجهة الجماعات الإرهابيّة، على غرار صفقة اقتناء 8 مروحيّات «بلاك هوك» أمريكيّة تسلّمت منها تونس أربع طائرات في أوت 2017.
لا يخفي إجمالا أنّ التعاون في المجال العسكري بين البلدين ليس بجديد، بل يعود إلى عدّة عقود ولاسيّما في مجال تدريب القوّات الخاصّة للجيش التونسي، سواء في الولايات المتّحدة أو في تونس. من البداهة إذن أن يُوجد ضبّاط أمريكيّون في البلاد في إطار التعاون في هذا المجال. وليس بسرّ مثلا أنّ الغارة الأمريكيّة على أحد أوكار تنظيم «داعش» الإرهابي بمدينة صبراتة الليبيّة قد انطلق إعداد بعض أطوارها في الجنوب التونسي. والأرجح أنّ السلطات التونسيّة قد قبلت بذلك لاعتبارين أساسيّين، وهما أوّلا: أنّ لتونس مصلحة مباشرة في ضرب الجماعات الإرهابيّة في مدينة ليبيّة لا تبعد عن الحدود التونسيّة سوى سبعين كلم، وثانيا: أنّ الرفض يعني حرمان البلاد من أيّ دعم عسكري ولوجستي في مواجهة الجماعات الإرهابيّة في تونس بالذات.
تعاون لم يتوقّف…
ممّا يُعرف منذ حكم نظام بن علي أيضا أنّ الأسطول السادس الأمريكي الرابض في البحر المتوسط كان يقوم بمناورات بحرية دوريّة في المياه الإقليميّة التونسيّة، وتحديدا قبالة شواطئ قرية «كاب سيرات» التابعة لجهة سجنان بولاية بنزرت. ولم يكن ذلك أيضا بمعطى سرّي لأيّ متابع فطن، حتّى أنّ وسائل الإعلام التونسيّة كانت قد نشرت خبرا قصيرا عن تقديم وزارة الدفاع الأمريكيّة هِبة لصيانة المدرسة الابتدائية بتلك القرية دون أن تجرؤ على ذكر الدافع أو الحضور العسكري الأمريكي في سواحل المنطقة. وهو ما يُشكّل في تقديرنا نوعًا من المرونة الاضطراريّة التي تعاملت بها السلطات التونسيّة مع الأمريكان زمن النظام السابق وإلى حدّ اليوم، رغم أنّها تحاول دائما أن تُبقي علاقات هذا التعاون طيّ الكتمان.
في المقابل لا يخفى أنّ لُعَاب «البنتاغون» ما ينفكّ يسيل عند النظر إلى مثلث الحدود الجنوبيّة لتونس مع الجزائر وليبيا، باعتبارها نقطة إستراتيجيّة تُتيح مراقبة البلدين الجارين وتنفتح على امتداد الصحراء الكبرى التي لم تجد فيها «قيادة القوّات الأمريكيّة لأفريقيا» (أفريكوم) موطئ قدم ثابت إلى حدّ اليوم. وللإشارة فقد نشرت «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي» الأمريكيّة مؤخرا تقريرا يُشخّص الصلات القائمة بين تنامي الجماعات الإرهابيّة في الساحل الإفريقي وتوسّع انتشار القوّات الأمريكيّة جنوبي الصحراء الكبرى. كما ذكر التقرير أنّ مقتل عدد من أفراد القوّات الخاصّة الأمريكيّة، في شهر أكتوبر 2017 في النيجر، أثار عاصفة سياسيّة في واشنطن، لأنّه فاجأ النخب الأمريكيّة بوجود قوّات خاصّة لبلدهم في المنطقة. ومع ذلك اعتبر أنّ مصادقة الكونغرس على إنشاء «أفريكوم»، منذ عام 2007، ترتّب عليها توسّع مطرد للحضور الميداني للقوّات الأمريكيّة جنوبي الصحراء. يعني ذلك في ما يعني أنّ الإدارة الأمريكيّة لا تزال تنازعُها الرغبة في إقامة قاعدة عسكريّة في المنطقة، قد لا تجد لها مكانا أفضل من الجنوب التونسي.
ومن الأهميّة التذكير ههنا بأنّ الدولة التونسية لم تسمح سابقا باستضافة أيّة قوّات عسكرية أجنبية فوق ترابها، ولم ترسل جنودا إلى الخارج إلاّ في مهمّات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فما بالك بإنشاء قاعدة عسكريّة أمريكيّة. فالأمر يتعلّق بعقيدة وطنيّة، لا بمجرّد الحاجة إلى تمرير قرار إنشاء قاعدة عسكرية أجنبيّة بقبّة البرلمان. والجدير بالذكر أنّه بطرد بقايا الاحتلال الفرنسي بعد معركة الجلاء ببنزرت عام 1961، لم تسمح تونس بأن تطأ أقدام قوّات أجنبية التراب الوطني، إلاّ في نطاق زيارات لتبادل الخبرات والتدريب. وحتى خلال عمليّة قفصة التي صمّمها نظام معمّر القذافي بتواطئ مع أجهزة المخابرات الجزائرية ، لم تقبل القيادة التونسيّة عروض دول أجنبيّة بإرسال قوّاتها «للمساعدة» في دحر الكتيبة العسكريّة العميلة.
ضغوط بين الكرّ والفرّ..
مارست الإدارة الأمريكيّة ضروبا شتّى من الضغوط على الدولة التونسيّة، منذ العقود الأولى للاستقلال، بهدف تطويعها وإخضاعها لأجندتها في المنطقة بشكل عام. فمن غير الخفيّ أنّ واشنطن حاولت دبلوماسيًا أن تمنع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة من خوض التجربة الاشتراكيّة واعتماد نظام التعاضد، وذلك في نطاق محاربتها لخطر المدّ الشيوعي، غير أنّه لم يُلقِ بالا لتلك الضغوط ومضى في دعم التجربة إلى حين الإقرار بفشلها.
وفي زمن حكم بن علي لم تتردّد واشنطن في إظهار انتقاداتها للسلطات التونسيّة على بعض خياراتها السياسيّة، رغم التعاون في مجالاتٍ عدّة. وكانت وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة في عهد الرئيس كلينتون مادلين أولبرايت قد رفضت استقبال وزير الشؤون الخارجيّة التونسي عبد الرحيم الزواري خلال زيارة له إلى الولايات المتحدة، بسبب تزعّمه قبل سنوات مظاهرة «شعبيّة» نظمها حزب «التجمّع» للتنديد بالحرب الأمريكيّة ضدّ العراق، وحُرق خلالها العلم الأمريكي. وهو ما اضطرّ بن علي آنذاك لإقالة الوزير الزواري بعد أشهر من تعيينه.
في المقابل أبى بن علي عام 1999 مجرّد مناقشة طلب وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة كونداليزا رايس بعدم تجديد ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسيّة. وطبعا فقد أغضب ذلك الإدارة الأمريكيّة، فأطلقت سيلا من الضغوط الناعمة الهادفة إلى تقويض حكمه من جانب وإلى اختراق سيادة الدولة من جانب آخر. وأضحت تستقطب بعض النخب السياسيّة والشبابيّة التونسيّة لتطوير قدراتها وتدريبها على سبل التغيير والقيادة. ولا ننسى، في هذا الصدد تحديدا، ما فعلته وتفعله منظمة «فريدوم هاوس» المموّلة من وزارة الخارجية الأمريكيّة التي أدار فرعها في تونس لسنوات عدّة محسن مرزوق.
ومن بين محاولات المسّ بالسيادة الوطنيّة، زمن حكم بن علي أيضا، ولم يُكشف عنها للعلن سابقا ما أبلغني به الإعلامي الراحل حمادي بن عبد الله حين كان مكلّفا بدائرة التعاون والاتصال في الشركة التونسيّة للكهرباء الغاز، مفاده أنّ رجل أعمال تونسي مقرّب من واشنطن أقدم على اقتناء أرض شاسعة بأحد مرتفعات منطقة الهواريّة بالوطن القبلي، بعد أن بلغ علمه أنّ الدولة تُخطّط لإنشاء محطّة كهربائيّة كبرى في المنطقة. وبمجرّد إعلام رئيس النظام السابق بأنّ رجل الأعمال المعني كان مجرّد اسم تقف وراءه جهات أمريكيّة بهدف الاستحواذ على قطاع حيوي في البلاد، أمر بانتزاع الأرض لفائدة الدولة. وهو ما أدّى وقتها إلى احتجاج أمريكي حادّ عبر القنوات الدبلوماسيّة المغلقة.
الدعم مقابل التطبيع!
أمّا اليوم، وبعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فقد أخذت دائرة الضغوط منحى تصاعديّا برز في اتّجاه آخر، وهو دفع تونس إلى تغيير سياسة مقاطعتها لإسرائيل. والأكثر من ذلك أنّ البيت الأبيض أعلن اعتزامه تقليص المساعدة المالية الأمريكيّة لتونس عقابًا لها على موقفها الرافض علنا لإعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للصهاينة ونقل سفارة بلاده إليها.
تجدر الإشارة، في السياق ذاته، أنّه خلال زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى الولايات المتحدة، خلال شهر جويلية 2017، أصدرت لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس «لائحة» حثّت، في إحدى نقاطها، تونس على الامتناع عن التصويت على أيّة قرارات تستهدف «إسرائيل» في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، مقابل دعوة الإدارة الأمريكيّة إلى تأمين الدعم المالي للحكومة التونسيّة. ومع ذلك فإنّ رئيس الحكومة صرّح علنًا أنّ تونس غير معنيّة بهذه النقطة، ونفى بشكل كلّي أن يكون قد ناقش مع المسؤولين الأمريكيّين أيّة مواضيع تتعلّق بـ«الاعتراف بإسرائيل أو التطبيع معها».
ومن أوجه الضغوط غير المعلنة الأخرى أنّ الأمريكان قد حاولوا، بعد الثورة، أن يجعلوا من تونس مخبرًا لقياس مدى نجاح الإسلام السياسي في الحكم والتجانس مع النظام الديمقراطي، بعد فشله في مناطق عربيّة أخرى. كما لا يخفى ما نراه من ضغوط سلسة أخرى تأخذ اليوم طريقة دعم مكوّنات المجتمع المدني، باعتبار أنّ من يُموّل غالبا ما تكون لديه أجندّة معلنة وأخرى خفيّة تتجاوز العناوين العريضة. ومن أمثلة ذلك إعلان «المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية» التابع للحزب الديمقراطي الأمريكي، في جويلية 2017، عن تمويل 6 مشاريع تُغطّي مختلف مراحل الانتخابات البلديّة التي ستنتظم بعد شهرين. وقد استفادت منها ستّ جمعيات تونسيّة لم تجد من يدعم نشاطها محليّا وتضمّ كلّا من «مرصد شاهد» و«شباب بلا حدود» و«ائتلاف أوفياء» و«أنا يقظ» و«مراقبون» و«المركز التونسي المتوسّطي».
كلّ هذا لنقول إنّ الضغوط الأمريكيّة وما تشمله من محاولات ابتزاز وتدخّل في الشأن التونسي لم تغب يومًا ولم تُفوّت أيّة فرصة لاختراق المشهد السياسي والمدني والأمني التونسي، غير أنّ هذه الدولة، بصرف النظر عن الأسماء، تمسّكت في حدود الممكن بسيادتها ولم تسمح بانتزاع قرارها. فهل من مُتبصّر!.