الشارع المغاربي-العربي الوسلاتي: الأرقام لا تكذب ولا تخدع.. والأرقام في تونس تتعاظم سلبا بشكل مفزع وهي تدق منذ فترة ناقوس الخطر ولكن لا أحد يهتم أو يعير اهتماما لما تدوّن المراصد من احتجاجات وتحرّكات تنبئ أحيانا بأسوإ ممّا هو آت… 888 تحرّكا احتجاجيا تم تسجيلها خلال شهر مارس فقط. رقم يكفي ربّما لتلخيص الحالة الكارثية التي وصلت اليها البلاد على كافة المستويات سيّما أن التحركات التي تمّ رصدها تمسّ عديد القطاعات وتطال كل الشرائح المجتمعية بشكل يوحي ومنذ الوهلة الأولى بأنها إرهاصات أكبر لتحرّك أوسع وأخطر قد يأخذ شكلا جديدا من أشكال العصيان الجماعي.
استنادا الى لغة الأرقام وحتى يكون التبويب سليما وصحيحا بعيدا عن الدخول في نفق الاجتهادات والقراءات الشخصية كشف آخر تقرير نشره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنه تمّ خلال شهر مارس الماضي تسجيل 888 حالة من التحركات الاحتجاجية استأثرت الاحتجاجات العشوائية فيها بأعلى نسبة حيث بلغت أكثر من 92 بالمائة في حين استقرت الاحتجاجات المنظمة في حدود 26.4 بالمائة. وتوزعت هذه التحركات بين نحو 80 بالمائة في شكل اعتصامات مقابل نحو 7 بالمائة في شكل إضراب عن العمل.
واحتلت التحركات ذات الطابع الاجتماعي خلال الشهر ذاته المركز الأول بنسبة 55 بالمائة وتمحورت أبرز المطالب حول الحق في التشغيل والمطالبة بحقوق العمال والاحتجاج على عدم تفعيل اتفاقيات سابقة أو تحسين ظروف العمل. في المقابل حلّت الاحتجاجات ذات الطابع الإداري التي يشنها الموظفون للمطالبة بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية في المركز الثاني بنسبة 29 بالمائة، تليها التحركات ذات الطابع الاقتصادي وبنسبة بلغت 16 بالمائة. وقد نُفذّت أغلب هذه التحركات الاحتجاجية، خلال شهر مارس الماضي، صلب القطاع العام وبنسبة وصلت إلى 59 بالمائة، مقابل 14 بالمائة في القطاع الخاص.
وتصدّر المعطلون عن العمل طليعة المحتجين بنسبة 52 بالمائة، فأصحاب الشهائد العليا بنسبة 38 بالمائة، والعمال بنسبة 25 بالمائة أما من حيث التوزيع الجغرافي للاحتجاجات فقد تم تسجيل أعلى موجة من التحركات الاحتجاجية في الوسط الغربي بـ258 تحرّكا احتجاجيا يليه الجنوب الغربي بـ216 احتجاجا، ثم الجنوب الشرقي بـ203 احتجاجات. وقد شهدت ولاية قفصة أعلى عدد من التحركات الاحتجاجية بـ173 تليها ولاية القيروان بـ132 ثم ولاية مدنين بـ101 فالقصرين بـ69 وقابس وسيدي بوزيد بـ66 لكل منهما.
وللإشارة، بلغ عدد التحركات الاجتماعية خلال الثلاثي الأول من العام الجاري 3068 مقابل 3885 خلال ذات الفترة من عام 2021، وفق البيانات التي قدمها مؤخرا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
هذا التراجع على عكس ما يتوهّم البعض له دلالات سلبية وهو مؤشّر يُحيل بالضرورة الى ارتفاع مستوى الاحباط لدى شريحة واسعة من التونسيين الذين باتوا يميلون الى الحلول الفردية بعيدا عن التحرّك القانوني والسويّ في مربّع الدولة التي تكاد تكون مستقيلة عن القيام بواجباتها في السنوات الأخيرة. مؤشّر خطير تؤكّده وتدعمه منسقة المرصد الاجتماعي التونسي نجلاء عرفة التي قالت في هذا الخصوص إنّ انخفاض مستوى الاحتجاجات خلال شهر مارس مقارنة بشهر فيفري 2022 من نفس العام وكذلك انخفاض نفس الأرقام بالنسبة للثلاثية الأولى من العام الحالي مقارنة بـ2021 يحيل إلى ارتفاع مستوى الإحباط لدى التونسيين والبحث عن الحلول الفردية معتبرة ذلك أمرا خطيرا.
وأوضحت نجلاء عرفة أنه تم خلال شهر مارس 2022 تسجيل 7 حالات انتحار ومحاولة انتحار مشدّدة على أن الفئة العمرية 26 إلى 35 سنة هي الأكثر محاولة للانتحار منذ أشهر وأشارت إلى غياب أية حلول اقتصادية واجتماعية من الدولة، وغياب التشخيص الدقيق للمشاكل التي يعاني منها المجتمع.
كان هذا كلام منسّقة المرصد الاجتماعي التونسي وبالعودة إلى الأرقام التي أتينا عليها يبدو جليّا أنّه اضافة الى طبيعة الاحتجاجات التي تنتشر على كلّ الخريطة الجغرافية التونسية ببعديها الاجتماعي والاقتصاي فإن ارتفاع منسوب الإحباط لدى التونسيين وانسياقهم وراء فكرة الاستسلام والانتحار هروبا من جحيم الواقع مرتبط أساسا بعوامل أخرى تتغذّى من حالة اليأس الجماعي التي تعيشها البلاد والعباد منذ فترة ليست بالقصيرة.. التحرّكات قد تكون الشجرة التي تحجب الغابة وهي في باطنها تُنذر بتحوّلات اجتماعية قد تكون أخطر ممّا سبق. هذه التقلبات الساخنة على الساحة الاقتصادية والاجتماعية الملتهبة بطبعها والمتّصلة أساسا بالمخاض السياسي المرير الذي تشهده البلاد هي على ما يبدو إرهاصات حقيقية لما يشبه الانفجار الكبير. انفجار لا يضع ضمن اعتباراته ولا حساباته موازين القوى السياسية أو خارطة اللعبة الديمقراطية التي يلهو بها بعض المراهقين السياسيين وبعض الشيوخ التائهين في غياهب النسيان.
الوضع في تونس اليوم لم يعد صراحة يحتمل المزيد من التنويم أو التعتيم. فحالة الاحباط المنتشرة هنا وهناك وروائح اليأس والفقر والجوع التي غطت على روائح وبهارات هذا الشهر المعظّم تؤكّد أننا أمام منعرج حقيقي قد يجّب كل ما قبله. اليوم يستجمع بركان الغضب الشعبي المتصاعد قواه وحممه الراكدة في البطون الجائعة والعقول الخاوية ويستعد لإطلاق شرارة جديدة لنار قد لا يخمد لهيبها قريبا.
تونس مقبلة على أيّام صعبة وشاقة وهذا الشقاء ليس مرتبطا بمحدودية الموارد أو بانعدامها وليس بسبب قلّة صبر المواطن التونسي أو تدنّي وعيه وحسه الوطني ولكن المشكل أعمق من ذلك بكثير. المشكل يا سادة يا كرام أنّ رأس الدولة غارق في تلك السردية القائمة على نظرية المؤامرات ومنشغل بمعارك جانبية بعيدة كل البعد عن قضايا وشواغل شعبه.. وإذا غاب رأس الدولة وغاب عقلها وفكرها فمن الطبيعي جدّا أن ينخر جسدها الفساد والخراب وأن تتحكّم في شعبها وفي اقتصادها وفي حدودها مجموعة من المضاربين والمحتكرين ومن تجّار الحروب والأزمات الذين يقتاتون من دم الزوالي ويتقاسمون معه رغيف الموت والحياة.
أحيانا قد يكون الصمت علامة للعصيان… فمنذ سنوات كثيرا ما كانت دفّة القيادة بيد الأغلبية الصامتة التي لا تتحرّك الاّ في الشدائد وعند الطامة الكبرى تماما كما حصل في 2011 وفي 2014 عندما صعد النداء الى واجهة الحكم. واليوم حالة الصمت هذه والقبول والاستسلام لما يحصل قد تكون الهدوء الذي يسبق العاصفة وأيّة عاصفة… ستكون حتما أشبه بريح صرصر عاتية تدّك حصونهم وقلاعهم العالية ليذوق الجماعة عذاب ما كانوا يفعلون.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 أفريل 2022