الشارع المغاربي : انطلقت رحلة البحث عن “ربان جديد للسفينة” كما يحلو لأمين عام المنظمة الشغيلة نور الدين الطبوبي توصيف منصب رئيس الحكومة ، لتنتهي معها أحلام يوسف الشاهد في المحافظة على منصبه حتى “افق 2020” ..
قصة الصعود
لم يكن من السهل على المتابعين للحراك السياسي الذي عاشت على وقعه تونس صيف 2016 ، التصديق بأن يوسف الشاهد الخبير الزراعي السابق بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية بتونس والذي تم تداول اسمه بقوة طيلة أيام في الكواليس السياسية كمرشح لخلافة الحبيب الصيد ، سيعين فعلا رئيسا للحكومة .
جاء اجتماع 3 أوت 2016 ليضع حدا للتكهنات ، وليفاجأ رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي جماعة الموقعين على وثيقة قرطاج من أحزاب ومنظمات ، بتقديم اسم “يوسف” في افتتاح الاجتماع ، لينطلق الجدل في قلب ذلك الاجتماع ثم خارجه بسبب تحفظ واسع على هذا التعيين ليس على خلفية محدودية تجربة “الشاهد” فحسب ، بل لعلاقة القرابة التي تجمع يوسف الشاهد بالرئيس قائد السبسي .
ما لا يعرفه الكثيرون ان لسليم العزابي مدير الديوان الرئاسي والصديق المقرب من الشاهد دورا محددا في ذلك التعيين . فيوما قبل اجتماع 3 أوت 2016 كان للعزابي صوت العائلة وممثلها كما يلقب بالأوساط السياسية، لقاء مع سفيان طوبال رئيس كتلة نداء بمجلس نواب الشعب الذي كُلف بتعديل الكفة داخل الحزب واقناع حافظ قائد السبسي المتمسك وقتها بالمرحوم سليم شاكر للمنصب بتزكية “مرشح الأب” .
وهو ما تم فعلا . فقد استقبل الباجي قائد السبسي خلال آخر رمق من عمر المشاورات وفدا عن نداء تونس من بين أعضائه طوبال ، تخلله طرح لمرشحي النداء تضمن اسم يوسف الشاهد يليه سليم الشاكر ، ونجح مرشح “العائلة“ بالتالي في الحصول على غطاء آخر بخلاف الغطاء الرئاسي .
تحول الشاهد اذن الى مرشح الباجي لرئاسة الحكومة ، وسهرت عديد الاطراف على تأمين وصوله سالما إلى منصبه ، مستعينا في ذلك بجوكر اسمه “الطبيب الشخصي للرئيس” الذي تجمعه به علاقة قرابة ، والذي أصبح في مشاورات تشكيل الحكومة صاحب قول وفصل ووراء اقتراح عدد من الأسماء سقط بعضها على غرار خليل الغرياني .
لكن الشاهد الذي ترأس لجنة الـ13 التي قادت مؤتمر سوسة الشهير ، ورشحه رضا بلحاج القيادي السابق بنداء تونس لكتابة الدولة في حكومة الحبيب الصيد الاولى ، غاب عنه الحدس السياسي وهو يحرق المراحل بسرعة. فدخول القصبة رافقه تعيين عدد من الأصدقاء في مناصب لا خبرة او كفاءة تؤهلهم للفوز بها ، ورافقته ايضا قناعة لا مبرر لها بأنه باق حتى 2019 .
تلك القناعة كانت وليدة وثيقة قرطاج التي جمعت حولها 9 أحزاب و3 منظمات وطنية ، ولوبيات تتوزع بين العائلية والمالية ، وبشكل اقل سياسية ، ودعم الصديق المقرب في القصر الرئاسي ، وترحيب دولي بتعيين شاب لا يتجاوز سنه 41 سنة على رأس الحكومة ، لتتعزز أكثر بظهور “ترويكا” تضم الرئاسة والقصبة ونداء تونس .
فخلال مرحلة الصعود ، نُصح الشاهد بافتكاك الموقع الأول بنداء تونس ، ودخل في مشروع مع حافظ قائد السبسي ، يتم بمقتضاها إزاحة سفيان طوبال رئيس كتلة نداء تونس وتعيين محمد سعيدان مكانه وإحالة منصب رئيس الهيئة السياسة لرئيس الحكومة الشاب مع توزيع بقية المناصب الحكومية على وزراء وكتاب الدولة الندائيين ، بما يُحوّل نداء تونس الى “حزب دولة” قادر على الاستفادة من السلطة لمواجهة حراك ” مجموعة الانقاذ” من جهة وتمرد داخل الكتلة يقوده رجل الاعمال شفيق جراية من جهة اخرى.
فشل ذلك المشروع بسبب خسارة قائد السبسي معركته أمام طوبال وشفيق جراية وبروز معطى مفاده تحكم رجل الأعمال في الكتلة البرلمانية لنداء تونس ، ودخل الشاهد في مغامرة يقودها اياد الدهماني والمهدي بن غربية ونور الدين بن تيشة تقوم على تأسيس قوى سياسية تضم الأغلبية المساندة للحكومة او ما عرف وقتها بحكومة “الوحدة الوطنية” .
ومرة اخرى تفشل التجربة ، ويدخل الشاهد في حرب مع نجل الرئيس الذي اصبح يعتبره متمردا على الحزب و“العائلة” ، رافضا لعب دور ثانوي في الحكم ” يليق به” ، وتلك الحرب بانت واصبحت من المعطيات المؤكدة في الساحة السياسية بفضل تسريبات اجتماع الهيئة السياسية الذي عقد إبان اقرار الشاهد تحويرا وزاريا جزئيا.
حتى تلك الفترة (مارس 2017) لم تشب علاقة الشاهد برئيس الجمهورية أية شائبة ، بل وسانده في كل الأزمات بما فيها تلك التي جمعته بالابن حافظ قائد السبسي قبل ان تنطلق “الحرب على الفساد” التي بدأت بإيقاف رجل الأعمال شفيق جراية (ماي 2017) وتمت دون تشريك نداء تونس فيها وتزامنت مع سفر كل من حافظ قائد السبسي وسفيان طوبال إلى الصين .
بعد فترة وجيزة انطلق تنسيق بين نداء تونس وحركة النهضة حول بقاء الشاهد في منصبه ، تنسيق أفضى الى ظهور راشد الغنوشي في حوار تلفزي يطالب فيه صراحة يوسف الشاهد بالتعهد بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة وبتكييف حربه على الفساد مع الترسانة التشريعية والقانونية بعيدا عن اية اخلالات قد تتسبب في فشلها . وان لم يلق طلب الغنوشي تجاوبا من الرئيس قائد السبسي فإن المعطيات المتوفرة تؤكد ان الباجي رفض توقيت إبعاد الشاهد الذي سيجعل منه “بطلا“ أقيل بسبب حرب على الفساد .
السقوط .. دور اتحاد الشغل
شكل الاتحاد العام التونسي للشغل أهم مساند ليوسف الشاهد، متخفيا وهو يمارس السياسة ويتغذى من مكارم السلطة بـ ” ضرورات المحافظة على الاستقرار السياسي ” ، وتحول نور الدين الطبوبي الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل إلى ابرز مستشاريه وإلى صوت لا ُيردّ في القصبة، تقارب أصبح محل انتقاد واسع من الأحزاب والمنظمات وخاصة الخصم الكلاسيكي للاتحاد منظمة الأعراف .
بل وتسبب التقارب بين اتحاد الشغل والشاهد أيضا في خلق فجوة بين رئيس الحكومة وحزبه نداء تونس ، بأن خُيل للشاهد أن الاتحاد سيكون صمام الأمان امام أية محاولات لزعزته ، وكان له ذلك خلال اجتماع الموقعين على وثيقة قرطاج في جانفي 2018 يوم رفض الطبوبي دعوة قائد السبسي لتشكيل حكومة استنادا الى نتائج انتخابات 2014 ، وقبلها خلال مناقشة مشروع قانون المالية والسند الذي تحصل عليه الشاهد من الاتحاد.
لأكثر من سنة تحرك الشاهد يمينا وشمالا، والمنظمة الشغيلة تواصل دعمها له ، ووصل بها الأمر إلى حدّ تزكية حكومته الثانية التي أعادت الى الحياة “رميم” وزراء بن علي ، وشهدت ترقية أصدقاء “يوسف” ، وتعزز فيها حضور نداء تونس والنهضة ، وتواصلت أيضا حرب انتقائية على الفساد ، وتخللتها تصنيفات أوروبية مهينة للبلاد ، وانتهت “صحفة العسل” منذ شهر ونصف تقريبا وتحديدا يوم أوفد الشاهد للطبوبي مرسولا كان وراء تغيير كل المعطيات.
ذلك المرسول، أو اللقاء الذي جمع احد الوزراء بالطبوبي اعلمه فيه اعتزام الحكومة التفويت في مؤسسة التبغ والوقيد وفي 10 في المئة من المؤسسات العمومية ، وجاء الرد الاول من الاتحاد بإعلان حملة لمساندة القطاع العام اعقبها اتفاق على إبعاد الشاهد مبنية على جملة من المعطيات.
وأكد مصدر قريب من الطبوبي لـ” الشارع المغاربي“، انه تبين للمنظمة ان الشاهد فشل في أداء مهامه وأصبح مسكونا باستحقاق 2019 ، وان المركزية النقابية تيقنت بان الحكومة مشتتة وأن قرارتها صادرة عن مجموعة مضيقة من مستشاري الشاهد . ويقول نفس المصدر ان ملفات فساد تحوم حول عدد منهم وتتعلق بشبهات سمسرة وتجميع اموال ستضخ في الحملة الانتخابية الرئاسية القادمة .
الى ذلك كشف المصدر أن “عامل الوقت والتجربة اكد للاتحاد خطورة بقاء مغامر على رأس الحكومة ” وان لقاء جمع الطبوبي بعميد المحامين بيّن تجاوزات عديدة في ملف الحرب على الفساد وحتى شبهات ” تهديد شخصيات بإدخالها السجن ” في إطار هذه الحرب ومن منطلق ” تغيير موازيين القوى في أحزاب وأيضا في جمعيات رياضية“.
وعلم” الشارع المغاربي“ ان عددا من كواليس زيارات رئيس الحكومة نذكر منها زيارته الى الجزائر ومصر كان محل نقاش صلب اتحاد الشغل، وطرحها عدد من قيادات المنظمة خلال المشاورات التي يقودها الطبوبي ، بسبب ما شابها من ممارسات لا تليق بمنصب الشاهد وتمس من هيبة تونس ومن ديبلوماسيتها .
يوسف الشهيد
يعد فشل يوسف الشاهد في المحافظة على الحزام السياسي والاجتماعي والنقابي الاستثنائي الذي تحصل عليه مقارنة بجميع رؤساء الحكومات المتعاقبة، دليلا على ان الخلل يكمن في شخصه ولا يتعلق بمخاوف من افشال استحقاق الانتخابات البلدية مثلما ادعى في خطابه بالبرلمان ، او بسبب مخاوف البعض من حربه المشلولة على الفساد.
فمغادرة 4 احزاب وثيقة قرطاج ، وتحوّل الاتحاد الى خصم شرس، ورفع صانع صعوده السياسي الباجي قائد السبسي يده عنه والى مجرد متابع للحظة سقوطه السياسية ومغادرته السلطة التي وعده بأن تكون “لائقة” تكفي للقول بان الشاهد كان شهيد نفسه ، وأن طموحات سياسية جنت عليه وأنسته مهامه، وكبلته عن البحث عن آليات تحقيقها، واليوم لا نخال ان المغادرة بالحصيلة الهزيلة قد تكفيه لخوض تجربة جديدة بتأسيس حزب او الترشح كمستقل لان مغادرته القصبة حُسمت والجميع اصبح يبحث عن بديل.