الشارع المغاربي : لماذا لا يُجرّب الرئيس السابق المنصف المرزوقي طريقا آخر لمحاولة العودة إلى قصر قرطاج غير الإمعان في تقسيم التونسيّين؟!. لا أحد يُنازع حقّه في توجيه ما يشاء من نقد لاذع إلى خصومه السياسيّين، لكنّ ادّعاءه أنّ”صفاقس مستهدفة” و”ضُربت لأسباب جهويّة” لا يمتّ بصلة لهذا الحقّ،وإنّما يعكس خطاب تحريض صريح!…
عاود المنصف المرزوقي في صفاقس اللجوء إلى أساليب عُرف بها سابقا من أجل محاولة الصعود من جديد إلى سطح المشهد السياسي. وللأسف فإنّ ضرب التونسيّين بالتونسيّين ليس بجديد أو غريب عن نهجه الخطابي والسياسي. فقد سبق له أن مارس هذاالأسلوب الشعبوي في عدد من جهات البلاد، سواء خلال الحملة الانتخابيّة السابقة أو في جولاته الحزبيّة، ولاسيما في الجنوب التونسي…
صفاقس رأس الحربة!
من السذاجة التصوّر أنّ رئيس حزب الحراك قد عزته، خلال زيارته منذ أيّام لصفاقس،الأفكار أو العبارات ليسقط في اعتماد منطق جهوي لا يؤدّي إلّا إلى تغذية الأحقاد بين أبناء البلد الواحد. فقد ذهب بوضوح، في لقاء مع إذاعة “ديوان.آف.آم”، إلى أنّ صفاقس مستهدفة بقرار سياسي. كما روّج أنّ: طاقة العمل والتفوّق الكامنة لدى سكّان صفاقس ضُربت لأسباب جهويّة تقف وراءها أطراف لا تفكر بعقليّة الوطن الجامع.وليس هذا فقط، فقد اعتبر المرزوقي أيضا أنّ “صفاقس ضُربت لأنّ سكّانها أحرار وخدّامة”، على حدّ تعبيره.هذا الخطاب لا يحتاج إلى تحليل عميق لتبيّن بعده التحريضي البارز. ولسائل أن يسأل عندها: كيف لمواطنين من جهات وولايات أخرى أن يصدّقوا المرزوقي إذا أعاد عليهم في محطات وزيارات مقبلة إنتاج الخطاب نفسه ولو بعبارات أو مسوّغات أخرى!.
ومن مفارقات هذا الخطاب الملتبس أنّ المرزوقي اتّهم خصومه السياسيّين بعدم التفكير بـ”عقليّة الوطن الجامع”، في حين أنّه لم يمارس هو في حدّ ذاته سوى ما رمى به غيره. ولا أدلّ على ذلك من الحديث عن صفاقس المستهدفة بالمقارنة مع غيرها من الجهات.فمن المعاني الثابتة للخطاب السياسي أنّ الترويج لاستهداف جهة معيّنة يعني أنّ هناك جهات أخرى، تخون المرزوقي شجاعة ذكرها، استفادت ممّا حرمت منه تلك الجهة. وهذا في حدّ ذاته إمعان في بثّ سموم الفرقة والفتنة بين جهات البلاد المختلفة.
ومن المظاهر الشعبويّة المنفلتة التي يعنيها ترويج هذا المنطق التمييزي هو الركون إلى صغائر التوصيفات. فقد جعل ضمنيا ما يمكن أن نسمّيه بـ”الحسد” سببًا في هذا الاستهداف المزعوم.ويكمن ذلك في إقرار المرزوقي بوجود “علاقة سببيّة” بين استهداف صفاقس وطاقة العمل المتفوّقة لدى سكّانها “الخدّامة”. المرزوقي لم يشأ أيضا الاكتفاء بهذا الإفصاح تلميحا، بل اعتبر بوضوح أنّ هناك “أسبابا جهويّة” تقف وراء ضرب صفاقس المتحدّث عنه…
ومن الواضح أنّ الإشكال القائم في هذه التهويمات المتعمّدة إنّما يكمن في أنّ هناك فئات ستصدّقها وتعتبرها بمثابة حقائق منزّلة، إعمالا لمنطق التظلّم والمظلوميّة. وفي هذا الصدد، لا نستغرب أصلا أنّه حتّى لو استخدم الموقف والعبارات نفسها مع تغيير اسم الجهة فقط، فإنّه سيجد في تلك المنطقة آذانا صاغية أخرى مولعة بارتداء ثوب الضحيّة.
والمقصود هنا أنّه من الطبيعي أن تحظى ولاية صفاقس كغيرها باستثمارات تنمويّة أكبر على أكثر من صعيد، غير أنّ ما ليس طبيعيّا هو أن يدفعها بعض السياسيّين إلى مواجهة الجهات الأخرى بكمّ هائل من الحقد والضغينة، على غرار ما فعل المرزوقي خلال زيارته اليها بمناسبة إحياء الذكرى الخامسة لإصدار دستور الجمهوريّة الثانية. والحال أنّ الجهد التنموي في هذه الولاية ليس أسوأ ممّا هو عليه في العديد من مناطق البلاد. وقد يكون أفضل من أوضاع مناطق داخليّة عديدة تعاني قدرا أكبر من الهشاشة والحرمان. وهذا ليس بسرّ أو اكتشاف جديد، ولا يمسّ بأحقيّة صفاقس في نيل حظها وحقّها من سبل التنمية.
اختار رئيس الجمهوريّة السابق إذن أن يتلفّظ بهذا الخطاب في صفاقس بالذات لمعرفته خصوصا بأنّ لهذه الولاية وزنها التعبوي، فجعل منها رأس حربة لحملته الانتخابيّة المبكّرة. وهو بلا ريب في أمسّ الحاجة لتحريك زخم جماهيري استعدادا للاستحقاق الانتخابي الذي بدأ يُسيل لعاب الطبقة السياسيّة وقيادات أحزاب الصفّ الأوّل والصفّ الثاني مثل حزب المرزوقي وغيره.
انتهازيّة انتخابيّة!
لا أحد،غيرالمكابرين،يُنكر أنّ النعرات الجهويّة قائمة في تونس أصلا، ولا تحتاج للأسف الشديد إلّا لمن يُجيد اللعب على حبائلها ويُتقن بثّ سمومها من أجل إيقاظها من تناومها المؤقّت.وطبعا فإنّه كلّما اقترب زمن الانتخابات إلّا وتفاقم هذا النوع من الخطاب الضارّ بوحدة التونسيّين واشتدّ. والواقع أنّ هناك فئات في صفاقس، كما في الجهات الأخرى، متهيئة لاستقبال مثل خطاب المرزوقي المبني على تقسيم المواطنين إلى ضحايا وجلّادين وتشتيت صفوفهم المشتّتة أصلا.
ولا يخفى، في هذا المضمار، أنّه سبق ترويج مثل هذا الخطاب التضليلي على ألسنة العديد من السياسيّين المتفوّقين المستخدمين أكثر من غيرهم الشعارات الشعبويّة في جهات مختلفة، على غرار صفاقس بالذات. وقد كان الوجه الرياضي والنائب السابق بالمجلس الوطني التأسيسي صلاح الدين الزحّاف قد أوغل بدوره في استنطاق المعجم الجهوي التحريضي عبر تصريحه الشهير الداعي، أواخر مثل هذا الشهر من عام 2017، إلى فصل ولاية صفاقس عن بقية الجمهورية. وقال آنذاك حرفيّا: “خلّي نجبدو رواحنا من برّ تونس وتو أحنا بالمداخيل متاعنا وبضرائبنا وبجهدنا تو نقومو بيها البلاد هاذي”. وهو بلا أدنى شكّ منطق يقوم على تغذية الأحقاد وبثّ الكراهية والتمييز بين أبناء الوطن التونسي.فمن المعلوم أنّ أيّ سياسي يفقه الحدّ الأدنى من منطق الدولة الحديثة يرفض بالضرورة السقوط في ترويج خطاب تمييزي يدافع عن أولويّة المزايا التنمويّة لمن يدفع الضرائب أكثر من غيره.
وعموما فإنّ خطاب المرزوقي بدا، لمن يحاول تحليله والربط بين حلقاته، مختلا بين الدفاع عن فكرة والقول بنقيضها. ومن ذلك أنّه دعا، حسب ما نقلت عنه وكالة تونس إفريقيا للأنباء، إلى حوار وطني لإيجاد الحلول للمشاكل التي تعانيها البلاد بعيدا عن التجاذبات السياسيّة. وهو ما يندرج ضمن ما يُعدّ “حقّا أريد به باطل”، باعتباره قد حقّق نجاحا فائقا في بلورة خطاب من شأنه أن يُغذّي النعرات الجهويّة، فما بالك بالتجاذبات السياسيّة؟!.
ومن المضحكات المبكيات أنّه يتحدّث من ناحية عن “حوار وطني”، ومن ناحية أخرى يُحذّر أنصار حركة النهضة وقياداتها من أنّ “المنظومة التي تشتغل بتعليمات الجهات الخارجيّة وأوامر الفاسدين” ستتخلّص من حركة النهضة لاحقا،وكأنّه يضطلع بدور “المنقذ من الضلال” الذي اكتشف السرّ العظيم، فجاء لتنبيه النهضويين ممّا يُدبّره لهم قصر رئاسة الجمهوريّة وزمرة حلفائه في حلكة الليل. ومن ثمّة لا يمكنهم إلّا التعويل على المرزوقي ولا أحد غيره.وهنا يأتي طبعا الشقّ الثاني من مناورة المرزوقي المتمثّلة في مُغازلة حركة النهضة. ومن ذلك أنّه جدّد بمناسبة زيارته لصفاقس تبرير رفضه مشروع القانون المتعلّق بالمساواة في الميراث بكونه مجرّد “عمليّة سياسيّة مبنية على تلهية الناس” وبأنّه يناقش هذه القضيّة “من داخل المنظومة الإسلاميّة”، حسب ما ذهب إليه. والحال أنّه أعلم من غيره، بوصفه رئيسا سابقا للرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان،بأنّ المساواة وحقوق الإنسان عموما لا ينبغي أن تخضع لمنطق الأولويّات والأجندات. وعليه، فإنّ موقفه المذكور لا يمكن إدراجه إلّا في خانة الانتهازيّة المجحفة التي تُسيء لمسيرته الحقوقيّة وتكشف أنّ حساباته الانتخابيّة الشخصيّة تعلو على أيّة اعتبارات حقوقيّة أو مبدئيّة.
مغالطات
من أفضال المرزوقي أيضا أنّه لا يستطيع ابتلاع لسانه وما يُنبئ به مضمون الكلام قبل موعده. فقد استخدم جهاز كشف المستقبل، معلنا توقّعه بأنّ الانتخابات الرئاسية المقبلة ستُحسم في دورة ثانية. وتوقّع أيضا أنّه سيبقى مرشحان، أحدهما تابع للمنظومة القديمة. وهو ما يعني في منطق العرافة والتنجيم هذا أنّ المرشّح الثاني لا يمكن أن يكون إلّا من المنظومة الجديدة، وتحديدا من أعداء الثورة المضادّة. ولم يبق له إلّا أن يفصح عن اسم المرشح الثاني الذي سيصل إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة وهو في نظره، وحسب حسابات الكواكب والنجوم، لا يمكن أن يكون سوى المنصف المرزوقي!.
ومن المغالطات الفاحشة الإيحاء من وراء كلّ هذا بأنّ المرزوقي حين يُحقّق هدفه الأسمى بأن يصبح رئيسا منتخبا للجمهوريّة سيتمكّن من تحقيق العدالة الاجتماعيّة والرفاه التنموي. ومن ثمّة سيمكنه الوقوف سدّا منيعا أمام استهداف جهات بعينها مثل صفاقس. والحال أنّ الدستور التونسي لا يُعطي صلاحيات تفعيل تلك الوعود لرئيس الجمهوريّة وإنّما تحديدا لرئيس الحكومة. وكما هو معلوم، يبدو من شبه المستحيل أن يفوز حزب المرزوقي بثلث مقاعد مجلس نوّاب الشعب أو حتّى ربعها التي تُخوّل له عمليّا إمكانيّة تصدّر الأحزاب القادرة على تشكيل الحكومة. وبذلك لن يكون لديه، بعد الانتخابات المقبلة، الحدّ الأدنى من القوّة لتحقيق برامجه إن وُجدت فعليا.
ومنتهى الحديث إذن أنّ المرزوقي إنّما اختار خوض هذا السباق المحموم نحو قصر الرئاسة بقرطاج من بوّابة الشعارات الشعبويّة والانتهازيّة الضيّقة الكفيلة فقط بمزيد تقسيم التونسيّين وإذكاء النعرات الجهويّة.