الشارع المغاربي – ومازالت شاحنات الموت تغتال عاملات السخرة! بقلم معز زيّود

ومازالت شاحنات الموت تغتال عاملات السخرة! بقلم معز زيّود

2 مايو، 2019

الشارع المغاربي : لا أحد ممّن يتصارخ أو يتباكى، هذه الأيّام، استنكارًا لفاجعة منطقة سبّالة أولاد عسكر بسيدي بوزيد وتعاطفا مع عاملات الفلاحة اللائي قضين نحبهن، يجهل هذه الظاهرة. “شاحنات الموت” لا تنفكّ تجوب طرقات البلاد من شمالها إلى جنوبها يوميًا فجرًا وظهرًا، مُحمّلة بالكادحات التونسيّات كالأغنام على مرأى من الجميع. مأساة متكرّرة تتحمّل مسؤوليّتها إدارة متعثّرة ومجتمع مريض…

 

أقرّ الاتّحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد إضرابا عامّا جهويًّا، ترحّمًا على أرواح 12 شخصا، أغلبهم من كادحات سبّالة أولاد عسكر. خيّم الحداد إذن، يوم أمس الاثنين، على موطن انطلاق الشرارة الأولى للثورة وانسابت رائحة الموت إلى البلاد برمّتها. فالكارثة الكبرى إنْ حلّت فجر يوم السبت 27 أفريل 2019، فإنّ الإحصائيّات المتواترة تؤكّد أنّ “شاحنات الموت” تُفرّخ الضحايا سنويًا في مختلف الجهات. تهافت البعض، من هنا وهناك، للمشاركة في محفل المزايدة أو اقتسام الوجيعة والمصابرة. “كان على اتّحاد الشغل أن يُقرّ التبرّع بيوم عمل لأُسَر ضحايا الفاجعة بدلا من إقرار الإضراب العام الجهوي”. هكذا رأت بعض “النُخب” المتحذلقة، وكأنّ القضيّة برمّتها تتلخّص في رمي بعض الفتات للعائلات المنكوبة. فحتّى تكون جديرة بصفة “النخبة” يُفترض ألّا تكون قصيرة النظر، ولا تستعيض بمجرّد المسكّنات عن النظرة الشاملة والرؤية الثاقبة والحلول الجذريّة لإجراميّة استمرار العمل، في دولة تشقّ أولى خطى الديمقراطيّة، بنظام السّخرة…

كادحات السُخرة!
عاملات الفلاحة اللائي يُنقلن في عربات مهينة لسْن “خمّسات” ينلن خُمس ما يُنتجنه بعرقهنّ، ولا يحلمن حتّى بعُشُرِ حقوقهنّ الماليّة. هنّ عاملات بـ”السخرة”، لا يمتلكن شيئا ولم يتطوّعن لخدمة أرض لا يجنين ثمارها، وإنّما يُمارسن فعليّا عملا قسريًا أُكرِهن عليه من أجل سدّ رمق أبناء ينتظرهنّ كلّ عشيّة. في أوروبا أُلغي العمل بالسخرة منذ عام 1848، وفي العالم نصّت “اتفاقية السخرة لعام 1930” على إنهاء هذا النظام التشغيلي الاستعبادي. أمّا في تونس، فإنّ الواقع المعيش يكشف أنّ النصوص التشريعيّة ذات الصلة لم تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب جشع رأس المال وخذلان الحكومات المتعاقبة وتواطؤ الصمت الذي يُمارسه المجتمع بأسره. إنّه نظام جديد للسخرة يُمارس على النساء المفقّرات تحت شعار “اخدمي ولا طيري قرنك”، ولا تجد السلطة بمكوّناتها المختلفة سوى تبرير عدم تطبيق القانون…
قالت وزيرة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السنّ نزيهة العبيدي، بالأمس، أنّه تمّ اقتطاع جزء من تصريحها بشأن فاجعة كادحات سبّالة أولاد عسكر، بعد أن صرّحت بأنّه لا مسؤوليّة للحكومة وللأطراف الحكوميّة في الحادثة. خطأ اتّصالي جسيم أشعر العائلات المنكوبة بأنّها على هامش الاهتمام. صحيح أنّ الحكومة لا تتحمّل مسؤوليّة ظاهرة مستمرّة منذ عقود بمفردها، باعتبار أنّ الأحزاب والمجتمع المدني والمنظمات الوطنيّة ووسائل الإعلام تتحمّل بدورها نصيبًا من مسؤوليّة وقف نزيف “الاتّجار بالبشر”، وخاصّة بالفئات الهشّة والمهمّشة والمحرومة وفي مقدّمتها النساء الكادحات في الأرياف.
ومع ذلك فإنّ تطبيق القانون بصرامة وحزم يبقى، في المقام الأوّل، من مشمولات مؤسّسات الدولة المختلفة، وخصوصا أجهزة الأمن والحرس الوطني والولاة وحتّى العُمد الذين يعرفون قبل غيرهم من يُمارس تلك الجرائم بشكل يومي.
في المقابل، كشفت وزيرة المرأة عن أحد المكامن البارزة للمرض المزمن الذي استوطن تونس بعد سقوط النظام الاستبدادي السابق. ذكرت أنّ كرّاس الشروط المنظّم لنقل العملة والعاملات في القطاع الفلاحي جاهز منذ أواخر 2016، أي منذ عامين ونصف العام. وبيّنت أنّ عدم تنقيح القانون عدد 33 من سنة 2004 المتعلق بالنقل البري هو الذي عطّل تنفيذ بنود كرّاس الشروط وبروتوكول الاتّفاق ذا الصلة الذي وقّعته الوزارة مع المنظمات الوطنيّة الكبرى الثلاث، وفق ما أعلنته.

الماء تحت أرجلهنّ!

من المفارقات أنّ بروتوكول الاتّفاق المذكور ينصّ حرفيًا على ضرورة “إنصاف النساء العاملات في القطاع الفلاحي باتخاذ تدابير تنظم عملية نقلهنّ إلى مراكز عملهن والعودة منها في ظروف تضمن سلامتهن وتحفظ كرامتهن وتقيهن من حوادث المرور الخطرة والمتكرّرة والتي تنجرّ عنها وفيّات في صفوفهن وآثار سلبيّة على أسرهن اجتماعيا واقتصاديا”. وهو ما يعني بوضوح أنّ الجميع، بما في ذلك الحكومة واتّحاد الشغل واتّحاد الفلاحين واتّحاد الأعراف، على وعي تامّ بهذه الظاهرة الكارثيّة المتكرّرة التي ما فتئت يُتّم الأبناء في أرياف البلاد.

لا أحد إذن يجهل تلك الجرائم التي يُمارسها المتاجرون بالبشر من أصحاب شاحنات الموت والسماسرة وسائر المستغلّين لعرق الكادحات في الأرياف وضواحي المدن الداخليّة المهمّشة، غير أنّ التصدّي لهؤلاء بقي ضمن الإجراءات الخارجة عن دائرة الأولويّات الملعونة.

بالأمس فقط أي يومًا بعد فاجعة سبّالة أولاد عسكر، عاينّا خلال يوم العطلة الأسبوعيّة في الطريق إلى مدينة الكاف مرور شاحنات تجرّ على سطحها عشرات النساء البائسات كالأغنام. وعلى حافّة الطريق الطويل ذاته، انتبهنا أيضا إلى أنّ عناصر الحرس الوطني كانت قد أوقفت ثلاث شاحنات من تلك للتدقيق في أوراق أصحابها واتّخاذ الإجراءات القانونيّة في ظلّ حالة الاحتقان التي فجّرتها فاجعة السبّالة. تذكرنا عندها للأسف المثل الشعبي القائل: “بعد ما اتخذ اشترى مكحلة”…

يقول المثل الشعبي التونسي أيضا: “الماء يلعب تحت ساقيه، وهو ما يدري”، غير أنّ عاملات الفلاحة يُشاهدن يوميّا انسياب الماء على سطح الشاحنة تحت أرجلهن، وتعرفن السبب أصلا، لكن ما باليد حيلة. فالاستنكار والرفض يعني منعهنّ من التحوّل إلى الحقول ومن ثمّة تجويعنهنّ. هكذا يسكب أصحاب تلك العربات الماء في شاحناتهم، حتى تضطرّ النساء للوقوف ولا تتمكّنّ من الجلوس من أجل أن تستوعب الشاحنات أكثر ما يمكن من المستعبدات. المشهد لا يحتاج لأدنى تعليق!. ولا يكفي إلغاء المظاهر الاحتفاليّة هنا وهناك كي لا تسيل دماء المرأة الكادحة في الريف!…

صدر بالعدد الأخير من أسبوعية “الشارع المغاربي”.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING