الشارع المغاربي – واقعة المكنين: ديقاج الغنوشي.. والراكبون على الحدث!/ بقلم معز زيود

واقعة المكنين: ديقاج الغنوشي.. والراكبون على الحدث!/ بقلم معز زيود

24 فبراير، 2019

الشارع المغاربي : لا يُنكر إلاّ المتغابي أنّ لراشد الغنوشي قسطا مهمّا من الأتباع والمريدين، بما أتاح له عمليّا تصدّر الخارطة الحزبيّة في تونس حاليا. ومع ذلك فإنّ له أيضا خصوما وأعداء لدودين من آفاق وألوان سياسيّة وشعبيّة شتّى. في هذا النطاق يمكن الوقوف عند دلالات رفع شعار “ديغاج” في وجه زعيم حركة النهضة، أمس الأوّل الأحد، وتوظيف حادثة مدينة المكنين والركوب عليها…

لم يمرّ يوم الأحد 17 فيفري 2019 بشكل عادي بالنسبة إلى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي خلال إشرافه على نشاط للحركة بمدينة المكنين التابعة لولاية المنستير. فقد قوبل الغنوشي لدى وصوله إلى المكان ومغادرته له برفع شعارات متناغمة ومتضادّة في الآن نفسه هي: “يحيا بورقيبة” و”يحيا بن علي” و”ديقاج”.
منطقيا لا يمكن للبورقيبي الحقّ أن يرفع شعار “يحيا بن علي”

الثورة المضادّة!
بدا الغنوشي للوهلة الأولى أنّه لم يهتم بتلك الشعارات التي نفذت إلى مسامعه، بل شقّ طريقه محاطا بحماية حزبيّة وأمنيّة لصيقة، متجنّبا محاولة الخوض في ردّ فعل قد يؤدي إلى تأزيم الوضع وتطوير ملابسات الواقعة. وسيرا على هذا النهج حاول ألّا يُبدي تشنّجه في ردّه عن استفسار مبعوث إذاعة “موزاييك” إلى المنستير. ومن ثمّة اكتفى بردّ مختزل وكلمات معدودة اتّقاء توريط نفسه وحركته في موقف قد تتّسع تداعياتة. فعلّق على الحادثة مبتسمًا: “هاذوما واضحين.. هؤلاء هم الناطقون باسم الثورة المضادّة، مبروك عليهم بن علي”.
لا ريب أنّ للعبارة التي تلفّظ بها الغنّوشي دلالاتها ومراميها رغم ما قد يبدو عليها من تلقائيّة. فهي تنبئ قبل كلّ شيء بما استشعره زعيم النهضة من إحراج مباشر لم يألفه ولم يكن ينتظره. ومن دون شكّ أنّ لتلك الحادثة تبعات على الصعيدين الداخلي النهضوي والوطني العام. فقيادة حركة النهضة لن تتأخّر عن مساءلة هياكلها التنظيميّة جهويا ومحلّيا، لا للمكوث عند تلك الواقعة وإنّما للتحسّب من تكرارها بشكل قد يكون أسوأ مستقبلا.
فعلى المستوى المبدئي، قد يبدو من السهل الردّ على من يرفع شعار “يحيا بن علي” واتّهام أصحابه بالانتماء لـ”الثورة المضادّة” مثلما فعل الغنوشي. ومع ذلك لوحظ في مناسبات عديدة إقدام بعض الفئات الشعبيّة على رفع هذا الشعار الملغّم، لا تعبيرًا عن انتماءات حزبيّة أو أيديولوجيّة وإنّما تجسيدا لما لحقها من ضرّ اجتماعي تفاقم بعد الثورة. وهؤلاء لا يمكن وصفهم طبعا بـ”الثورة المضادّة”. ولئن كان التصارخ باسم “بن علي” أمرا مؤسفا حقّا، فإنّه يُدلّل على فشل منظومة الحكم منذ 2011 في تحقيق الحدّ المقبول من الانتظارات الماديّة لفئة واسعة من التونسيّين المحرومين. ومن ثمّة يُعطي الفرصة لتلميع صورة بن عليّ زيفا والتعبير عن الحنين إلى منظومة الاستبداد والفساد التي كان يُجسّدها.

احتمالات الاستنساخ
من المعلوم أنّ لحركة النهضة وللغنوشي تحديدا خصوما ألدّاء لا فقط من بين اليسار التونسي، بل ومن البورقيبيين والدستوريّين عموما ومن بقايا “النوفمبريّين” طبعا، وكذلك من أطياف شعبيّة قد لا يكون لها أيّ اهتمام معلن بالشأن السياسي. ومع ذلك فإنّ من يرفع شعار “يحيا بن علي” يصعب تصنيفه ضمن “الدساترة البورقيبيين” حتى إن رفع صوته أيضا باسم الزعيم بورقيبة. فالكثير من هؤلاء ضُربوا وظُلموا وعمل نظام بن علي على كتم أصواتهم بعد الإطاحة بالزعيم الراحل عام 1987. وقد يكون نزر المحتجّين في المكنين من أتباع “الحزب الحرّ الدستوري” ورئيسته عبير موسي، رغم أنّ هذا الحزب لو أراد تنظيم وقفة احتجاجيّة في أحد معاقله ضدّ زيارة الغنوشي لاستطاع جمع عدد أكبر من الأنصار. فما حدث في مدينة المكنين يبدو تحرّكا عفويّا وغير منظم على خلاف ما ذهب إليه رئيس حركة النهضة، لاسيما أنّ عدد المحتجّين كان ضئيلا للغاية وخال من التدافع المروّج له، إلى درجة أنّه كان يصعب مشاهدة تجمّعهم عبر العديد من الفيديوهات التي صوّرت لحظات دخول الغنوشي أو مغادرته للمكان.
ورغم ذلك يبدو أنّ خصوم حركة النهضة وفي مقدّمتهم عبير موسى وجماعتها قد استلذّوا تلك الواقعة، وكأنّهم كانوا وراءها. ومن المرجّح أن يُعطى لها حيّزا من التخطيط لمحاولة استنساخها مستقبلا. وفي المقابل من المنتظر أن يُجابَه هذا التوجّه بأنصار وهياكل من الشقّ النهضوي الأكثر حضورا واستعدادا لما سيُصبح أحداثا متوقّعة، وذلك ضمن استراتيجيّات الاستعداد للاستحقاقات الانتخابيّة نهاية العام الجاري.
من الضروري، في كل الأحوال، ألاّ تخرج هذه “الاحتفاليّات” السياسيّة عن المسار الطبيعي للاحتجاجات السلميّة سواء ضدّ قيادة حركة النهضة أو ضدّ قيادات سائر الأحزاب المنافسة لها أو المتحالفة معها. وحتّى إذا افترضنا أنّ رافعي شعارات “ديغاج” وسواها في واقعة المكنين وغيرها من أنصار النظام السابق، فهل يمتلك أيّ كان الحقّ القانوني في إقصائهم من المشهد السياسي وكتم أصواتهم؟!.

الالتفاف والدعاية
قد تختلف التوصيفات طبعا وهذا من صميم حريّة الرأي والتعبير، لكنّ الغريب أنّ البعض قد أصبح يبني إستراتيجيّته الانتخابيّة على مثل هذه ترّهات تبدو أقرب إلى التوصيف المتعصّب. وفي هذا الصدد وصف المنصف المرزوقي من قام بتلك الاحتجاجات بـ”العصابات السياسيّة” أصلا، بل وطالب حرفيّا بمقاضاتهم ومعاقبتهم جزائيّا. وفي تدوينة، نشرها يوم الأحد بصفحته الرسمية على موقع “فيسبوك”، دعا رئيس الجمهوريّة السابق، إلى اتّخاذ “موقف واضح وقوي من القضاء لعقاب مثالي لمثل هذه التصرفات فنحن أمام قوم يخافون ولا يستحون”. وهو ما يُشكّل التفافا واضحًا على حريّة التعبير التي يزعم رفع لوائها. وفي المقابل يحاول الالتحاف بغطاء شعار “إعلام العار” التعميمي المستهلك الذي لا يليق برئيس جمهوريّة سابق، لكنّه يكشف في الآن ذاته مدى معاداته لكلّ من يعبّر عن رأي يخالف توجّهاته ومصالحه الشخصيّة الضيّقة، وكأنّه لا يريد سوى قطيع لا يُزكّي إلاّ طموحاته وغاياته هو لا غير، مثل سائر القطعان الحزبيّة المنضبطة.
والأكثر من ذلك أنّ المرزوقي ذهب في توظيفه لواقعة المكنين عبر التأكيد على أنّ لما حدث للغنوشي تبعات “في تغدية الجهويات والتعصب السياسي التفرقة بين التونسيين”. قد يكون هذا التوصيف صائبا بشكل من الأشكال، لكنّه يتحوّل إلى مجرّد دعاية مفرغة من أيّ معنى لأنّه صدر عن شخصيّة لها باع يُشهد به في تقسيم التونسيّين وبثّ النعرات الجهويّة. ويكفي التذكير بخطابه الأخير بمدينة صفاقس في ذكرى الثورة منذ شهر ونيف، حين روّج لأهالي المنطقة أنّ “صفاقس مستهدفة” و”ضُربت” لاعتبارات جهويّة وبسبب كفاءة أبنائها “الخدّامة”!…
وفي تدوينته ليوم الأحد الماضي عن حادثة المكنين، لم ينس المرزوقي كذلك أن يُخلط بين بورقيبة وبن علي، وذلك عبر ما سمّاه بـ”بقايا حزب بورقيبة وبن علي”، وكأنّه حزب واحد متجانس المكوّنات والممارسات. وهي محاولة واضحة لاستدرار تعاطف حركة النهضة وارتجاء دعمها، باعتبار أنّ الاحتمال الوحيد القادر على تمكينه من تحقيق طموحاته الانتخابيّة يرتبط برضاء حركة النهضة عليه، وذلك بدليل النتائج الهزيلة جدا لحزبه خلال الاستحقاقات السابقة وآخرها الانتخابات البلديّة. ومن ثمّة لنا أن نتساءل عن مدى وجود فروق بين خطاب المرزوقي وعبير موسي التي ترفع شعار “يحيا بن علي”.
ومن الأهميّة هنا أن نذكّر بأنّ شعار “ديغاج” أو “ارحل”، الذي يحاول المرزوقي تجريمه اليوم عبر دعوته القضاء إلى معاقبة رافعيه “عقابا مثاليا”، قد تحوّل إلى أيقونة تعبيريّة، ثمّ تُرجم عمليّا في الميادين الغاضبة الكثير من الدول الأخرى. فقد أطلقته حناجر الآلاف المؤلّفة من التونسيّين ذات يوم مشهود في شارع الحبيب بورقيبة بقلب العاصمة أمام مبنى وزارة الداخليّة وتحديدا في وجه بن علي رئيس النظام البوليسي السابق حتّى تسرّب الخوف من تلك الكلمة السحريّة إلى أوصاله. والإشكال القائم اليوم يتمثّل في العدوى الممكنة ومحاولة إعادة اللهيب لشعار لا يمكن تجريمه وإن كره الكارهون.
ولا ننسى أيضا أنّ الشعار عينه قد رُفع في وجه المرزوقي ذاته حين كان رئيسا للجمهوريّة وفي مدينة سيدي بوزيد الرمز تحديدا. فاضطرّ للنزول عن المنصّة رفقة مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي ومغادرة المكان سريعا. ومن المفارقات أنّ شعار “يحيا بن علي” لم يرفع آنذاك ولم يكن “النوفمبريّون” وراء طرد المرزوقي حينها، بل أظهرت الشاشات والفيديوهات أنّ أصحاب الأعلام السود هم من اعتلوا المنصّة بعد أن لاذ المرزوقي بالفرار مهرولا، في سابقة خطيرة أساءت لرمزيّة رئاسة الجمهوريّة… للتاريخ أحكامه وذاكرته التي قد يُعاد استنساخها وتطويعها في أشكال جديدة لكنّها تأبى النسيان، فلعلّ الغنوشي والمرزوقي وقائد السبسي وسواهم يفقهون، ولو بعد حين!.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING