الشارع المغاربي- محمد الجلالي: ”تُقدَم لوكالة حماية المحيط وجوبا دراسة حول احتمال التأثيرات السلبية على المحيط قبل انجاز أية وحدة صناعية أو فلاحية أو تجارية تمثل حسب طبيعة نشاطها أو بسبب الإنتاج أو التحويل المستعمل مخاطر لتلوث المحيط أو تدهوره”. بهذا الفصل الوارد في القانون المتعلق بإحداث الوكالة اضافة الى امر حكومي صادر في 2005 حدّد المشرّع دور الوكالة في ابداء رأيها في دراسات المؤثرات على المحيط بالنسبة لكل مشروع قد يتسبب نشاطه في تلويث المحيط.
على مدى سنوات خلت كانت وكالة حماية المحيط حارسا يقظا لتنمية مستديمة تراعي خاصة الأبعاد البيئية وحتى الاجتماعية ولا تعطل عجلة الاقتصاد فكيف هو الحال اليوم؟ وما حقيقة تأخر الوكالة في الادلاء برأيها في مئات الدراسات حول المؤثرات على المحيط التي أودعها مستثمرون تونسيون واجانب؟ ما الذي تغير اليوم حتى تتعالى تشكيات عديد المستثمرين واصحاب مكاتب الدراسات مما أسموه تعطيلا متعمدا من بعض موظفي الوكالة للتنمية؟ إلى أي مدى أثّر ملف النفايات الايطالية في عمل الوكالة؟ وما حقيقة وجود غايات سياسية وراء تأخر ادلاء الوكالة برأيها في الدراسات الواردة عليها من مستثمرين؟
جلسة تُخفي أزمة
يوم 10 أفريل المنقضي كان سير عمل وكالة حماية المحيط محور جلسة بإشراف وزيرة البيئة ليلى الشيخاوي المهداوي بالوزارة. الوزيرة أشارت إلى أهميّة دراسات المؤثرات على المحيط ودراسة إزالة التلوث من الناحية البيئيّة داعية الى ضرورة التسريع في دراسة الملفات العالقة تجنبا لتعطيل المشاريع الكبرى ومعاضدة للمجهود الوطني في دعم الاستثمار بصفة عامة وخاصّة منه المتعلّق بالمجال البيئي.
ما لم يتضمنه بلاغ الوزارة هو إشارته الى تلقيها عديد التشكيات الصادرة عن مستثمرين ومكاتب دراسات بسبب ما اعتبره اصحابها تأخيرا مبالغا فيه من بعض موظفي الوكالة في الحسم في مئات الدراسات حول المؤثرات على المحيط التي اودعوها لديها تزامنا مع انفاقهم ملايين الدنانير على مشاريع لم تر النور والتأخر أيضا في الادلاء برأي الوكالة في دراسات ازالة التلوث بالنسبة لشركات منتصبة بما جعلها عرضة لخطايا مالية كبرى سلّطتها عليها.
التشكيات لم تقتصر على وزارة البيئة وانما وُجهت أيضا الى رئاسة الجمهورية في أكثر من مناسبة لمطالبتهما بالتدخل وبحث الوكالة على التسريع في تقييم الدراسات والتقيد بالقانون الذي يفرض عليها الادلاء برأيها في الدراسات المعروضة عليها في آجال معينة والا اعتُبر سكوتها موافقة ضمنية على الدراسة.
يذكر ان الفصل 9 من القانون عدد 1991 الذي يتعلق بدراسة المؤثرات على المحيط حدد للوكالة أجلا بواحد وعشرين يوما مفتوحة من تاريخ تلقيها دراسة شركة منصوص عليها بالصنف “أ” وأجلا بثلاثة أشهر مفتوحة من تاريخ تلقيها دراسة شركة منصوص عليها بالصنف “ب” لإبلاغ قرارها بالاعتراض على إنجاز الشركة مشددا على ان انقضاء الآجال يعني موافقة ضمنية من الوكالة على بعث الشركة.
ونص نفس الفصل على أن يُمدد أجل الواحد والعشرين يوما مفتوحة إلى ثلاثة أشهر مفتوحة بالنسبة إلى الصنف “أ” من الشركات التي يمكن أن تكون لها تأثيرات على المناطق المتمتعة بحماية قانونية كالغابات والمناطق والمشاهد الطبيعية أو التاريخية والمناطق الحساسة والمناطق الرطبة والمناطق المحمية والحدائق الوطنية والمنتزهات وعلى مختلف أصناف الحيوانات والنباتات.
قضية جزائية
كشف المستثمر نسيم العوني في شهادة أدلى بها لـ “الشارع المغاربي” انه اضطر الى اللجوء الى القضاء الجزائي ورفع قضية جزائية بإيمان القروي مديرة تقييم الدراسات بالوكالة بعد أن تأخرت في الادلاء برأيها في دراسة المؤثرات على المحيط التي اودعها بالادارة منذ 11 مارس 2021.
العوني اتهم أيضا مديرة تقييم الدراسات بهرسلته وبمحاولة دفعه الى ارتكاب جريمة الارشاء قائلا في تصريح لأسبوعية “الشارع المغاربي”: قدمت شكاية في الهرسلة وفي الدفع نحو الارشاء.. كل الطرق والافعال والتلميحات التي لمستها خلال تعاملي مع الموظفة المذكورة تؤكد وجود محاولات غير مباشرة لدفعي للارشاء”.
وأضاف: ” يوم 21 مارس 2021 اودعت دراسة المؤثرات على المحيط على ان يتم تقييمها وادلاء الوكالة برأيها فيها خلال 3 أشهر وفق برنامج واضح ودقيق لكني لم اتلق رأي الادارة رغم انجاز مهندسيها زيارة ميدانية الى شركتي في 30 مارس 2021. وتم اعلامي بأنه تمت في افريل 2021 مراسلة وكالة التصرف في النفايات لاستشارتها فاكتشفت ان المراسلة لم تتم الا يوم 3 أوت من نفس السنة.”
وتابع: “بقي الحال على ما هو عليه الى ان تلقيت في مارس 2022 مراسلة من الوكالة مفادها انه ” سيتم ارجاء النظر في ملف شركتي الى حين التشاور مع سلطة الإشراف”.
يتمثل نشاط شركة المستثمر نسيم العوني في تجميع ورسكلة حاويات معدنية مستعملة في نقل زيوت المحركات بعد تنظيفها من المواد الكيميائية العالقة بها وتسليم الزيوت المستعملة الى احدى الشركات المختصة في تجميعها.
ولئن تمسّك المستثمر باعتبار الحاويات المعدنية فضلات غير خطيرة بعد تنظيفها وتعقيمها مستشهدا في ذلك باعتراف وكالة التصرف في النفايات فقد اكدت ايمان القروي في تصريح لـ “الشارع المغاربي” ان البراميل التي تحتوي على نفايات خطيرة تعتبر حسب القانون بدورها نفايات خطيرة ذاكرة ان ادارتها اعلمت العوني بأنها ستؤجل النظر في ملفه في انتظار التنسيق مع الوزارة لانجاز استراتيجية توضح كيفية التصرف في النفايات الخطيرة.
وكشفت القروي ان الادارة لم تقف مكتوفة الأيدي وانها نصحت المستثمر بإجراء تعديل في المشروع حتى يتطابق مع القانون بيد أنها لم تجب عن سؤال الجريدة بخصوص الاجراءات التي اتخذتها الوكالة للتصدي لما يتم يوميا من عمليات تفويت مؤسسات عمومية وخاصة في حاويات مواد كيميائية قبل بيعها من قبل تجار الخردة لاستعمالها في تخزين مياه الشرب.
من جهته أشار العوني الى أن عدم حسم الوكالة في ملفه كبّده خسائر بـ 500 ألف دينار اضافة الى حرمانه من التمتع بقرض من بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة رغم حصوله على موافقة أولية على ذلك.
ولفت الى ان تعطل مشروعه على امتداد سنتين دفعه الى التشكي الى الوزارة في مناسبات عديدة والى ان ذلك لم يجد نفعا مؤكدا انه ليس الوحيد المتضرر من تعطيلات ادارة تقييم الدراسات بالوكالة ذاكرا انه كان شاهد عيان على اصابة احد المستثمرين بنوبة عصبية حادة عند مغادرته مقر الوكالة بسبب تعطيل غير مفهوم لمشروعه.
تعطيل واتهام
”هل يعقل ان تحكم وكالة حماية المحيط بالفشل على مشاريع تنموية حتى قبل انطلاقها؟” بهذا السؤال اطنبت مريم وهو اسم مستعار لصاحبة مكتب دراسات باحدى مدن الشمال في تعداد المشاريع المعطلة بسبب تأخر الوكالة في الادلاء برأيها على امتداد أشهر وحتى سنوات.
مريم التي طلبت عدم الكشف عن هويتها خشية مزيد تعطيل الدراسات التي اودعتها بالوكالة قالت ان نسق ادارة تقييم الدراسات اصبح لا يطاق وان الادارة اصبحت تتأخر كثيرا في الاجابة وانها حتى ان ردّت بعد أشهر تتعسف في طلب توضيحات.
واكدت ان بعض موظفي الوكالة اصبحوا يبررون للمستثمرين عدم ردهم على الدراسات في الاجال المنصوص عليها بعدم كفاءة مكاتب الدراسات قائلة: الإشكال ان موظفين بالوكالة يعطلون التنمية ثم يتهمون مكاتب الدراسة بعدم اتقان عملهم”.
من جهة أخرى تساءلت مريم: “هل يعقل ان ينتظر مستثمر شهورا طويلة حتى تدلي الوكالة برأيها في دراسة المؤثرات على المحيط ثم يجيبه احد الموظفين شفويا ان سبب رفض المشروع ان تجهيزاته قادمة من الصين مقترحا عليه اقتناء تجهيزات جديدة من بلد آخر؟” مضيفة “كيف يتعمد مهندس بالوكالة اجراء زيارات ميدانية لاحد المشاريع دون التنسيق مع صاحبه الذي اودع بالدراسة ارقام هواتف للتواصل معه ثم يكتفي بالتحجج بانه لم يتمكن من انجاز عمله الميداني بدعوى ان الشركة مغلقة؟”
على غرار مريم تذمّر عدد من أصحاب مكاتب الدراسات مما اسموه بطئا مبالغا فيه في التقييم مع العلم انهم مكلفون باجراء دراسات المؤثرات على المحيط او دراسات إزالة التلوث لفائدة مستثمرين قبل ايداعها لدى الوكالة.
اصحاب المكاتب بيّنوا ان الاشكال في بعث المشاريع انه لا يمكن لها المرور الى أية مرحلة قبل فض الاشكال البيئي مع وكالة حماية المحيط رغم تنصيص القانون على ان سكوتها مع انقضاء الاجال القانونية يُعتبر موافقة ضمنية ملاحظين ان الايقاع الذي تعمل به الوكالة لا ينسجم مع نسق الاستثمار وانه يدفع المستثمر الى العزوف ومغادرة البلاد.
ولفتوا الى ان عديد مكاتب الدراسات التي عادة ما يرتبط عملها بنسق الاستثمار غادرت البلاد نحو بلدان افريقية أو اوروبية اضافة الى افلاس مكاتب أخرى مشددين على ان تونس تعتمد في تعاملها مع الشركات أسسا وقواعد تعجيزية تجعل عملية بعث مشروع مرهقة ومعقدة ومكبّلة.
واعتبر العديد من اصحاب المكاتب ان الادارة تنظر الى المستثمرين ومكاتب الدراسات على انهم اعداء وجب التصدي لهم وان تأخر الوكالة في الافصاح عن رأيها ناتج أساسا عن اشكال في التصرف في الملفات بسبب غياب الكفاءة وعدم الالمام والاطلاع فضلا عن وجود شبهات فساد تحوم حول بعض الموظفين.
في هذا السياق بيّن موظف بوزارة البيئة فضّل عدم الكشف عن اسمه ان عديد الموظفين المشرفين على النظر في الدراسات كانوا محل شبهات فساد او لا زالوا يترددون على القضاء في عديد القضايا.
واستغرب الموظف من عدم تحرّك الوزارة لتحييد هؤلاء الموظفين بحكم الاشتباه في ارتكابهم افعالا هي الآن من انظار القضاء في ادارات لا يزالون يشرفون عليها.
المصدر ضرب كمثال على ذلك اعادة مدير الى نفس الادارة التي كان يشرف عليها قبل ان يتم ايقافه بتهمة الترخيص لشركة صناعية لنائب سابق بالبرلمان المحل رغم انتصابها في أرض فلاحية.
وقدّر صاحب مكتب دراسات من جهته تعطّل 1500 مشروع تنموي بقدرة تشغيلية لا تقل عن 15 ألف موطن شغل بسبب ما اعتبره تراخيا من بعض موظفي الوكالة مشددا على أن ذلك ما فتىء يتسبب لموارد الدولة في خسائر جبائية بملايين الدنانير.
ولم يستبعد المتحدث وجود غايات سياسية ولو بطرق غير مباشرة في تعطيل مئات المشاريع في وقت تشهد المالية العمومية شحا كبيرا في السيولة.
عدم الاجابة على %30 من الدراسات
ايمان القروي مديرة ادارة التقييم بالوكالة نفت وجود أي انتماء سياسي لموظفي واطارات الادارة مشددة على أن مهمتهم الاساسية هي حماية المحيط ولا شيء غير حماية المحيط.
وأفادت القروي بأن الوكالة تستقبل سنويا نحو 600 دراسة عن المؤثرات على المحيط مع اجرائها ما بين 6 و7 آلاف عملية مراقبة وانجاز 500 محضر في السنة واستقبال ما بين 500 و600 مطلب استشارة من مستثمرين للتأكد من مطابقة مشاريعهم قانون حماية المحيط ومشاركة اطارات المؤسسة في قرابة 25 لجنة مشتركة.
وأضافت “مقابل هذا الكم الهائل من العمل اليومي تشهد الوكالة نقصا فادحا في الاطارات المكلفين بتقييم الدراسات والذين لا يتجاوز عددهم 16 مهندسا واطارا.. هذا الفريق المصغر متعدد الاختصاصات يجد نفسه في مواجهة دراسات تمس مختلف الانشطة الاقتصادية”.
وتابعت “عملية التقييم معقدة وتتطلب التمعن في الدراسات والتنسيق مع ادارات مختلفة وتقتضي تنقلات ميدانية بما يؤثر على احترام اجال البت في مئات الدراسات.. وبقدر حرصنا على دفع نسق الاستثمار نحرص على ان تصاحب انطلاق المشروع تدابير وقائية لحماية المحيط”.
واكدت المديرة ان عدد الدراسات المتخلدة بذمة الوكالة والتي لم يتم البت فيها لا يتجاوز 30 % من مجموع الدراسات الوافدة عليها سنويا. مع العلم ان نسبة 30 % تعني تعطل ما لا يقل عن 200 مشروع سنويا.
من جهته ذكّر العربي بوقرة مدير عام الوكالة بالنيابة بأن اخر انتداب قامت به المؤسسة انطلق في 2016 وتم الاعلان عن نتائجه في 2020 مشددا على انه تم انتداب مهندس واحد انذاك.
وقال “لدينا اسبابنا وراء التأخير الحاصل .. قد يتسبب مرض اطار في التاخير على غرار ما حصل خلال فترة انتشار كوفيد 19 التي حاولنا خلالها جاهدين مواصلة العمل والقيام بمهامنا بصفة عادية.
من جانب أخر تطرقت ايمان القروي الى التتبعات القضائية التي تلاحق بعض موظفي الوكالة بدءا بما حدث في ملف النفايات الايطالية من ايقافات في صفوف وزراء سابقين للبيئة وموظفين بالوكالة مقرة من جهة بوجود مخاوف لدى زملائها نافية من جهة اخرى استغلال هذا المعطى من قبل الموظفين لتعطيل التنمية والاضرار بمصالح المستثمرين.
بين تذمّر عشرات المستثمرين واصحاب مكاتب الدراسات من مماطلة وكالة حماية المحيط في الاجابة على دراساتهم وبالتالي تعطيل عجلة التنمية وتحجّج ادارة الوكالة بنقص الموارد البشرية وثقل المهام الموكولة لاطارتها رغم تدخل وزارة البيئة في أكثر من مناسبة للتسريع في دراسة الملفات والرد عليها يطرح عدم حسم الوكالة في 30 % من الدراسات المعروضة أكثر من سؤال حول مدى توفر ارادة رسمية في تجاوز البيروقراطية والتعطيل الاداري لدفع نسق الاستثمار كمنفذ لتحقيق اقلاع اقتصادي يراعي المحيط ويحترم حق التونسيين في بيئة سليمة.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 ماي 2023