الشارع المغاربي – يلوّحون بالتوجّه إلى القضاء العسكري: مأزق سياسي أم إنقاذ للدولة! /بقلم: معز زيّود

يلوّحون بالتوجّه إلى القضاء العسكري: مأزق سياسي أم إنقاذ للدولة! /بقلم: معز زيّود

قسم الأخبار

8 مايو، 2021

الشارع المغاربي: هل أمسى تعهّد القضاء العسكري بالقضايا الكبرى المتعثّرة «الحلّ الأخير» في تونس من أجل وضع حدّ لتضخّم حالة الإفلات من العقاب في قضايا أبان القضاء المدني عجزه عن البتّ فيها؟ فقد كشفت أمثلة عديدة أنّ لوبيات السياسة والمال باتت فوق المساءلة. وهو ما أثار جدلا واسعا يحتكم معظمه إلى الاصطفاف السياسي. محاولة للفهم…

ليس سرّا أنّ الصراع السياسي المحتدم القائم حاليّا بين حركة النهضة بمختلف أتبعاها وحلفائها ورئيس الجمهوريّة بكافّة أطياف أنصاره هو الذي يقف وراء البحث عن سيناريوهات ممكنة للاستهداف المتبادل وتقليم أظافر هذا الخصم أو ذاك. تجاذبات مفرطة بلغت أوج التصعيد، فأدّت من ناحية إلى تحويل وجهة التركيز عن القضايا الملحّة لتحقيق مصالح شخصيّة أو حزبيّة أو حتّى عينيّة، ومن ناحية أخرى إلى «ترذيل» الشأن السياسي إلى درجة أنّ حالة الاصطفاف والانقسام قد أسقطت كلّ حدود الرصانة. وبتعلّة «الحصانة» البرلمانيّة أو غيرها، بات من أبسط الأمور استضعاف مؤسّسات الدولة والرمي عرض الحائط بشتّى قوانينها ونواميسها أو حتّى اتّهام الخصم بالضلوع في الإرهاب أو ارتكاب الجرائم الأكثر خطورة المتعلّقة بالخيانة العظمى والعمالة، دون أدنى حجج قانونيّة أو حتّى منطقيّة. وبما أنّ القضاء المدني الذي يُمثّل روح الانتقال الديمقراطي عجز، في أحيان كثيرة، عن الاضطلاع بدور الفيصل الحيوي جرّاء ما يُكابده من تهافت وضغوط متناهية، فقد تعالت أصوات عديدة داعية إلى التوجّه إلى القضاء العسكري، علّه ينجح بالنظر إلى ما عُرف به من صرامة في تطبيق القانون في إعادة بوصلة البلاد إلى وجهتها الصحيحة.

وإذا كان أنصار الرئيس قيس سعيّد وحلفاؤه قد هلّلوا لتلميحاته بشأن تفعيل صلاحيّاته الدستوريّة المتعلّقة بمقارعة الفساد والفاسدين ومن يستهدفون قوت الملايين من التونسيّين أو من يعبثون بالأمن القومي للدولة بوصفه القائد الأعلى للقوّات المسلّحة والضامن دستوريّا لاستمراريّة الدولة، فإنّ الشقّ المنافس المتمثّل في حركة النهضة ومن يدور في فلكها لم يدّخر جهدا في تجييش أنصاره ضدّ ما يصفونه بالدعوة إلى «الانقلاب» على الشرعيّة والديمقراطيّة عبر إقحام المؤسّسة العسكريّة في قضايا مدنيّة لا تخصّها.

كسر العظام برلمانيا وعسكريّا!

تحوّل التصعيد المتبادل بين شقّي الصراع إلى معركة كسر العظام واضحة المعالم، لا نصيب فيها لرفعة الدولة ومؤسّساتها أو للمصالح الحياتيّة للمواطن. وصل هذا التهافت الخارق إلى درجة المناورة بمحاولة سنّ قوانين على المقاس لتجريد الخصم من صلاحيّاته. وآخر البدع ما جاء في مقترح لتعديل القانون الانتخابي تقدّمت به حركة النهضة مؤخرًا. وتنصّ هذه المبادرة التشريعيّة، في الفصل 101 منها، على أن تتمّ دعوة الناخبين إلى المشاركة في مختلف المواعيد الانتخابية (الرئاسيّة والتشريعيّة والجهويّة والبلديّة) بـ»أمر حكومي»، أي أنّها تحاول بذلك إلغاء صلاحيّة رئيس الجمهوريّة ذات الصلة. وهي مناورة يصعب على الأغلبيّة في البرلمان تمريرها، لاسيما أنّ رئيس الجمهوريّة لن يختم مشروع قانون يستهدف صلاحيّاته المعلومة. هذا إذن مثال بسيط للمناخ العام الذي بات يدفع كلّا من الخصمين إلى انتهاج الحلّ الأقصى. وهو ما ينطبق على الدعوات العديدة للتوجّه إلى القضاء العسكري، في عدد من القضايا الشائكة والمتعثّرة التي تحول بعض اللوبيات دون تفكيكها، قصد الحدّ من الإفلات من العقاب الذي تدافع عنه وتستديمه بعض الكيانات السياسيّة والحزبيّة المتصارعة.

في هذا النطاق مثلا جاء إعلان عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري هشام السنوسي مؤخرا، عن اعتزام رفع تقرير حول المؤسّسات الإعلاميّة المخالفة للقانون إلى مجلس الأمن القومي، متّهما داعمي تلك المؤسّسات الخارجة عن القانون وتحديدا الحزام الحزبي والسياسي للحكومة بأنّهم «يتحدّثون عن الفساد وهم مساهمون فيه». وبرّر السنوسي التوجّه إلى مجلس الأمن القومي، بما يعني من ورائه إلى القضاء العسكري، بأنّ أموالا مجهولة المصدر تتدفق بصفة غير قانونيّة على هذه المؤسّسات، ممّا قد يُهدّد الأمن القومي للدولة. والواضح أنّ ما حدث مؤخرا بشأن تعاطي أحد مكوّنات القضاء العدلي ممثلا في النيابة العموميّة مع ملف «إذاعة القرآن الكريم» التي تبثّ دون إجازة قانونيّة قد أفاض القطرة الأخيرة في الكأس. فقد استنطِق رئيس «الهايكا» نوري اللجمي، بدلا من صاحب الإذاعة سعيد الجزيري المتحصّن بعضويته في البرلمان وبتحالفه مع حركة النهضة وكتلة «ائتلاف الكرامة»، وذلك بتهمة أقلّ ما يقال فيها إنّها مثيرة للدهشة ومتناهية الغرابة وتتمثّل في «سرقة معدّات ومحاولة الاغتيال». والحال أنّ هيئة الاتّصال السمعي والبصري قد مارست الصلاحيّات التي يُسندها إليها القانون في حجز معدّات البثّ لإذاعة غير قانونيّة. ومن ثمّة، بات ثابتا لدى الهيئة ونقابة الصحفيّين أنّ الضغوط الحزبيّة والسياسيّة قد أطلقت يدها العليا لانتزاع أهمّ صلاحيات الهيئة عبر توظيف القضاء في ضرب استقلاليّتها والانقضاض على حريّة الإعلام عموما. وبذلك توصّلت «الهايكا» إلى أنّه لم يعد أمام من حلّ سوى التوجّه إلى جهة أعلى يُفترض ألّا تتخاذل في تطبيق القانون…

هذا التوجّه إلى رئيس الجمهوريّة، بوصفه رئيس مجلس الأمن القومي، يبرّره أصحابه بفقدان الثقة في قدرة المؤسّسات المدنيّة والأطر القضائيّة العاديّة في إصلاح الأوضاع ومحاربة الفساد السياسي واختراق مؤسّسات الدولة واستضعافها والحدّ من الإفلات من العقاب. في هذا المضمار، كانت النائبة سامية عبّو قد دعت رئيس الدولة إلى تفعيل قانون الطوارئ عبر التعويل على الجيش والقضاء العسكري في إيقاف الفاسدين ووضعهم في الإقامة الجبرية. تصريح مثير دفع مناوئيها إلى شنّ حملة واسعة ضدّها بدعوى أنّها تحثّ بشكل معلن على «انقلاب» عسكري ضدّ المؤسّسات الشرعيّة، بعد أن انقلبت على مواقفها السابقة المناهضة للمحاكمات العسكريّة، وهي القائلة سابقا «أنا ثقتي في القضاء العسكري مهتزّة». من جهتها، برّرت عبّو ما ذهبت إليه في تعقيب قالت فيه «لم أدع إلى انقلاب عسكري ولا إلى تدخّل عسكري، بل طالبت بتطبيق القانون على الفاسدين وعلى رئيس الجمهوريّة ممارسة صلاحيّاته». وذكّرت بأنّه حين «طبق (رئيس الحكومة الأسبق) يوسف الشاهد الإقامة الجبريّة على فاسدين كنا أوّل الداعمين له، لكن اتّضح أنّها كانت عمليّة ابتزاز وليست حربا على الفساد»، معتبرة أنّ «الأموال المشبوهة هي التي أفسدت الانتقال الديمقراطي»، ومتسائلة عن مدى وجود العدالة في القضاء المدني وعن خلفيات طمر أحكام محكمة المحاسبات في ظلّ ما كشفته من فضائح وما إلى ذلك…

مأزق أم حقّ أريد به باطل؟

لم تعد الدعوة إلى الالتجاء إلى مجلس الأمن القومي وإلى القضاء العسكري إذن مقصورة على القضايا ذات الصلة بالأمن القومي، أسوةً ببطاقة الجلب التي صدرت في حقّ النائب راشد الخياري على إثر اتّهامه الصريح لرئيس الجمهوريّة بالخيانة العظمى والعمالة والتخابر مع أجهزة دولة أجنبيّة وجرّاء قبوله تمويلها لحملته الانتخابيّة. فقد تزايدت الدعوات إلى تعهّد القضاء العسكري، ومن ورائه المؤسّسة العسكريّة، بقضايا لم يُفلح القضاء المدني في البتّ فيها. وإذا كانت الخشية من انتكاسة ديمقراطيّة جديدة تجد مبرّراتها، بالنظر إلى الإشكالات ذات الصلة بصعوبة ضمان شروط المحاكمة العادلة في القضاء العسكري، فإنّ تأبيد الوضع السائد حاليا يعدّ كارثيّا أيضا، وخاصّة بالنظر إلى تفاقم حالة الإفلات من العقاب للوبيات الفساد والتهرّب الضريبي التي تحظى بحماية بعض القوى الحزبيّة والسياسيّة والماليّة، فضلا عمّا أعلِن عنه مؤخرا بخصوص نزيف مليارات الدنانير التي هُربت إلى الخارج…

نشهد إذن مأزقا حقيقيّا، فمن المفروض ألّا تستهدف المحاكمات العسكريّة المدنيّين بشكل عام، وخصوصا في فترات الانتقال الديمقراطي، بصرف النظر عن خطورة التهم الموجّهة إلى ذوي الشبهة. ومع ذلك فإنّ ما يحدث اليوم لا يُشكّل سابقة، إذ أنّه عندما تعهّد القضاء العسكري، في نطاق ما عُرف بـ»الحرب ضدّ الفساد»، بقضيّة رجل الأعمال شفيق الجراية بتهم المسّ بأمن الدولة والخيانة العظمى والتخابر مع جيش أجنبي رغم صفته المدنية، لم تحرّك الطبقة السياسيّة ساكنا، بما في ذلك حركة النهضة، على الرغم من أنّ الجراية كان من حلفائها قبل أن يُغيّر وجهته إلى التحالف مع نجل الرئيس الراحل حافظ قائد السبسي.

وهل ننسى أيضا أنّ القضاء العسكري كان قد فرض نفسه، بمقتضى القانون، جهة اختصاص في التعهّد بقضايا شهداء الثورة وجرحاها. حينها لم يشكّك السياسيّون والحقوقيّون في مصداقيّة المحاكم العسكريّة، بل تماهى مع التهليل الشعبي العام بالسند الكبير الذي شكّلته المؤسّسة للثورة، مقابل تنامي فقدان الثقة في القضاء العدلي. وهو ما أدّى في ما بعد إلى تفعيل القضاء العسكري صلاحياته الواسعة بمقتضى المرسومين عدد 69 و70 لسنة 2011 المتعلقين بتنقيح وإتمام مجلة المرافعات والعقوبات العسكريّة وبتنظيم القضاء العسكري، في اتّجاه تطوير منظومة القضاء العسكري ضمانًا لشروط المحاكمة العادلة.

ومن الأهميّة بمكان أن نشير، في هذا الصدد، إلى أنّ دستور الجمهوريّة التونسيّة لسنة 1959 لم يُشر إلى المحاكم العسكريّة في بابه الرابع المتعلّق بالسلطة القضائيّة، ولم تتم دسترها إلّا في دستور 2014. وهو ما يُثير جانبا من الاستفهامات إزاء الخلفيّات السياسيّة التي تقف وراء قيام لجنة الصياغة بالمجلس التأسيسي بإدراجها.

وللإشارة فإنّ الفصل 110 من دستور 2014 ينصّ على أنّ «المحاكم العسكريّة محاكم متخصّصة في الجرائم العسكريّة»، لكنّ هذا الإيجاز يجعله غامضا بشأن من يمكن محاكمتهم، إذ أنّ الجرائم العسكريّة التي تتخصّص فيها المحاكم العسكريّة يمكن أن يرتكبها غير منظوري المؤسّسة العسكريّة، ومن بينها مثلا جرائم يقوم بها مدنيّون لاستهداف مختلف منظوري المؤسّسة العسكريّة أو لضرب الأمن القومي للدولة الذي يُعدّ في صميم عمل هذه المؤسّسة السياديّة. والأهمّ من ذلك أنّ يُتيح تعهّد القضاء العسكري بقضايا تخصّ مدنيّين هو اختصاص المحاكم العسكرية يعتمد حاليا على «المعيار الشخصي، أي أنّ المحاكم العسكريّة تتخصّص في نوع القضايا والجرائم العسكريّة، لا في فئة الأشخاص الذين يرتكبونها. وهو ما يُفسّر مثلا أسباب تعدّد إحالات المدنيّين أمام المحاكم العسكريّة بتهم وشبهات من قبيل «إهانة الجيش والمسّ بمعنويّاته».

والحقيقة أنّ هذا الأمر لا يخصّ تونس فحسب، ففي بريطانيا مثلا بوصفها إحدى أعرق الديمقراطيّات، يتعامل قانون القوّات المسلّحة الصادر عام 2006 مع «الجرائم العسكريّة والجرائم المدنيّة التي تُرتكب في بعض الظروف والجرائم التي يرتكبها مدنيّون مرتبطون بالقوّات المسلّحة سواء في الداخل أو الخارج بما في ذلك أفراد الأسرة». ومع ذلك فإنّ الديمقراطيّة التونسيّة لا يزال عودها طريّا، ممّا جعلها رهينة للوبيّات الفساد والكيانات السياسيّة التي لا تأخذ من النظام الديمقراطي إلّا بآليّاته الانتخابيّة من أجل بسط هيمنتها على المجتمع والحكم ومراكمة الغنائم. فهل يجوز، لوضع حدّ لتلك الممارسات، إقحام العسكر في الشأن السياسي عبر إعادة إنتاج شعار «لا ديمقراطيّة مع أعداء الديمقراطيّة»؟ من الثابت أنّ الديمقراطيّة الحقّ ترفض ذلك السبيل القمعي. وفي الآن ذاته، من الضرورة تجنّب كارثيّة «الحلّ الأخير» والعمل على إيجاد السبل الكفيلة بوضع حدّ لعدم تطبيق القانون ولاستهداف مؤسّسات الدولة وتفاقم الإفلات من العقاب تحت غطاء سياسي…

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 4 ماي 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING