الشارع المغاربي : كيف يمكن تفسير عقم السلطة في خضم ما يجري على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي؟
لقد اجمع كل الخبراء محليا و عالميا على أن اندلاع الثورة في تونس كان بالأساس بدافع اقتصادي و اجتماعي بدون منازع. غير أنه منذ سبع سنوات لم تشهد البلاد إلى اليوم أية بوادر تبشر بتغيير في المسيرة التنموية نحو الأفضل. بل إن الوضع ازداد سوءا والسلطة تبدو مغيبة و شبه مشلولة رغم أن البلاد تتجه نحو تأزم خطير ينذر بالانفجار. كيف يمكن تحليل هذا الوضع الغريب في تونس اليوم؟
كل المؤشرات الاقتصادية تتدهور بنسق خطير والحكومة لا تحرك ساكنا؟
كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تدل بوضوح على أن الوضع يتدهور بدرجة خطيرة و بنسق سريع.من ذلك نسبة التضخم ارتفعت إلى 7,6 بالمائة في شهر مارس 2018 مقابل 7,1 بالمائة في شهر فيفري و 6,9 بالمائة في شهر جانفي من نفس السنة أي بزيادة ب10,1 بالمائة في ظرف ثلاثة أشهر فقط.هذا طبعا دون الخوض في طريقة احتساب مؤشر التضخم التي لا تخلو من مؤاخذات كبرى خاصة في ما يتعلق بالسلة التي يتم من خلالها تحديد نسبة التضخم. كذلك العجز التجاري، و خلافا لما يروج له،فقد تعمّق أيضا بصفة خطيرة ليرتفع إلى 6,3 مليارات دينار في الثلاثي الأول لسنة 2018 مقابل 6,0 مليارات دينار في نفس المدة من سنة 2017 و 4,4 مليارات دينار في سنة 2016 أي بزيادة بنسبة 43,2 بالمائة بين 2016 و 2018 حسب إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء الصادرة في أفريل الجاري و الخاصة بالمبادلات التجارية تحت النظام العام. وهو النظام الوحيد الذي له علاقة مباشرة برصيدنا من العملة الأجنبية بشهادة البنك المركزي التونسي.هذا رغم الزيادةالاستثنائية الهامة في تصدير زيت الزيتون في شهر جانفي الفارط بمبلغ 543,3 مليون دينار و إلا لكانت النتيجة كارثية تماما. هذا التدهوريؤكدأن الحكومة غير معنية بترشيد التوريد وأن كل الإجراءات الصورية التي اتخذتها في الثلاثي الأخير من السنة الماضية كتلك المتعلقة بقائمة المواد المستوردة التي أصدر في شأنها البنك المركزي منشورا للبنوك التجارية بعدم تمويل استيرادها عبر القروض البنكية والتي نشب حولها جدل كبير، اتضح اليوم أنها كانت عبثية ومجرد زوبعة في فنجان ليس لها أي تأثير لترشيد التوريد مثلما تم زعمه. هذا السيل من التوريد العشوائي الممول بالديون الخارجية قلص رصيدنا من العملة الأجنبية إلى أدنى مستوى منذ عشرات السنين في حدود 76 يوما. في نفس الوقت الذي كثر فيه الحديث عن فساد مهول بالصيدلية المركزية التونسية وكثر الحديث عن بداية ظهور بوادر نقص في بعض الأدوية الأساسية. كما شهد الثلاثي الأول من السنة زيادات متتالية في سعر المحروقاتإذعانا لصندوق النقد الدولي بوتيرة زيادة في كل ثلاثي. هذا طبعا دون الحديث عن تعطيل المنظومة الإنتاجية خاصة على مستوى الصناعات المعملية الوطنية وكذلك على مستوى الإنتاج الفلاحي. هذا التواتر السلبي أدى إلى تدهور قيمة الدينار تحت ضغط صندوق النقد الدولي الذييطالب بمزيد التخفيض بنسبة حددت بين 16 و20 بالمائة. إذا أضفنا طلب تجميد الأجور والضغط على منح التقاعد وانعدام فرص التشغيل زيادة على تدهور المرافق العمومية بجميع أنواعها وتدهور المقدرة الشرائية تكتمل الصورة التي أصبحت مصدر فزع ومخاوف كل المواطنين.
يعني حقيقة وبلا مزايدات، سيناريو كارثي بامتياز يداهم البلاد والحكومة تبقى مكتوفة الأيدي بينما أحزاب الأغلبية الحاكمة مشغولة بغمرة التحضير للانتخابات المحلية القادمة في حين يركز كل من رئيس الجمهورية ورئيس حزب حركة النهضة على الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 خاصة أن صلاحيات اتفاق فندق البريستول في باريس سنة 2013 تبدو منتهية في موضوع التناوب.
أمام هذا الوضع الكارثي كيف يمكن تفسير هذا العقم الذي تتميز به الحكومة الحالية مثلها مثل كل سابقاتها؟
لا يمكن لأية سلطة وطنية أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام وضع من هذا القبيل. لذلك و لمعرفة ما يجري اليوم في تونس لابد من الرجوع إلى محطات هامة وفي مقدمتها برنامج الإصلاح الهيكلي الذي فرضه صندوق النقد الدولي سنة 1986 بشروط ذات حدة وتتمثل في ضرورة التخلي عن سياسة التخطيط الوطني وترك السوق تتحكم في تعديل النشاطات الاقتصادية مع حرية مطلقة للتوريد تباعا لتوقيع تونس على الاتفاق العام للتعريفات الديوانية والتجارة سنة 1990 والانخراط في المنظمة العالمية للتجارة سنة 1995. ثم تلاهما التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. هذه الشروط كانت أيضا تتمثل في ضرورة خوصصة القطاعات العمومية حيث فرطت الدولة في أهم القطاعات الإستراتيجية والمربحة في البلاد.
غير أن ما يجب التأكيد عليه هو أن كل هذه الإملاءات ما كان لها أن تُطبّق بكامل شروطها المجحفة لو لم يكن هناك تواطؤ داخلي من طرف النظام السابق الذي اغتنم الفرصة للسطو على عديد المؤسسات في عديد القطاعات سواء مع أطراف داخلية أو خارجية أوروبية منها كانت أو خليجية. وهو ما أكدت عليه دراسات البنك الدولي بعد الثورة حيث ذكرت أن عائلة الرئيس السابق و اللوبيات التابعة لها كانت تسيطر على أكثر من 50 بالمائة من المرابيح التي كانت تنتج في البلاد سنويا.
ورغم سقوط رأس النظام فإن اللوبيات التابعة له والتي أحكمت السيطرة على مفاصل الاقتصاد الوطني أعادت تمركزها من جديد وسيطرت على السلطة السياسية عبر الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014 سواء عبر التمويل المالي أو حتى بالترشح المباشر في الانتخابات التشريعية. فأصبح لها الدور الأساسي في فرض نفس التوجه الليبرالي المساند من الخارج الذي مكنها من السيطرة على القطاع العمومي سابقا في قطاعات مربحةغالبا ما تمت بشراكة مع الشركات العالمية نذكر منها شركات الاتصالات وشركات الفضاءات التجارية الكبرى، ونيابات العلامات التجارية العالمية (فرانشيز) وشركات توريد السيارات.
من هذا المنطلق يتبين أن برنامج الحكومة الاقتصادي والاجتماعي يتلخص في تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي التي اصطلح على تسميتها بـ“الإصلاحات الكبرى” والتي جاءت في “البرنامجين الاقتصادي والاجتماعي في أفق 2020” والتي تتمحور حول أربعة عناصر هي خوصصة المؤسسات العمومية، الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الضغط على الأجور في القطاع العام، ومعالجة معضلة الصناديق الاجتماعية. البرنامج الثاني للحكومة يقوم على الاستجابة التامة للمطلب الأوروبي –الفرنسي الملح للتوقيع على اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق الذي سيشمل القطاع الفلاحي وقطاع الخدمات بجميع فصوله والذي سيجعل من تونس محمية أوروبية عبر منعها نهائيا من تنويع مصادر معاملاتها مع الأطراف الأخرى العالمية والإقليمية.
يبدو جليا أن الحزبين الأساسيين اللذين يمسكان بزمام السلطة في تونس ما بعد الثورة وبمعية بعض الأحزاب التي تدور في فلكيهما على مستوى التوجه الاقتصادي قد انخرطا في صفقة واضحة تتلخص في الامتثال لتطبيق هذا البرنامج الموغل في الليبرالية مقابل الحصول على تزكية خارجية وداخلية للفوز بالسلطة في المحطات الانتخابية القادمة. وهذا ما يفسر عدم القيام بأي إجراء لوضع حد لانهيار قيمة الدينار ولترشيد التوريد لأن هذه الإجراءات تتضارب مع مصالح اللوبيات الداخلية والخارجية التي تريد الانقضاض على المؤسسات العمومية بأبخس الأثمان عبر عُملة وطنية منهارة. أما تونس والشعب التونسي فلهما الله.
هذه السياسة اللاوطنية تتعارض على المستوى الخارجي مع ما يجري من حرب تجارية تقودها الولايات المتحدة التي ما فتئت تتخذ الإجراءات الحمائية ضد كل الأطراف التي تعاني معها من عجز تجاري بدءا ببلدان الاتحاد الأوروبي ووصولا إلى الصين.
غير أن اللجوء إلى الحماية التجارية وعكس ما يروجله، ليست وليدة وصول دونالد ترامب للسلطة سنة 2016 وإنما انطلقت منذ بداية تطبيق العولمة. فبعد بداية الثمانينات التي عرفت توجها ليبراليا جارفا بدأت البلدان الغربية تراجع سياساتها عبر تشريعات تمكن من التحكم في التوريد عبر سن مواصفات معقدة بعنوان المحافظة على صحة المستهلك وكذلك سن قوانين لغربلة الاستثمار الخارجي تحت عنوان المحافظة على الأمن الوطني. أما الولايات المتحدة فقد عُرفت بتنفيذ سياسة وطنية شديدة الحدة في هذا الموضوع. فقدشرّعت سنة 1988 قانونا يُمكّن البيت الأبيض مباشرة من منع كل استثمار خارجي في القطاعات الإستراتيجية من بينها الطاقة والمالية والاتصالات التي تعتبرها مصدرا للتجسس وكذلك النقل بجميع أنواعه والمعلوماتية. كما نذكر من بين التشريعات “قانون الأفضلية للمنتوج الأمريكي” “Buy americain Act” في الصفقات العمومية. كما قامت بتأسيس “مجلس مراقبة الاستثمار الخارجي” “Comitee on foreign investsment in the United States ” وهو هيكل مراقبة ومتابعة.
كما يتبيّن أن الدولة الألمانية التي استفادت من العولمة بتحصلها على أعلى الفوائض التجارية في العالم بعد الصين و التي تُعرّف بأنها مناصرة الليبرالية تتدخّل في حقيقة الأمر مباشرة لدعم الاقتصاد الوطني وخاصة في القطاع الصناعي. ففي سنتي 2008 و2009 قامت الدولة بضخ 60 مليار اورو لدعم الجهاز المنتج الألماني الذي تضرر من الأزمة المالية العالمية آنذاك. كما ضخت مبلغ 480 مليار اورو لخطة إنقاذ القطاع البنكي و100 مليار اورو للضمان في القروض الممنوحة للمؤسسات. كما أن الحكومة الألمانية تحتفظ بحق رفض كل استثمار خارجي في حالة اعتباره مضرا للأمن الوطني. وكذلك نفس الشيء بالنسبة لفرنسا.
أما على مستوى القرارات الحمائية فقد تم عالميا اتخاذ 1221 قرارا جديدا حمائيا من التوريد في سنة 2014 مقابل 1023 في سنة 2015 و 827 في سنة 2015 و 467 قرارا في سنة 2017 من بينها 19,3 بالمائة من الولايات المتحدة. كما تؤكد هذه الدراسة الصادرة في 2 مارس 2018 أن عدد القرارات الحمائية ما زال في تزايد خاصة بعد الأزمة المالية التي عرفها العالم سنتي 2007 و2008.
من هذا المنطلق يؤكد عديد الخبراء أن الليبرالية هي إيديولوجيا أما الحماية فهي وسيلة لفرض سياسة بديلة في ظروف خاصة. نحن إذا أمام حكومات وطنية تعمل بكل جد للدفاع عن اقتصادها الوطني خاصة منه المنتجو للدفاع عن مواطن الشغل التي يوفرها وهي مستعدة لتغيير سياساتها بدون ممنوعات مقابل حكومات على غرار ما يحصل في تونس تديرها لوبيات وتسير عكس التيار ولا تفكر إلا في السلطة فهي غير معنية بما يحدث في العالم من تغييرات جذرية و تدفع بالبلاد نحو مزيد الهزات الاجتماعية والسياسية.