الشارع المغاربي – منير السويسي : قال مركز البحوث الأمريكي “كارنيغي” إن العزوف الكبير للشباب التونسي عن أداء الخدمة العسكرية “أرغم الجيش على اللجوء إلى التعاقد مع الجنود. مما ألقى أعباء إضافية على ميزانيته الهزيلة أصلاً” مقترحا اتباع إجراءات “صارمة” لتقليل “العبء المالي الناجم عن توظيف جنود محترفين على أساس عقود سنوية“، وإلزام الإناث بأداء الواجب الوطني.
وفي تقرير حديث بعنوان “أمّة التهرّب من التجنيد” دعا المركز السلطات التونسية إلى “اتخاذ خطوات معيّنة لمعالجة نظام التجنيد الإجباري المتصدّع في تونس“.
وقال المركز إن “عجز” الجيش التونسي “عن فرض التجنيد على الشبّان، أدى إلى تضاؤل عدد المجنّدين، وانخفاض معنويات المسجّلين، ونقص عام في الجهوزية لدى الرتب الصغيرة“.
ولاحظ أن “هناك فقط بضع مئات من الشبّان التونسيين يكلّفون أنفسهم عناء الخدمة (العسكرية) كلّ عام، وهي حقيقة مُقلقة حدّدها وزير الدفاع (عبد الكريم الزبيدي) عندما كشف عن التحاق 506 شبان فقط (بالجيش) من أصل أكثر من 31 ألفاً في عام 2017“.
وأشار إلى أن “التهرّب من التجنيد يحدث، على الرغم من أنّ عقوبته يمكن أن تتراوح بين السجن لمدّة ثلاثة أشهر وسنتين“.
وحسب وزارة الدفاع التونسية، هناك 200 ألف تونسي لديهم قضايا منشورة أمام القضاء العسكري بسبب “تخلّفهم” عن أداء الواجب الوطني رغم تلقيهم دعوات في هذا الشأن من الوزارة.
وأضافالمركزأن “ما زاد الطين بلّة أنّ التمويل المقدّم من الحكومة التي تعاني من ضائقة مالية، أصبح أكثر صعوبة، مما حرم الجيش من الموارد اللازمة لمهمّات التجنيد والتدريب“.
ولفت إلى انه على الرغم من أن “قانون الخدمة العسكرية الإلزامية أُقِرَّ في تونس منذ فترة طويلة، فإنّ تنفيذه الفعلي كان غير مكتمل وغير متّسق“.
وقال “يعود عدم الاتساق في تطبيق التجنيد تاريخيا إلى أسباب عدّة. فتونس تتبنّى تقليديا سياسة خارجية مُحايدة، ساعيةً إلى النأي بنفسها عن المنافسات بين جارَيْها في الغرب الكبير منها، أي الجزائر والمغرب، وعن اضطراب جارتها في الشرق، ليبيا. وقد منح هذا الحياد الدولة الصغيرة نسبيا إحساسا بالأمان والاستقرار، وقلّص الحاجة إلى وجود جيش دائم مُكلّف وكبير“.
وذكّر بأن نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي “تعمّد توسيع قوّات الأمن المرتبطة بوزارة الداخلية للحفاظ على أمن النظام، ما قلّل من دور القوّات المسلّحة وعددها“.
ولفت إلى أن الخدمة العسكرية أصبحت في عهد بن علي “أداة للتقسيم الطبقي الاجتماعي والعقاب السياسي“.
وأضاف “ففي حين كان التونسيون المنحدرون من المناطق الساحلية الأكثر ازدهارا نسبيا، ممثلّين بشكل غير متناسب في الرتب العليا من السلك العسكري، كان التونسيون الأفقر والأقل تعليما المنحدرون من المناطق الداخلية والجنوبية والجبلية يخدمون كمجنّدين، وتم أحياناً اعتقالهم في حملات مداهمة” في إشارة إلى ما يعرف بـ“الرافل“.
و“علاوةً على ذلك، اختير الشبّان المنشقّون (المعارضون للنظام) بشكل انتقائي ليخدموا كمجنّدين، كشكل من العقوبة المخفّفة” (“رجيم معتوق” نموذجا).
وأشار المركز إلى أن نظام “التعيينات الفردية” الذي أقرّه بن علي عمّق من عدم المساواة بين عموم التونسيين في أداء الخدمة العسكرية.
ويمكّن هذا النظام الشبان الذين يعملون في مهن حرّة أو موظفين بالقطاع العام من إجراء فترة تدريب أساسية مدّتها 21 يوما فقط بإحدى ثكنات الجيش ثم دفع “مساهمة مالية إلى صندوق الخدمة الوطنية تعادل نسبة من الحدّ الأدنى المضمون للأجور في البلاد“.
مسؤوليات جديدة أمام الجيش
وتابع أنه بعد الإطاحة بنظام بن علي في 2011، وجد الجيش التونسي نفسه أمام “مسؤوليات جديدة” و“واجبات متزايدة” مثل المشاركة في حفظ النظام العام وهي في الأصل مسؤولية قوات الأمن الداخلي، وحماية الحدود ومقاومة الهجرة غير الشرعية، مما أدى إلى “إجهاده“.
ولاحظ مركز “كارنيغي” أن كل الحكومات المتعاقبة على تونس منذ 2011 “فشلت في تقديم حلّ دائم” لمشكلة عزوف الشباب عن أداء الخدمة العسكرية، وأن هذه المشكلة مازالت قائمة حتى مع تأكيد دستور 2014 على وجوب أداء الخدمة العسكرية.
وقال “يتطلّب هذا المأزق تحرّكا فوريا وجذريا لتطوير مفهوم الخدمة العسكرية في البلاد” مؤكدا “الحاجة إلى نظام تجنيد يسمح بتوفير عدد كافٍ من الأفراد المدرّبين الذين يمكنهم تأمين الحدود التونسية“.
ودعاإلى “إنشاء نظام صارم لتتبّع الشباب في سنّ التجنيد، وضمان مجيئهم للتقييم، وفرض عقوبات على المتهرّبين من الخدمة والفارّين منها” وعدم منح الإعفاءات من الخدمة العسكرية “إلّا في حالات خاصة أو قصوى“. كما دعا إلى “ابتكار نظام سحب عشوائي (قُرعة) يضع ضوابط إيجابية لمستوى التعليم، والتمثيل الجهوي، وفرص التوظيف” عند تجنيد الشباب.
لكنهأقربأنتطبيقذلكسيكونأمرا “مُكلفاً ويستغرق ردحاً طويلاً من الزمن” و“سيتطلّب إنشاء شبكة لوجستية واسعة تتضمن التنسيق مع البلديات والولايات ومراكز الشرطة المحلية“.
وتوقع أن “يؤدي فرض قوانين التجنيد الصارمة إلى بروز معارضة سياسية واستياء اجتماعي في بلد ذي نظام تجنيد غير مرهق تاريخيا” وأن ذلك يتطلب من الجيش “حشد أكبر قدر ممكن من الدعم السياسي في أوساط الأحزاب السياسية قبل تطبيق أي قانون” جديد للتجنيد.
واعتبرأن “إدراج المرأة في جمع المجنّدين لن يؤدي فقط إلى تحقيق المساواة بين الجنسين، بل سيضاعف أيضا على الفور عدد الجنود المؤهّلين“.
وتابع “يمكن لنظام مماثل أن يعوّض العديد من أوجه القصور القائمة عن طريق توفير أعداد كافية من المجنّدين باستمرار، وإنفاذ الخدمة العسكرية بطريقة لا تنطوي على تمييز ولا تعتمد على عقوبة“، “”لكن ما هو على المحك هنا هو أن فشل نظام مماثل سيقوّض فرصة بروز جيش تونسي أكثر جهوزية واحتراماً“.
*رئيس “منتدى تونس للصحافة والمعلومات“.