الشارع المغاربي – يستعدّون لحكم تونس: فوضويون يساريون، مُتشدّدون دينيّا، وشباب غاضب حول قيس سعيد ! بقلم لطفي النجار

يستعدّون لحكم تونس: فوضويون يساريون، مُتشدّدون دينيّا، وشباب غاضب حول قيس سعيد ! بقلم لطفي النجار

27 سبتمبر، 2019

الشارع المغاربي : إنّ القادة المحرّكين في كلّ العصور، وخصوصا في الثورة الفرنسية أولئك الذين برزوا أثناء الثورة الفرنسية، كانوا محدودي العقل جدّا، ومع ذلك فقد مارسوا تأثيرا كبيرا. إنّ خطابات أشهر واحد فيهم، أي روبسبيير، مذهلة في الغالب من حيث تناقضاتها وعدم تماسكها. وعندما نقرؤها لا نجد فيها أي تفسير معقول للدور الضخم الذي لعبه الدكتاتور الكبير. قيل عنها : إنّها أشياء مبتذلة ومليئة بالتكرار الخاصّ بالفصاحة التربوية الموضوعة في خدمة روح تبدو صبيانية أكثر ممّا هي مسطّحة. وهي تحصر نفسها في الهجوم كما في الدفاع بتلك العبارة الخاصّة بتلاميذ المدرسة:”هلمّوا إذن !”. ليس فيها أيّ فكرة جديدة ولا لفتة ولا ميزة خصوصية. إنّها الضجر في الإعصار.
“غوستاف لوبون “سيكولوجية الجماهير” ص. 189 دار الساقي”.

هل هي موجة “ثورية” ثانية عالية وعاتية بعد انكسار الموجة الأولى على “ضفاف التوافق” وذهاب الزبد “الثوري” جفاء ؟ هل هي لكمة أولى في وجه “السيستام” في انتظار الضربة القاضية في “روندة رئاسية” ثانية ؟ كيف لمترشّح “شبح” أو يكاد، بلا أموال وبلا حزب، ودون حملة شعبية تقليدية… “جسم سياسي طائر ( وطارئ ) غير محدّد الهويّة” أن ينجح باقتدار في القفز وسط ذهول الداخل الوطني والخارجي والظفر الانتخابي دون “وجه أو ملامح” محددّة سوى تبشير بميلاد “عصر الجماهير” وتعاويذ “يسارية عدمية لاسلطوية” وجموع “أذن” فيهم “شيخهم الجديد” فأتوه “رجالا وعلى كلّ ضامر من كلّ فجّ عميق” ؟

“أنا ضد النظام برمّته..أريد منظومة سياسية إدارية جديدة تبدأ من أسفل إلى الأعلى”، “نحن نقبل بقواعدكم لكنّنا نبتكر منها نظاما جديدا”، “نحن دخلنا فيما يبدو لي مرحلة جديدة في التاريخ والمفاهيم الكلاسيكية مثل المجتمع المدني والأحزاب السياسية والديمقراطية نفسها تجاوزتها الأفكار الجديدة”، “إنّها فترة استثنائية في تاريخ البشرية”…هذا بعض ما جاء على لسان قيس سعيّد في حوار لمجلّة ” L.obs ” الفرنسية الذي توزّعت محاوره على خمس أقسام : عقوبة الإعدام – المثلية الجنسية – العدالة الاجتماعية – العلاقات مع فرنسا – العلاقات مع الإسلاميين. كانت إجابات الرجل غائمة وملتبسة وغير دقيقة إذ تعرّض مثلا إلى مسألة “المحافظة على السّلم الاجتماعية” عند التطرّق إلى موقفه من مسألة عقوبة الإعدام واستشهد ببعض الولايات الأمريكية متحدّثا عن مفهوم “اختيار الأمّة” (هكذا) دون توضيح أو حسم ( مع أو ضدّ) تاركا الأمر للجماهير الشعبية، رغم إلحاح المحاور وإعادة السؤال. في قضيّة “المساواة في الميراث” أشار سعيّد إلى مفهوم الإنصاف والعدل كمفهوم يشمل “المساواة الشكلية” قائلا أنّ “الإنصاف هو الهدف وليست المساواة الشكلية”، وهو بذلك يعيدنا إلى المدوّنة الفقهية القروسطية متجاهلا المواثيق الدولية والاتفاقيات الأممية كمنتج إنساني كوني الداعية والحاثّة على المساواة المطلقة بين الرجال والنساء حقوقا وواجبات. إنّ الخلط أو محاولة تعويض “المساواة” كقيمة كونية ونعتها ب”الشكلية” مع مقولة “الإنصاف” فيه نكوص فكري خطير وردّة إلى الوراء، أي إلى المناخات العتيقة و إلى السياقات التاريخية “ماقبل حديثة” حيث يبدو أنّ قيس سعيد “الحقوقي” قد نهل من معينها “القروسطي” ليخرج علينا بتركيبة نظرية هشّة ومتناقضة والأهم من ذلك شعبوية وخطيرة تأخذ من كلّ شي بطرف لتقدّم في النهاية طبقا إيديولوجيا عجيبا يجد فيه كلّ من أتى “من كل” فجّ” إيديولوجي “عميق ضالته”. يضيف سعيّد في حواره مع المجلّة الفرنسية أنّه “تجاوز مفهومي المحافظة والحداثة معا” ! ، هكذا، وبنصف جملة إنشائية قضي أمر “الحداثة” بضربة واحدة ووجب تجاوزها حسب “أستاذنا” وهي (الحداثة) التي أرهقت (كمفهوم) وأقضّت مضاجع مفكّرين عظام منذ خمسينات القرن الماضي فكتب هيدجر وفوكو ودولوز وغادامير وتشومسكي وفاتيمو وادوارد سعيد عن مآزقها وإشكالاتها جيلا بعد جيل لينتهوا إلى دروب عدّة وأقوال غير حاسمة !.

في قراءة تعتمد تفكيكا للخطاب كجملة من العلامات والمعاني المرسلة من سعيّد في حواره المذكور أو حتى في حواره الشهير في جريدة “الشارع المغاربي” أو في بعض التلفزات الأجنبية، يقدّم صاحبه مشروعه بتوجيه نقد “للسيستام” بحكّامه ومعارضته، وبتقديم “رؤية ثورية” تقوم على “المجالس” أي افتكاك القرار من المركز (الدولة السيادية) وإعطائه للأسفل الشعبي عبر قلب الهرم الحكمي و يحصل هذا بإسم إطلاق عنان الإرادة الشعبية وتحريرها من كلّ ما هو خارج عنها، وبإسم “ديمقراطية مباشرة” كبديل ثوري عن الديمقراطية التمثيلية…أي “قذافية” جديدة في غير آوانها وفي غير مكانها…عدمية وفوضى “فكرية” ومغامرة حالمة وخطيرة لن تؤدّي سوى إلى تفكيك دولتنا الوطنية والارتداد عن نظام الجمهورية إلى نظام نجهل معالمه وهويّته…وذلك مربط الفرس !

“جسم طائر غير محدّد الهويّة” وحزام سياسي “ناسف” !
مباغت ومفاجئ فوز قيس سعيّد في الدور الأوّل، ولا يمكن لعاقل أن يقبل أنّ “دبوزة ماء وفنجان قهوة وباكو دخان” زائد “حملة تفسيرية” في المقاهي مع الشباب لوحدها قد حقّقت ما حقّقته. نعلم جميعا تقريبا أنّ الانتخابات ( كما حصلت مع ترامب أو ماكرون مثلا أو حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست” ) تمرّ عبر المنصّات الرقمية ( شركات عملاقة ومخابر Neura link لزوكربارك وموسك مثلا التي تتحكّم في مصائر الشعوب قد تمكّنت مخبريا وبتقنيات دقيقة جدا في توجيه الوعي والموقف والحسّ والذوق + مؤسّسات عابرة للقارات تشتغل في الفضاء السيبارني ككامبريدج أناليتيكا التي تمكّنت كما هو معلوم من تصعيد ترامب عبر استخدام تطبيقات خوارزمية لا ترقى إليها مجاميع الفايسبوك وهي من مجال الميتا – معطيات تمكّن من التلاعب وتوجيه المجموعات والأفراد عبر استغلال المعطيات الديمغرافية والجغرافية والسلوكية والنفسية). نعلم أيضا أنّ المعرفة الحاصلة في big Data المجمّعة من شبكات التواصل والفضاء الافتراضي يقع استخدامها وتوظيفها من شركات ومخابر عملاقة ومن ثمّة توجيه المنشورات والصور والمجموعات والإشعارات والصداقات إلى الأشخاص المؤهّلين لتبنّي هذا المنزع أو ذاك فيخلقون هذا المدّ أو ذاك التيّار.

نعلم كلّ هذا وهو من تحصيل الحاصل، مثلما نعلم أنّ فضاءنا السيبارني مخترق وما قيس سعيّد سوى غطاء ربّما لعملية اختراق لسيادة البلاد من طرف قوى لها تخطيط استراتيجي في تونس وتراهن على “قيادة” تفرض واقعا جيوسياسيا في تونس والمنطقة عامة، كما وضّح الخبير رافع الطبيب في نصّه الملفت “الأساطير المؤسّسة لظاهرة قيس سعيّد”.

قيس سعيّد رجل صادق على ما نعتقد ولكنّ بروزه المفاجئ على السطح في هذا التوقيت الدقيق يطرح أسئلة واستفهامات خاصّة لما يلتقي مشروعه المعلن ( تفكيك المنظومة وقلب الهرم الحكمي وإنهاء مركزية الدولة والتبشير بالحكم المجلسي) مع مشاريع أكبر لمؤسّسات وشركات عملاقة تطيح بدول وتسقط أنظمة وتعبث بصناديق الاقتراع تعمل وفق مصالح معقّدة تخطّط لها ومنذ سنوات عقول ومفكّرين في الغرب ( هانا ارمسترنغ، هامون كاهن ومارك تورنبول وادوارد برنايس صاحب تطبيقات علم التحكّم النفسي الجماهيري عبر الميديا والاتصال الجماهيري وغيرهم).

كما يلتقي أيضا سعيّد ( في مشروعه) مع حزام سياسي “ناسف” وغالب على أقلّيّة “يسراوية” مغامرة، حزام توزّع بين رؤوس “روابط حماية الثورة” وأئمّة متطرّفين و”ثورجيين” حالمين وجموع متشدّدة تشتغل صباحا مساءا في الفضاء الافتراضي على التشويه والتهديد والتكفير وهتك أعراض كل من تعرّض بنقد للقائد “الملهم”… هي “كتلة تاريخية” كما نظّر لها رضا “لينين” رفيق درب سعيّد، تشمل الكلّ، من أقصى اليسار الديني إلى أقصى اليمين الديني: المهم ثورة …ثورة حتى النصر المبين !. وهي أيضا الكتلة التاريخية أو السفينة العجيبة التي تجمع على ظهرها جمعا وخلطا من الأضداد “لينين” ودغيج والجوادي وخزّان منفلت على النهضة وتيّارات “الشيوعيون المجالسيون” و”الماركسيون التحرّريون” والمرزوقي وعبّو وسيف الدين مخلوف المحرّض على الكراهية والداعي إلى الفتنة الجهوية ( تصريح مصوّر خلال حملته الانتخابية في الجنوب التونسي وحديث يحمل مضامين كراهية ضدّ السّاحل).

لم تتقاطع هذه المجاميع المتشّددة مع قيس سعيّد صدفة أو اعتباطا بل وجدت فيه ضالّتها الإيديولوجية، كما عثرت على أرض خصبة ( مشروع سعيّد) يمكن أن تنبت كلّ “جديد ثوري” ف”السيادة ملك الشعب وكلّ شيء يجب أن يبدأ منه” كما ردّد وكرّر مرّات عديدة سعيّد هو خطاب جاذب خاصّة وأنّ صاحبه لم يتوان في القول أنّه لا يملك مضامين بل سيوفّر الأشكال وما على الجماهير إلّا شحنها بما “تريد”.السّواد الأعظم ممّن ركب سفينة سعيّد المظفّرة من “المحافظين” المتشدّدين المعادين بشكل من الأشكال للحداثة والتنوير (مخلوف وروابطه وجزء غاضب نهضوي)، والبعض من بقايا “الموجة الثورية” الأولى (المرزوقي وتوابعه) والبقيّة الباقية شعبويات متناثرة وموزّعة بين “الجيل الثاني” من الثوريين ( الصافي سعيد)، وأخرى خطابات “شعبوية” صاعدة (المرايحي) دون أن ننسى طبعا جموع متشدّدة دينيا حاقدة على دولة الاستقلال ومكاسبها عثرت على زعيمها المحافظ المعادي للمساواة والداعي إلى إسقاط “النظام برمّته” وتفكيكه.

أن ينتصب قيس سعيّد رئيسا، يعني انتصاب حكم الأصوليات اليسارية العدمية “اللاّ سلطوية” التي ستكون مظلّة ( أو مطيّة) لأصوليات دينية متشدّدة. حينها سيصدر العفو ويسرّح كافّة المساجين “المجاهدين سنوات الجمر”، حيث ومن غير المستبعد أن يطالب أنصاره بإقامة نصب لزعيمهم أسامة بن لادن الذي اعتبره سيف الدين مخلوف يوما رمزا وشهيدا… أن ينتصب قيس سعيّد يعني في المحصّلة تقويض الدولة الوطنية وتعويضها بحكم “اللّجان الثورية” والارتداد عن نظام الجمهورية إلى نظام مبهم بلا ملامح واضحة.
في الختام نقول، لقد اجتمع في مشروع سعيّد و المبهم وحوله أيضا الضدّان: أنصار التيّار “اللاسلطوي” بعناوينه “المجالسية” وديمقراطيته المباشرة الموعودة، وأنصار دغيج ومخلوف وماهر زيد والخياري وخليط من المتشدّدين والمغامرين. التقى أقصى اليسار مع أقصى اليمين حول “شيفرة” جامعة التفكيك وإعادة البناء ليصبح القرار للحشود والجماهير “الثورية”…

ما قلناه وما حبّرناه يدخل في إطار التحليل السياسي النظري للظاهرة (قيس سعيّد) وللملامح الإيديولوجية للحزام الملتفّ حوله، كما هو قراءة وتنزيل للظاهرة ولحدث الفوز الانتخابي في السياقات الجيوسياسية الملتهبة. هي قراءة في الأفكار والمشاريع، أمّا الوقائع المباشرة على الأرض فيمكننا القول أنّ الحزام السياسي المذكور يتّجه حسابيا وعلى ضوء نتائج الرئاسيات إلى الفوز في التشريعيات وتشكيل أغلبية في البرلمان القادم. فالمتأمّل لتصريحات رؤوس هذا “الحزام” يستشفّ دون عناء كبير أنّهم واثقون من النصر البرلماني وهم بصدد التشاور استعدادا لحكم تونس.

تذكير أخير (للتدبّر ليس إلّا) : يقول منظّر “الدولة الإسلامية” (داعش) أبو بكر ناجي (وهو إسم حركي) في كتابه “إدارة التوحّش” ما يلي :” يقصد بالتوحّش تلك الحالة من الفوضى التي ستدب في أوصال دولة ما أو منطقة بعينها إذا ما زالت عنها قبضة السلطات الحاكمة. ويعتقد “ناجي” أنّ هذه الحالة من الفوضى ستكون متوحّشة وسيعاني منها السكّان المحلّيون التي ستحل محلّ السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية أن تحسن إدارة التوحّش إلى أن تستقرّ الأمور…
نحن جميعا على عتبات “فخّ” كبير (بمن فينا سعيّد نفسه)…الدولة في قلب العاصفة والنظام الجمهوري في خطر…الحذر والتيقّظ واجب وطني مقدّس اليوم وإلّا……لا قدّر الله…

صدر باسبوعية”الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريح 24 سبتمبر 2019.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING