الشارع المغاربي – هل سيُجرى الحوار الوطني؟!/ بقلم: معز زيود

هل سيُجرى الحوار الوطني؟!/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

6 يناير، 2021

الشارع المغاربي: لا يزال الرئيس قيس سعيّد حريصًا على إكساء خطابه بشحنة مفرطة من الغموض. وهو ما يدفع حلفاءه وخصومه إلى حبك التأويلات ونقيضها. تعلّق الأمر، هذه مرّة، باشتراطات رئيس الدولة لقبول مبادرة اتّحاد الشغل حول إطلاق حوار وطني لإنقاذ البلاد من الأزمة الخانقة التي تردّت إليها…

وضع رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد شرطين ضمنيّين لقبول إجراء حوار وطني لإيجاد حلول كفيلة بمعالجة الأزمة الشاملة الرهنة في البلاد. ويتمثل الشرط الأوّل في أن يعمل الحوار على “تصحيح مسار الثورة التي تمّ الانحراف بها عن مسارها الحقيقي الذي حدده الشعب منذ عشر سنوات”، في حين يكمن الشرط الثاني في “وجوب تشريك ممثلين عن الشباب من كل جهات الجمهورية في هذا الحوار”.

غموض وتأويلات

تعدّدت التأويلات طبعا، بين مشيد ومنتقد، بل واعترف الاتّحاد العام التونسي للشغل، بوصفه صاحب مبادرة الحوار الوطني على لسان المتحدّث الرسمي باسمه سامي الطاهري، بأنّ رئيس الجمهوريّة لم يوضّح في لقائه مع الأمين العام نور الدين الطبوبي مقاصده بشأن ما تضمّنه البيان الثاني لرئاسة الجمهورية حول تصحيح مسار الثورة، معتبرًا أنّ تلك المقاصد تحتاج إلى توضيحات، وهو ما ستطلبه المنظمة من مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة.

ومن فرط غموض الخطاب الرئاسي والتخبّط في تأويله، اكتفى القيادي بحزب “التيار الديمقراطي” ووزير التربية السابق محمد الحامدي بالتأكيد أنّه لو تم فعلاً التوصل إلى حوار وطني يُفضي إلى التسويات الضرورية للخروج من الأزمة التي تمر بها البلاد، فإن ذلك يعتبر نوعا من تصحيح مسار الثورة وتحقيق أهدافها. وفي المقابل، أيّد القيادي بحركة الشعب ورئيس لجنة المالية بالبرلمان هيكل المكّي اشتراطات رئيس الجمهوريّة، بل ذهب إلى حدّ القول إنّ “المُتشابهين هم من يتحاورون” وأنّ مشاركة حركة النهضة أصبحت مشروطة ويمكن إجراء الحوار الوطني بدونها. ومن جانبه، انتقد رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ما قد يبدو في خطاب رئيس الجمهوريّة من رغبة في هدم كلّ ما بُنِي سابقا، قائلا في تصريحات صحفيّة: “لا يمكن التصرّف كما لو أنّه يقوم بهدم ما قمنا بإنجازه إلى حد الآن، والذي لم نسعَ لإكماله بعد، ثم القيام بإعادة البناء مع إقصاء ما تمّ إنجازه منذ 2011. أليس من الأجدر إعطاء المزيد من الوقت للنظام الحالي، لينهي عمله ثم تقييمه لاحقاً؟”.

وأمام كلّ ذلك تُدرك المركزيّة النقابيّة أنّها تواجه مأزقا حقيقيّا. ويبدو أنّها ستحاول، خلال جلسة العمل التي ستجمعها قريبا بممثلي رئاسة الجمهوريّة، توضيح ما أمكن من تفاصيل هذا الحوار. وفي حال استعصى ذلك فإنّها قد تضطرّ إلى إعلان الموت السريري لمبادرتها. وهو ما قد يكون أقلّ ضررًا من خوض حوار مشروط لا تُعرف له بداية أو نهاية أو الوقوع في فخّ شبيه بفخّ مفاوضات “قرطاج2” الذي كان اتّحاد الشغل من أكثر المتضرّرين منه.

ومع أنّ اتّحاد الشغل قد أعلن، في حدّ ذاته، بأنّه لن يُشارك في الحوار الوطني المرتقب إلّا من يؤمن بمبادئ الدولة المدنيّة، مُلمّحًا بذلك إلى استبعاد ائتلاف “الكرامة” نظرا إلى خطابه المبني على الشتائم والتكفير والتشجيع على العنف والكراهيّة، فإنّه يدرك أيضا أنّه لا يمكن للحوار الوطني أن ينتظم أصلا في حال المضيّ في تغييب حركة النهضة، على خلاف ما يروّجه بعض خصومها من حلفاء الرئيس قيس سعيد. ولذلك حرص أمين عام الاتّحاد نور الدين الطبوبي على الالتقاء أكثر من مرّة برئيس البرلمان راشد الغنوشي، آخرها الخميس الماضي على إثر استقباله في قصر قرطاج. ومن الواضح هنا أنّ المسألة لا تتعلّق بإقصاء بقدر ما ترتبط بضرورة توفير الشروط الموضوعيّة لإجراء حوار وطني حقيقي من شأنه أن يُفضي إلى تصوّرات واضحة وحلول عمليّة. وهو ما يصطدم أيضا بالشرط الثاني المتعلّق بتشريك الشباب من كامل مناطق الجمهوريّة، في ظلّ صعوبة تحديد معايير موضوعيّة لذلك. فالأمر لا يخصّ مجرّد استشارة شبابيّة وطنيّة على غرار تلك التي كان يُطلقها رئيس النظام السابق، وإنّما يتعلّق بحوار ينبغي أن يُفرز حلولا جديّة من الضرورة التوافق عليها من أجل تحويلها إلى أعمال ملموسة على أرض الواقع.

إقرار بالعجز

الحقيقة أنّ ما يُسمّى بـ”الحوار الوطني” يعني في أحد مظاهره أنّ النظام السياسي القائم لم يعد قادرًا على إنتاج الحلول بقدر ما بات يُفرز الأزمات المتواترة. كما أنّ الالتجاء إلى حوار وطني من أجل تفكيك الأزمات الحادّة يكشف بدوره إقرارًا بتجاوز مقتضيات الدستور الذي ضبط صلاحيّات السلطة التشريعيّة وصلاحيّات رأسي السلطة التنفيذيّة التي يُفترض ألّا تفوقها سلطة أخرى غير منصّص عليها في الدستور مثل الحوار الوطني.

ومع ذلك فإنّ مبادرة اتّحاد الشغل قد حظيت ظاهريّا بقبول مبدئي من جميع الأطياف السياسيّة، باستثناء كتلة ائتلاف “الكرامة”، معلنة حرصها على تفكيك الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد على كافّة الأصعدة. ولا يخفى طبعًا أنّ صعوبة أن تقبل قيادة حركة النهضة باستبعاد حليفها ائتلاف “الكرامة”، باعتبار أنّ ذلك قد يؤدّي بمخرجات الحوار إلى تهميش دورها وتضاؤل أوراق الضغوط السياسية لديها.

الجدير بالتذكير أنّ البلاد عرفت بعد الثورة ثلاثة حوارات كبرى، كان اتّحاد الشغل شريكا أساسيّا في ثلاثتها. فالحوار الأوّل (2013) كان واسعًا على مستوى المشاركة والآفاق، وسعى إلى تفكيك الأزمة السياسيّة الخانقة وإنقاذ البلاد من السقوط في فوضى عارمة بعد عدد من الاغتيالات السياسيّة، وتوحيد جهود مؤسّسات الدولة في مكافحة الإرهاب وسيطرة الجماعات المتطرّفة على المجتمع. أمّا الحواران الثاني والثالث أي ما اصطلح على تسميته بـ”قرطاج1″ (2016) و”قرطاج2″ (2018)، فقد كانا عبارة عن مفاوضات معلومة الغايات ومحدّدة الهدف المتمثّل في استبدال رئيس الحكومة، وفقا لمصالح محيط الرئيس الراحل وخصوصا نجله حافظ قائد السبسي الذي يُقيم حاليا في منفاه الاختياري خارج البلاد ولا يجرؤ على العودة إلى تونس مخافة محاسبته سياسيّا وجزائيّا.

الرئيس قيس سعيّد أعلن إذن رفضه لأن يكون الحوار المقبل شبيها بكلّ الحوارات السالفة، فوضعها كلّها في السلّة نفسها. والحال، إن أحببنا أم كرهنا، أنّ “حوار 2013” الذي أبعد حركة النهضة عن الهيمنة كليّا على الحكومة ورئاستها كان قد أفرز “توافقات” أبعدت البلاد آنذاك عن شبح التناحر، ووحّدتها نسبيّا في مكافحة الإرهاب، وإن فشلت في تحقيق أيّ انفراج اقتصادي. ومن ثمّة تظهر الإشكاليّات التي يطرحها الرئيس قيس سعيّد من خلال تأكيد بقبول حوار “لتصحيح مسار الثورة”…

حوار لمصلحة من؟!

من الإشكالات التي يبدو أنّها لا تريد أن تُفارق هذه البلاد أنّ كلّ من يجلس على كرسي الحكم لا يُطلق أيّة مبادرة أو ينخرط فيها إنْ لم تصبّ قبل أيّ شيء في مصلحته السياسيّة الشخصيّة. فالسياسة تكاد لا تخرج، في مطلق الأحيان، عن إدارة الممكن السياسي الذي يُغلِّب التقاء المصالح حتّى بين من كانت أهدافهم ومبادؤهم ومرجعيّاتهم متنافرة.

لا ريب إذن في أنّ الرئيس قيس سعيّد قد أخذ بعين الاعتبار حسابات الربح والخسارة في ما يخصّ حوارا لا يمكن أن يُعتدّ به وأن يكون ذا صبغة وطنيّة إن لم يُشرف عليه رئيس الجمهوريّة. وبصرف النظر عن تأويلات هذا الشقّ السياسي أو ذاك لمسألة اشتراط قيس سعيّد مشاركة الشباب بشكل فعّال في الحوار الوطني وفي صياغة مخرجاته من حلول وتصوّرات، فإنّه يبدو أنّ الهدف من هذا التعويم هو تسجيل نقاط وحصد التأييد من الأنصار، دون اعتبار لمدى تأثير ذلك في إجهاض ما قد يُسمّى بـ”الحوار الوطني” قبل إطلاقه أصلا. وعلى الصعيد النظر لم يجرؤ أغلب الفاعلين السياسيّين على رفض هذا الاشتراط نظرا إلى خلفيات عديدة تتعلّق بالصراع المحتدم حول استقطاب الفئات الشبابيّة التي كان لها وزنها في نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسيّة السابقة.

ومع ذلك فإنّ كلاّ يُغنّي على ليلاه، فقد عبّرت حركة النهضة، على لسان رئيسها راشد الغنوشي، أنّ الأنسب في تشريك الشباب أن يتمّ على أساس معايير واضحة على غرار هياكل الشباب الطلابيّة وغيرها من المنظمات النشيطة. وفي المقابل، يبدو أنّ تأكيد رئيس الجمهوريّة على “وجوب تشريك ممثّلين عن الشباب من كلّ أنحاء الجمهوريّة” يعني تحديدًا هؤلاء الشباب المشاركين في الاحتجاجات الاجتماعيّة، أي في تلك التنسيقيّات التي تشكّلت بسرعة البرق خلال الفترة السابقة. وهو ما يطرح، في كلا الاقتراحين، تساؤلات مشروعة عديدة عن عمليّة حشد سابقة الإضمار لفئات معيّنة من الشباب المرغوب مشاركته، بصرف النظر عن قيمة التصوّرات والحلول التي قد تُقترح خلال حوار يبدو منذ الآن أنّه عسير الالتئام.

وحتّى إن دافع الرئيس سعيّد عن ضرورة إطلاق حوار وطني مغاير شكلا ومضمونا عمّا سبق من حوارات، فإنّه ليس في مقدوره اليوم إطلاق حوار موجّه وذي أهداف محدّدة مسبقا من طينة “قرطاج1″ وقرطاج2” اللذين دفع إليهما رئيس الجمهوريّة الراحل الباجي قائد السبسي. فسواء تعلّق الأمر بتحديد مصير رئيس الحكومة أو بمراجعة النظام السياسي في اتّجاه تلقيحه بـ”لقاح من صنف جديد وغير مستورد”، وفق تعبير قيس سعيّد، من أجل تحويله إلى نظام رئاسي، فإنّه لا بدّ دستوريّا أن يمرّ هذا وذاك بالبرلمان على علاّته الكثيرة.

عقبات موضوعيّة!

في ظلّ التوازنات البرلمانيّة السائدة حاليّا يصعب على رئيس الجمهوريّة بلوغ تلك الأهداف إلّا في حال تحقّقت آمال البعض وتخلخلت تلك التوازنات كليّا إذا ما انكمشت كتلة “قلب تونس” وتفرّقت بعد الزجّ برئيس الحزب في السجن، إلى أمدٍ قد يطول كثيرًا. فاليوم تغيّرت الظروف السياسيّة، ولم نعد إزاء مرشّح لرئاسة الجمهوريّة. ومن المرجّح أيضا أنّ القضاء قد تحرّر إلى حدّ ما من الضغوط الهائلة زمن الانتخابات التي كانت تُمارس آنذاك سواء تحت مؤثّرات داخليّة وخارجيّة.

ومن دون شكّ أنّ مصير هذا الحوار المرتقب مرتهن أيضا بمصير رئيس الحكومة خلال هذه الفترة الصعبة وكذلك بمدى صمود أغلبيّته البرلمانيّة. كما أنّ الخيارات التي سيعتمدها هشام المشيشي في تعديل تشكيلة حكومته، خلال الأيّام والأسابيع المقبلة، من شأنها أن تؤثّر سلبًا أو إيجابًا في مصير إجراء الحوار الوطني المنشود أصلا. ومن المرجّح أن يكتفي رئيس الحكومة بتعديل جزئي طفيف لسدّ الفراغ في الحقائب الوزاريّة الشاغرة. وحتّى إن التجأ إلى إجراء تعديل وزاري واسع نسبيّا، فإنّه من المستبعد أن يندفع في اتّجاه تحقيق الرغبات المشطّة لوسادته الحزبيّة عبر عزل الوزراء المحسوبين على الرئيس قيس سعيّد وفي مقدّمتهم وزير الداخليّة. فهو يدرك أنّ ذلك لا يُعدّ فقط ابتزازًا مكشوفا للجميع، بقدر ما سيكون بمثابة القشّة التي تقسم ظهر البعير. وهو ما من شأنه أن يجعل عمليّة استبعاده هدفا محوريّا لدى رئيس الجمهوريّة، ولاسيما أنّ حركة النهضة لن تتردّد في التضحية به إذا ما تطلّبت مصلحتها وتوافقاتها الظرفيّة ذلك.

لكلّ تلك الدواعي وغيرها من الخلفيّات الخفيّة، يبدو في الفترة الراهنة أنّه من الصعب جدّا أن يُجرى مثل هذا الحوار الوطني المشروط، على الرغم من أنّ البلاد في أمسّ الحاجة إلى الخروج من النفق المظلم الذي أوقعها فيه نخبها وسياسيّوها…


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING