الشارع المغاربي : سمعنا وشاهدنا، في نهاية الأسبوع المنقضي، حوارًا غير مباشر بين أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد. طالب فيه الأوّل بتعديل وزاري، فأجابه الثاني برفض التدخّل في صلاحيّاته. فهل نحن على أبواب أزمة جديدة تلجأ فيها المنظمة العمّاليّة لتكرار عمليّة ليّ الذراع غير المسبوقة التي مارستها العام الماضي نقابة التعليم الثانوي، وانتهت بإقالة وزير التربية السابق. وهل يُنبئ ذلك بإقدام الاتّحاد على تجاوز هويّته؟. الموضوع له خلفيّاته ودلالاته…
عُرفت المركزيّة النقابيّة، خلال الأشهر الطويلة السابقة، بمساندتها الثابتة لحكومة يوسف الشاهد، رغم أنّ أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي كان قد اضطرّ لإجابة منتقديه بأنّ المنظمة النقابية «لا تُساند الحكومة وإنّما تُساند الاستقرار السياسي». ففي الوقت الذي تعرّضت فيه حكومة الشاهد لسهام حادّة، من مقرّبيها قبل معارضيها، بدا الاتحاد بمثابة مساندها الأوحد.
يبدو أنّ تلك المساندة كانت تنبع من خشية اتحاد الشغل، باعتباره أحد أبرز موقّعي وثيقة قرطاج، من مغبّة توظيفه في أزمة سياسيّة جديدة من جرّاء محاولة بعض أحزاب الحكم خصوصا إسقاط الحكومة. كما أنّ تغيير الحكومة قد يُعيد النظر في الاتفاقيّات المبرمة مع الاتحاد أو على الأقلّ تأجيل العمل بها، بما من شأنه أن ينعكس على منظوريه. والحقيقة أنّ المنظمة قد نجحت آنذاك ولو نسبيا في خفت حدّة ضغوط بعض أحزاب الائتلاف الحاكم وخاصّة نداء تونس على حكومة الشاهد.
من درع إلى سيف!
أقرّ الطبوبي، في تصريح سابق، أنّ «أحزاب الائتلاف الحاكم تعارض الحكومة أكثر من المعارضة››، مؤكّدا أنّ ذلك «سينعكس آليًا على أداء الحكومة» التي بدا «ظهرها عريان»، على حدّ تعبيره، بسبب غياب السند الحزبي. هذا التوصيف الذي ساقه كبير المركزيّة النقابيّة كرّره وتحدّث عنه بالدليل في حواره الأخير قبل أيّام بإذاعة «شمس.آف.آم»، فقد ذكر أنّه حين تحوّل شخصيّا إلى اعتصام «الكامور» بتطاوين «ثبت له بالمكشوف أنّ ثمّة أحزابا سياسيّة من المعارضة والحكم كانت موجودة في ذلك التحرّك وتلك الاعتصامات»!.
دفاعه عن الحكومة التي حذّر سابقا من خطورة انهيارها، في ظلّ هشاشة الوضعين الاقتصادي والأمني، حمله إلى غاية الدفاع عن رئيس الحكومة في حدّ ذاته، حين انتقد دعوة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ليوسف الشاهد بعدم الترشح لانتخابات 2019، قائلا إنّ تلك الدعوة «مسألة لا تستقيم بالمرّة» وجاءت «في غير محلّها وغير توقيتها»، باعتبار أنّها تتعارض مع دستور البلاد أصلا.
أمّا اليوم، فقد شهد خطاب الطبوبي –بعد فترة غير طويلة– تغيّرًا بـ180 درجة وبات يُطالب بما كان يرفضه علنًا هو نفسه وتحوّل من درع دفاع عن الحكومة إلى سيف مهاجم لها، مُتوعّدا بأنّه «لن يكون شاهد زور أمام شعبنا ولا ينبغي أن نتحمّل المسؤولية التاريخيّة للفشل»، أي فشل «القصبة» في تحويل ما ينصّ عليه اتفاق قرطاج إلى أرض الواقع. وفي هذا الصدد قال أمين عام الاتحاد في آخر حوار مع إذاعة «شمس»، «اليوم للأسف الشديد مع احترامي لكلّ الهامات والذوات، ونحن لا نستهدف الأشخاص أو أيّة أطراف، اليوم آن الأوان لضخّ بعض الدماء الجديدة في مفاصل الدولة سواء في الوزارة أو في المؤسّسات العموميّة أو الإدارات العامّة». وحسب تأكيده فإنّه باستثناء النجاحات المحقّقة على مستوى مكافحة الإرهاب فإنّ محاور وثيقة قرطاج «بقيت كلّها حبرًا على ورق ومجرّد عناوين». كان هذا إذن هجوما من النوع الثقيل، ربّما لم ينتظره رئيس الحكومة، ولاسيما بالنظر إلى التجاوب الذي كان قائما بينهما إلى وقت قريب، فكان الردّ السريع…
ردّ الشاهد السريع
ردّ الشاهد بالرفض الواضح على مطالبة الطبوبي بإجراء تعديل على حكومته، مدافعًا عن أهميّة «الاستقرار السياسي» الذي كان قد دافع عنه الطبوبي نفسه. وقال الشاهد بأسلوب ديبلوماسي، في حواره على القناة الوطنية الأولى أمس الأوّل، إنّ «اتحاد الشغل شريك أساسي في الحكومة ومن حقّه إبداء رأيه، ولكن التحوير يبقى من صلاحيات رئيس الحكومة.. ولم يحن الآن وقت التحوير». ماذا سيحصل بعد هذا الخلاف المعلن إذن؟ هل ستخلف الحرب التوافق السابق، رغم أنّ التجربة أثبتت فشل مراهنة حكومات سابقة، زمن حكم الترويكا ثم آخر حكومة الحبيب الصيد، استهداف الاتّحاد؟ وهل هذا من دور اتّحاد الشغل أن يُمعن في التدخّل في الصلاحيات التقريريّة والإجرائيّة للحكومة؟ وهل ننتظر من الطبوبي الذي أعلن مرارًا تمسّكه بوثيقة قرطاج أن ينقلب على نفسه ويصطفّ مثلا إلى جانب كاتب عام النقابة العامّة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي الذي وصفها، أمس الأوّل فقط، بـ«وثيقة قرطاج اللعينة»؟! من الواضح عمومًا أنّ هذه «اللعنة» قد أصابت كلّ النخب المتدخّلة في الشأن السياسي، حتّى باتت تمارس خبطا عشواء في كلّ الاتّجاهات…
كان من الطبيعي إذن أن يُخصّص رئيس الحكومة حواره، أمس الأوّل، للتطرّق لمحاور ما قد يراها «حملة تشكيك» تستهدف حكومته بشكل عام. ومن أهمّ تلك المحاور أولويّة محاربة الفساد. فقد اعتبر الطبوبي حرفيًا أنّه «بطبيعة الحال الحرب على الفساد توقّفت»، موجّهًا سؤالا مباشرًا إلى يوسف الشاهد، قائلا: «لماذا توقّفت محاربة الفساد عند أربعة أشخاص وُضعوا في الإقامة الجبرية؟… عليه أن يُقدّم الحقائق للناس. ما هي الأسباب والمسبّبات؟»… من هنا كان ردُّ رئيس الحكومة بحديثه عن استمراريّة تلك الحملة، نافيا توقّفها على خلاف ما أكّده الطبوبي أو اتسامها بالانتقائية مثلما يعتبر الكثيرون. كما ذهب الشاهد إلى أبعد من ذلك، مُعتبرا أنّه لو توقّفت تلك الحملة لتقلّصت مشاكل الحكومة إلى النصف ولمَا طالت حكومته هجمات كبرى من «بارونات الفساد» أنفسهم.
والأهمّ من هذا الخطاب الحِجاجي أنّ أمين عام الاتّحاد قد توفّق من جهة في دفع رئيس الحكومة إلى «التبشير» بأنّ الحملة «ســتطال» فاسدين آخرين من الضالعين في الفساد الكبير والصغير، ومن جهة أخرى في التنبيه من مغبّة ما وصفه بـ«شيطنة القطاع العام». وقد حذّر الطبوبي على سبيل المثال من السعي إلى التفويت في «الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد» وفي «الشركة التونسيّة للشحن والترصيف» من أجل توفير موارد مالية إضافيّة لميزانيّة الدولة. وهو ما يندرج في صميم دور الاتّحاد العام التونسي للشغل بالحفاظ على القطاع العام. ومع ذلك فإنّ هذه الأمثلة رغم أهميّتها الشديدة باعتبارها تمسّ بمؤسسات وشركات عموميّة حيويّة، فقد كانت بمثابة محاولة تأثيث للمطلب الأساسي المتعلّق بمطلب تعديل التشكيلة الحكوميّة.
استقواء أم تجاوز للصلاحيات؟
حاول الطبوبي تقديم تبرير لدعوته الجديدة، حينما أشار إلى الاعتصامات والإضرابات عن الطعام التي تُشنُّ في بطحاء محمد علي حيث المقرّ المركزي لاتّحاد الشغل بالذات، قائلا إنّه «أصبح في ذهن الناس أنّ الاتحاد هو الدولة، في حين أنّنا نساهم في إنقاذ بلادنا». وعلى خلاف وجاهة هذا التوصيف يبدو أنّ الطبّوبي قد استبطن، في حدّ ذاته، هذا الخلط والتداخل في المفاهيم والهويّات. فما من شكّ أنّ من صلاحيّات المنظمة النقابيّة الكبرى تقويم السياسات العامّة ومحاولة التأثير في توجّهاتها، لكن ليس من دورها المطالبة بتغيير الحكومات أو تعديل مكوّناتها.
ومن المعلوم أنّ الدور النقابي والوطني/السياسي قد تمازجا في أداء اتّحاد الشغل عبر مسيرته الطويلة. ففرحات حشّاد مثلا لم يكن زعيما نقابيا وحسب بل كان أيضا زعيمًا وطنيّا. ولا يخفى، على سبيل المثال، أنّ حشّاد أدّى دورًا أساسيّا في التعريف بالقضيّة التونسيّة في الأمم المتحدة من خلال توظيف علاقاته القويّة آنذاك بالنقابات الأمريكيّة. كما كان لاتّحاد الشغل دور حاسم أيّام الثورة أيضا في تأطير العديد من التحرّكات الاجتماعية والسياسيّة الكبرى، رغم المؤاخذات على قيادته المركزيّة زمن نظام بن علي. ومع ذلك عرفت المركزيّة النقابية لا فقط كيف تُحافظ على «الشقف» على حدّ تعبير النقابي الراحل حسين بن قدور، وإنّما اضطلعت بدور طليعي بعد الثورة وخصوصا في إنقاذ البلاد من مصير مجهول أواخر زمن حكم الترويكا. وهو ما يعكس «الدور السياسي» المتزايد الأهميّة الذي لا يُمكن نفيه أو انتزاعه من المنظمة العماّليّة.
ومع ذلك فإنّ الأمر يُفترض أن يبقى في حدود معيّنة ولا يصل إلى حدّ التدخّل في صلاحيات ليست من شأن النقابات، لاسيما أنّ منصب أمين عام الاتّحاد يفرض عليه أن يكون الأكثر حرصا على وضوح دور المنظمة وهويّتها وتجنّب حشرها في ما لا يعنيها مباشرة. فالأمر لا يتعلّق بمجرّد رأي شخصيّة سياسيّة أو نقابيّة عادية. وهو ليس من القيادات الوسطى أو كاتبا عاما لنقابة عامّة حتّى يجعل من نفسه بصفته تلك معارضا سياسيّا، على غرار ما اعتاد عليه لسعد اليعقوبي. أمّا في حال حُقّ له التدخّل في تشكيلة الحكومة، وبقاء بعض أعضائها من عدمه، فإنّه يُصبح عندها من حقّ المنظمات الأخرى أن تنسج على منواله على غرار اتحاد الأعراف أو اتّحاد الفلاحين أو حتى اتحاد المرأة الذي انضمّ مؤخرا لوثيقة قرطاج التي يعتبرها الطبوبي اتفاقا مرجعيّا. صحيح أنّ الأوزان والأدوار تختلف وتتفاوت درجاتها وقد لا يُمكن مقارنة بعضها ببعض، غير أنّ الأمر يندرج أساسًا في باب الجوانب المبدئيّة.
رفض الطبوبي طبعًا الإفصاح عن الوزراء الذين يُطالب بتغييرهم، وقد يكون مُحقّا في ذلك، غير أنّه لمّح للإطار الذي سيُعبّر فيه عن خطوط تلك الأجندة وما تطرحه من أسماء وملفّات. وهو تحديدا رئيس الجمهوريّة الذي توجّه للقائه بالمناسبة. وقد يكون من الموضوعي أن يفعل ذلك، باعتبار أنّ الباجي قائد السبسي هو صاحب مبادرة وثيقة قرطاج. ومع ذلك فإنّ الأمر يعكس غيابا لوجاهة الرؤية، ويُمثّل خصوصا تعارضا مع الدستور الذي يُحدّد المسؤوليات والصلاحيات ويمنح رئيس الحكومة الأحقيّة القانونيّة بتشكيل حكومته أو إحداث أيّ تغيير أو تعديل في عضويتها.
كان أمين اتّحاد الشغل إذن من أكبر الداعمين لحكومة يوسف الشاهد، ونراه بعد فترة قصيرة لا يُغيّر موقفه منها فحسب وإنّما يُطالب بتغيير بعض وزرائها. قد يُلوّح البعض بأنّ ذلك يعكس رسالة إلى داخل المنظمة النقابيّة في حدّ ذاتها، باعتبار وجود ضغوط داخليّة على الطبوبي وانتقادات جمّة لموقف قيادة المركزيّة النقابية إزاء الحكومة. ومع ذلك فإنّه يُجسّد، شئنا أم أبينا، محاولة استقواء جديدة وانزياحا عن دورها وهويّتها…