الشارع المغاربي – "‬قيس"‬‭ ‬و"عمر‮"‬ والفقر / بقلم‭ ‬ألفة‭ ‬يوسف

“‬قيس”‬‭ ‬و”عمر‮”‬ والفقر / بقلم‭ ‬ألفة‭ ‬يوسف

قسم الأخبار

26 فبراير، 2022

الشارع المغاربي: عوّدنا سيادة رئيس الجمهوريّة بأن يبدي أكثر من مرّة إعجابه بشخصيّة الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب. وأشار إلى أنّه يتّخذه قدوة. تكرّر ذلك مرّات، نذكر منها على سبيل المثال مناسبة زيارة السّيّد قيس سعيّد لبعض المناطق الرّيفيّة في القيروان في أفريل 2021، وإقراره بأنّه يريد القضاء على الفقر أسوة بعمر بن الخطّاب. وإنّني شأني في ذلك شأن أغلب المواطنين والمواطنات، لا أجد داعيا إلى تكذيب سيادة الرّئيس بل إنّي أصدّقه تصديقا كاملا. وأريد أن أختبر مدى نجاحه في القضاء على الفقر بتونس بعد زهاء السّنتين من تصريحه هذا.

لا يحتاج المرء إلى أن يكون خبيرا كبيرا في المسائل الاقتصاديّة حتّى يلمس ما بلغه الوضع الاقتصاديّ التّونسيّ من تدهور. لن أتحدّث عن انخفاض التّرقيم السّياديّ من قبل أكثر من وكالة تصنيف، وإنّما سأكتفي بملاحظة بسيطة يعرفها كلّ من يتسوّق في تونس، وهي الارتفاع الجنونيّ الّذي تشهده أسعار الموادّ الغذائيّة الضّروريّة والأساسيّة. ويتضافر على هذا الارتفاع الجنونيّ للأسعار فقدان عدد كبير من الموادّ الأساسيّة من السّوق أو تحديد كمّيات اقتنائها. ونحن على أبواب شهر رمضان الّذي يكثر فيه الاستهلاك، لا يلمس المواطن(ة) التّونسيّ(ة) أيّ استراتيجيا واضحة من أجل إيجاد حلّ لهذا الوضع المزري ولتدهور المقدرة الشّرائيّة للشّعب التّونسيّ. إنّ السّيّد الرّئيس الّذي يريد القضاء على الفقر أسوة بعمر بن الخطّاب، وفي ظلّ عجز واضح لحكومته عن تقديم تصورات بديلة، يحاول أن يشبع الشّعب التّونسيّ تصريحات وخطبا. فهو في كلّ الأحوال يلقي المسؤوليّة على غيره، على مسالك التّوزيع أحيانا إذ يؤكّد” ضرورة مساهمة أصحاب مسالك التوزيع في المجهود الوطني وتحمل المسؤولية، وعدم استغلال الظرف الذي تمر به البلاد”، وعلى المحتكرين أحيانا أخرى مشيرا إلى أنّ للتّجّار “الحقّ في  ربح مشروع، ولكن ليس لهم الحقّ في الاحتكار أو المضاربة أو تغييب بعض المواد الغذائية”. وإنّنا إذ نوافق سيادة الرّئيس في أنّ مسالك التّوزيع والاحتكار هما العاملان الأساسيّن في ارتفاع الأسعار، نودّ بكلّ لطف وتقدير أنّ نذكّره بأنّ هذه الحقائق أمر بديهيّ ومعروف، أو لعلّها شبيهة كما يقول المثل الفرنسيّ بحقيقة “لا باليس”، وحقيقة “لاباليس” هي كلّ بديهة يكون الإقرار بها مثيرا للسّخرية، كأن تقول مثلا إنّ فلانا توفّي، ولو لم يمت لكان بعد حيّا. وفي مقامنا، أليس من البديهيّ أنّ التّجّار ليس لهم حقّ في الاحتكار؟ وهل انتخب التّونسيّون رئيسا ليذكّرهم بهذه البديهة أم ليوجد حلولا عمليّة للمحتكرين؟ هل انتخب التّونسيّون رئيسا ليندّد ويهدّد ويتوعّد فقط؟ هل انتخبوه ليقول: “نحن في معركة أو في حرب إن شئتم، لكن دون دماء ودون رصاص”؟ هل انتخبوه ليقول: “أعرف الكثير عن طرق الاحتكار وعن المستودعات التي توجد فيها آلاف الأطنان من المواد الغذائية”؟. إنّنا إذا صدّقنا الرّئيس في أنّه يعرف مسالك الاحتكار ولا يفعل شيئا فهذه مصيبة، وإذا لم نصدّقه أو إذا ثبت أنّه لا يعرف مسالك الاحتكار، فالمصيبة أعظم. قد يستند مفسّرو كلام سيادة الرّئيس، وما أكثر مفسّري كلامه، إلى أنّه يهدّد المحتكرين في مرحلة أولى قبل أن يمرّ إلى الفعل. ولكنّ هؤلاء قد ينسون أو يتناسون أنّ هذا الإنذار الرّئاسيّ قد قيل منذ زهاء السّنة. فما الّذي تغيّر في مجال الاحتكار من زمن ذلك القول إلى اليوم؟ نكون جاحدين إذا قلنا إنّ الأمور لم تتغيّر، فهي قد تغيّرت، ولكن إلى الأسوء. وهذا أمر منطقيّ ومتوقّع، فإذا اكتفى الرّئيس بالتّهديد والوعيد دون أن يوجد حلولا عمليّة، فإنّ المحتكرين والفاسدين القائمين على مسالك التّوزيع لن يتراجعوا بل سيواصلون تخريب الاقتصاد التّونسيّ وإلحاق الأذى بقوت المواطنين.

إنّ من المشاكل الجوهريّة في خطاب الرّئيس قيس سعيّد هي جنوحه في أغلب الأحيان إلى تقديم “خصوم” و”أعداء” و”مجرمين” و”فاسدين” هم السّبب في مصائب البلاد جميعها. وإنّنا قد نوافقه في ذلك، بشرط أن يتذكّر أنّه هو المسؤول الأوّل اليوم عن أوضاع البلاد والعباد، وأنّ هذه المسؤوليّة تكاد تكون مسؤوليّة كاملة منذ 25 جويلية، بما أنّ الحكومة نفسها هي حكومة الرّئيس في ظلّ غياب مجلس النّوّاب وضمور الأحزاب. وقد يكون هذا الوضع مقبولا لأنّه استثنائيّ وعابر، ولكن ما هو ليس عابرا، وما لا يختلف فيه اثنان هو أنّ كلمة “مسؤول” تعني من يتحمّل المسؤوليّة. فإذا تكاثر الفاسدون ولم يتمّ الضّرب على أياديهم، فالرّئيس (وحكومته) هو المسؤول، وإذا كثّف المحتكرون أنشطتهم وشرعوا في تجويع شريحة كبيرة من التّونسيّين دون أن يقعوا تحت طائلة الرّدع القانونيّ، فالرّئيس (وحكومته) هو المسؤول. إنّ إلقاء اللوم على كائنات هلاميّة، وتنويع ألفظ التهديد والوعيد، ليس إلاّ شكلا من أشكال التّهرّب من المسؤوليّة أمام المواطنين والمواطنات. وإنّ النّهضة وأتباعها من حكومات متعاقبة على تونس، قد اعتمدت أسلوب التّهرّب هذا بعد 2011، فكانت تلقي باللّوم على نظام بن علي وعلى الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل وعلى كلّ من “يضعون العصا في العجلة”، مبرّرة بذلك عجزها التّامّ عن إدارة شؤون البلاد والعباد. على أنّ هذه التّبريرات لم تقنع أحدا، لا الشّعب الّذي لفظ في عمومه منظومة العشريّة السّوداء في تونس، ولا قيس سعيّد نفسه الّذي يحاول “تصحيح المسار” وهذا ما يعني إيمانه بأنّ المسار كان خاطئا وبأنّ المشرفين عليه هم من تجب مساءلتهم.

إنّنا لا نطلب من سيادة الرّئيس أن يكون مختصّا في الاقتصاد ولا نشترط أن يكون متمكّنا من آليّاته، ولكنّنا نطالبه بأن يحيط نفسه بتونسيين وتونسيات أكفاء في هذا المجال، يمكن الاعتماد عليهم من أجل حلول عمليّة دقيقة وواضحة. وإنّنا ندعوه بكلّ رفق إلى أن يراجع العبارات العامّة والفضفاضة الّتي يستعملها في المجال الاقتصاديّ، والّتي لا تليق برئيس هو يمثّل الدّولة التّونسيّة. إنّنا فقط نذكّره بمسؤوليّته إزاء المواطن(ة) البسيط(ة) الّذي غدا اليوم في حال من اليأس تحمل بعض الشّباب على أن يلقوا بنفسهم في البحر في إطار الهجرة اللاشرعيّة، وتحمل البعض الآخر من أطبّاء ومهندسين وكفاءات عليا على أن يغادروا البلاد مغادرة جماعيّة يحتفون بها أحيانا.

يقول سيادة الرّئيس إنّه يتّخذ عمر بن الخطّاب قدوة له. على أنه يبدو أنّ الرّئيس في الوضع الحاليّ أقرب إلى أن يتّخذ قدوة له إحدى الشّخصيّات الواردة في أخبار عمر بن الخطّاب. ونعني شخصيّة تلك المرأة الّتي تطهو الطّعام لأبنائها الجياع، وتمنّيهم بما لذّ وطاب، في حين أنّ قدْر الطّعام يحتوى على حجارة، وأنّ المرأة تنتظر فقط أن يتعب أبناؤها ويناموا على الطّوى. وجه الشّبه أنّ السيّد الرّئيس يمنّي الشّعب التّونسيّ منذ أشهر طوال بالقضاء على المحتكرين ويعدهم بإخضاع مسالك التّوزيع إلى القوانين، والحال أنّ الأسعار تواصل ارتفاعها والموادّ الأساسيّة تواصل اختفاءها. ومثلما أنّ حصى المرأة لا يشبع الأطفال الجوعى، فإنّ التّهويمات اللّفظية للرئيس تنديدا وتهديدا لن تشبع التونسيين والتونسيّات. وإذا كان الأطفال وجدوا في عمر بن الخطّاب، وفق الخبر، منقذا من ليلة أخرى يمضونها وبطونهم جائعة، فمن الّذي سينقذ الشّعب التّونسيّ من فقر متزايد وجوع فاغر فاه في وقت يتهرّب فيه كلّ الماسكين بزمام الشّأن السّياسيّ من المسؤوليّة؟ ألم يحن الوقت حتّى نخرج من التّهديد والوعيد ومن الاعتماد على غير المختصّين في الاقتصاد أو على غير الأكفاء فيه، فنسلّم الشّأن الاقتصاديّ إلى أهله متّخذين الجدوى والجدارة والقدرة على إيجاد الحلول مقياسا، ومعرضين عن مقياس الولاء لمنظومة الحكم الحالية ومقياس الطّاعة المطلقة للقائمين عليها؟

نشر بصحيفة “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم الثلاثاء 22 فيفري 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING