الشارع المغاربي: استطاع الفرع المحلي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين تدجين أغلب مكونات الطبقة السياسية التي ظهرت بعد أحداث سنة 2011 واستطاع كذلك تفتيت الكيانات السياسية إلى شراذم. أما التنظيمات الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل فقد حاول تدميرها عبر إطلاق كلابه السائبة عليها أو اختراقها والاستحواذ عليها أو إيجاد منافسين لها على غرار نقابة عبيد أقصد التيجاني عبيد رحمه الله لِمن لم يعش أحداث الخميس الأسود. وحده الحزب الدستوري الحرّ وزعيمته عبير موسي بقيا عصيّين على الاختراق وعلى الانصياع لِما خُطّط لبلادنا. ترى ما أسباب ذلك ولماذا استطاع الحزب الوقوف في وجه غارات جاهلية جهلاء من طرف أغلب مكوّنات هذا المشهد البائس. في تقديري يعود ذلك إلى:1 – شخصية رئيسة الحزب التي استطاعت أن تبني حزبا في ظرف وجيز وأن تصمد في وجه التتار والهمّج يوم ذبحوا كبشا في ساحة قصر العدالة في مشهد مخز سيبقى وصمة عار على جبين كل من يحترم نفسه. والذي لا شكّ فيه أن عبير تمتلك كاريزما وحضورا لافتين تفتقده كل الذوات التي تحتلّ الساحات العمومية اضافة لفصاحة وسرعة بديهة وتوقّد ذهن وصمود ووضوح وصراحة ورفض للمساومات. هذه الخصال هي التي أهّلتها لأن تُصبح رقما عصيّا في المعادلات السياسية القادمة، وكلّ المحاولات التي استهدفت إزاحتها من المشهد باءت بالفشل رغم المؤامرات التي قادها الغنوشي وأذنابه ومن بينها الاعتداء عليها بالعنف الذي صرّح رئيس الجمهورية بشأنه أنه كان على علم به وانه تمّ التخطيط له قبل وقوعه بثلاثة أيام.
2 – تقديرها وتحليلها للأسباب التي أدّت بالبلاد إلى هذا المأزق الذي يهدّد حتى وجود الدولة ذاتها. قبل سنة 2011 كان النظام القائم أيامها متعافيا ولم تكن الدولة مستباحة رغم العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر ورغم طول الحدود بيننا. قلت متعافيا بمعنى أنه قائم بواجباته في حفظ الأمن في معناه الشامل رغم وجود بعض النقائص في هذا المجال أو في ذاك. ولكن بعد أن تمكّن الفرع المحلي للإخوانجية من الحكم استشرى الإرهاب وابتدأ التدمير المُمنهج لكلّ المؤسّسات بلا استثناء وهو ما أدّى إلى ما عليه الدولة من ضعف وعجز عن أداء وظائفها وأدّى من ناحية ثانية إلى الإفلاس الذي جعل الدولة دولة متحيّلة تسرق من المتقاعدين ومن مرتبات الموظفين بحجة النهوض بالصناديق الاجتماعية لتحوّلها بعد ذلك إلى تعويضات لمجرمي ماء الفرق من المنتسبين لما يُسمّى حركة النهضة. وقد وضعت عبير موسي خلال مداخلاتها في البرلمان وفي غيره إصبعها على السبب الحقيقي لِما عليه البلاد من هوان وهو وجود الإخوانجية في الحكم معتبرة أن إزاحتهم هي بداية للتعافي. أمّا الحديث المجزّأ عن أزمة اقتصادية وعن حلول لها وكذلك في التعليم أو بخصوص الجمعيات أو تمويل الأحزاب أو الانتخابات أو القضاء وغيرها دون ربطها بأسبابها فلا يخلو حاله من أمرين: إما أن يكون تغطية على الجرائم التي أدّت بنا إلى ما نحن عليه من إفلاس أو تواطؤا مفضوحا مع من حكم البلاد منذ سنة 2011. لهذا السبب بالذات تصرّ عبير على أن بداية أي حلّ لمشاكل البلاد يجب أن تتم بعد نفض اليد من كل من تواطأ مع الإخوانجية أو تآلف معهم أو توافق بمعنى كلّ من رضي لنفسه بذل التبعية لهم.
3 – هذا الموقف الرافض للإخوانجية ولتُبَّعهم وإن عبّرت عنه موسي سياسيّا بوقفاتها واعتصاماتها ومظاهراتها فإنه يصدر عن فهم واقعي لِما خطّط له الإخوانجية منذ أن أظهروا في سبعينات القرن الماضي من عداء لدولة الاستقلال واستهداف لكل منجزاتها في انتظار التمكين وإقامة دولة الخلافة. قال الغنوشي: “الخلافة…. هي الثمرة الطبيعية لعقيدة التوحيد الإسلامية – تبقى هدفا لجهاد الأمة لا يحلّ ولا يصلح لها التنازل عنه، بل ينبغي السعي إليه بتدرّج عبر أشكال مرنة من الوحدة”(1). ولأن الغنوشي يعلم جيدا أن التونسي هو ابن مدرسة إصلاحية تضرب بجذورها في تاريخ الوطن ويعلم أن تونس عرفت التنظيمات النقابية والاجتماعية منذ ما يفوق القرن من الزمان وعرفت الصحافة الحرّة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وكانت نخبها على صلة وثيقة بقادة التنوير وكتاباتهم بدءا بالأفغاني وانتهاء بطه حسين ومن جاء بعده فإنه أي الغنوشي يلجأ إلى المداورة والمناورة حتى يُخفي حقيقة برنامجه. فدعوته للخلافة وتطبيق الشريعة تتخفى وراء الادعاء بأنه يمثل الإسلام الديمكراتي (كذا) وأنه لا يرى مانعا في المثليّة الجنسية وغيرهما من الخزعبلات غير أنه في الكثير من الأحيان يسقط في شرّ أعماله فيفضح نفسه من ذلك قوله: “إن الديمقراطية ليست أداة للوصول إلى الحكم الإسلامي وإنما تقدّم إطارا جيّدا للدعوة والمشاركة وإنضاج البديل الإسلامي”(2) أو قوله: “قد يكون شعار الحرية وحقوق الإنسان مدخلا أنسب للتغيير من شعار الشريعة”(3) وهو في حقيقته يخفي ويضمر غير ما يصرح به اذ قال في لحظة صدق مع نفسه تكشف ما يضمر: “إنه مطلوب أن نحدّث أنفسنا بالغزو ونبيّت النيّة على الجهاد والاستشهاد”(4). هذا الخطاب المزدوج معلوم لدى الجميع غير أن الوحيدة التي استخلصت منه ما يستلزم من نتائج هي عبير موسي في حين نجد بقية الجوقة التي جاءت بعد سنة 2011 وخصوصا ما يُسمّى العائلة الوسطيّة تتغافل عن ذلك وتكتفي بالظاهر من القول وتبني عليه سياسات أساسها السعي للحصول على شيء من كعكة الحكم. ولا تنسوا أن أحد قادة الجبهة الشعبية ورئيس كتلتها النيابية في مجلس باردو صرّح بأن: “النهضة لا تتحمل مسؤولية جنائية في الاغتيالات بل سياسية وأخلاقية”(5). ألا تعدّ هذه التبرئة تواطئا مخزيا؟ ومن شناعات ما يُسمّى العائلة الوسطيّة أن بعض وجوهها يدافع اليوم عن بؤرة القرضاوي بالإدعاء بأن مشاكلنا اقتصادية وبأن القصد من الاعتصام أمام البؤرة إبقاء المعركة مع الإخوانجية حيّة والحال أن أولويّة الأولويات اليوم تتمثل في القضاء على هذه البؤرة وعلى ما يشبهها لأنها تدمّر المجتمع من ناحيتين: الأولى تهمّ العقول والنسيج المجتمعي بنشر خطاب متكلس متخشب لا علاقة له بالعصر والثانية مالية تُضَخُّ عبرها الأموال للتنظيمات الإرهابية ويتمّ عبرها كذلك غسل الأموال المشبوهة.
4 – هذا الموقف الحازم من الفرع المحلي للتنظيم الدولي للإخوانجية الذي جرّ البلاد إلى مستنقع التسفير والمشاركة في قتل إخواننا في سوريا وفي ليبيا فضلا عن الجرائم المرتكبة داخل الوطن دفع نخبة من خيرة المثقفين إلى مساندة الحزب الدستوري الحرّ وزعيمته في مقاومتهم لهذا السرطان مع المحافظة على استقلاليتهم التي هي استقلالية تنظيمية ولكنها في نفس الوقت انخراط كامل في الدفاع عن الوطن وإنقاذه مما ألمّ به منذ 2011. هذه النخبة الخيّرة هي نفسها التي ساندت الباجي لمّا ادّعى أنه وحركة النهضة خطان متوازيان ولكنه بعد أن وصل إلى قصر قرطاج غدر بها وخانها بتوافقه الموبوء ورغم ذلك بقيت هذه النخبة متمسّكة بموقفها. فلقاؤها اليوم لقاء موضوعي وما يجمعها هو المشروع السياسي الذي تدافع فيه عبير موسي والحزب الدستوري عن دولة الاستقلال ومكتسباتها وتجهد من أجل كفّ الأذى الذي يتعرّض له الوطن من طرف الإخوانجية. ذاك هو الذي يحدّد طبيعة العلاقة بالمكوّن السياسي الدستوري، ويوم تنكث عبير بما وعدت – وإن كنت أستبعد ذلك – لن تجد منّا إلا ما وجد الباجي يوم خان ناخبيه من سبّ وشتم وفضح له ولكلّ من اصطف معه من سقط المتاع خصوصا الذين ينسبون أنفسهم لِما سُمِّي العائلة الوسطية.
—————–
الهوامش:
1) “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” لراشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى سنة 2011، ص364.
2) مقال “الإسلاميون والخيار الديمقراطي” مجلة قراءات سياسية العددان الثالث والرابع صيف وخريف 1993 ص124.
3) نفسه ص125.
4) مقال “الحركة الإسلامية الإحيائية” مجلة منبر الشرق السنة الثالثة العدد 11 جانفي 1994 ص61.
5) جريدة الرأي العام بتاريخ 3 أوت 2017.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 8 فيفري 2022