الشارع المغاربي : ليست هذه المرّة الأولى التي أنشر فيها مقالاً أفْرده لرفضي المبدئي للانْخراط في المشروع الإخواني في تونس، إلاّ أنّ ما يميّز قولي هذا عمّا سبقه أنّني سعْيًا للتّواصل مع أكبر عدد ممكن من القرّاء سأعْمد هذه المرّة إلى استعمال مصطلحات واضحة وفي متناول عموم النّاس. كما أننّي سأعمل ما استطعتُ على طرح أفكار مسْتصاغة من الكافّة غير مستحقّة لتكوين خاصّ في الفلسفة أو الفقه أو تاريخ الأفكار… فلن أورد مفاهيم عسيرة على الفهم، كالعلمانيّة أو اللاّئيكيّة أو الأصوليّة أو السّلفيّة أو ثنائيّة العقل والنّقل… ولن أدّعي في العلم فلسفة بطرح مقاربات منهجيّة موغلة في التّشعّب كالنّقديّة التّاريخيّة وما شابهها من الدّياكرونيّة أو السّنكرونيّة، والهرمينوطيقا، والتّداوليّة، والتّفكيكيّة…
سأنطلق بكلّ بساطة من تجربتي الشّخصيّة بصفتي المواطنيّة التّونسيّة، الرّجل السّتّينيّ الذي وُلد بعيْد استقْلال البلاد من المُسْتَعْمر الفرنسي، فواكب حقبات ما بعْد الاستقلال التّاريخيّة الثّلاث: حكم “المجاهد الأكبر”، وحكم “حامي حمى الوطن والدّين”، وحكم المقتاتين من فتات “ثورة 2011”.
وخلاصة معاينتي لأوضاع البلاد طيلة هذه المراحل الثّلاث أنّ الشّعب التّونسيّ ذاق الويْلات من رجل قادهم وفْق نزواته الشّخصيّة التي ما فتئت تتأرْجح بالبلاد والعباد يمنة ويسرة من اشتراكيّة التّعاضد البنصالحي إلى الرّأسماليّة المتوحّشة النّويريّة إلى الدّيماغوجيّة المزاليّة، متنصّلاً في كلّ مرّة من تبعات أهوائه وملْقيًا بأعضاده في أتون الغضب الشّعبي. تلك الفترة امتدَّت لفترة طالت أكثر من الرّبع قرنًا، نصّب فيها “سيّد الأسْياد” نفْسه رئيسًا مدى الحياة بتعلّة نضاله المُقدَّس الذي طمس، بتواطئ مؤرّخي البلاط –وما أكثرهم-، معالم ورموز المناضلين الحقيقيّين ضدّ الاسْتعْمار، فمَن منّا يذْكر اسم فلاّق واحد أو شهيد واحد من أحداث 8-9 أفريل 1938 أو أحداث 18 جانفي 1952 أو حتّى من شهداء معركة الجلاء عن بنزرت في 15 أكتوبر 1963؟
أمّا خلفه، جنرال المخابرات الأمريكيّة، الذي نصّبه المجاهد الأكبر على رأس الجهاز التّنفيذي، بفعل اسْتفحال مرض البرانويا (جنون الارْتياب) في جهاز “بطل الحركة الوطنيّة” النّفسي، والذي بعد تخلّصه (بفعْل انْقلاب فجر السّابع من نوفمبر وبرعاية رؤسائه في المخابرات الأمريكيّة) من ذلك المسيء لتاريخ بورقيبة نفْسه –كما قالها له ابنه الحبيب الابن بالفرنسيّة: بورقيبة بصدد التهام تاريخه بنفْسه- الذي “طالت شيخوخته واسْتفْحل مرضه”، فأذاقنا صانع التّغْيير أبشع أنواع السمّ باسم أمن الدّولة. وتحوّلت البلاد إلى سجن كبير يحكمها “حامي حمى الوطن والدّين” بالحديد والنّار طيلة ما يناهز الرّبع قرن أيْضًا.
وفي 17 ديسمبر 2010 انْدَلَعت أحداث “البرويطة” -بإخْراج إعْلامي وسينمائيّ أمريكيّ- وتُوّجت بـ “شاو” شارع الحبيب بورقيبة في 11 جانفي 2011، تطْبيقًا لمخطّط “فريدوم هاوس” الجيوسياسي. وقد أفرجت مؤخّرًا وزيرة الولايات المتّحدة الأمريكيّة للشّؤون الخارجيّة آنذاك، في كتاب نشرتْه تحت عنوان “كلمة السرّ”، عن تعويل مهندسي الرّبيع العربي على الدّور المركزي الموكَل لحركة الإخوان المسلمين لإعادة رسم خريطة الشّرق الأوسط وفق مبدإ “تجزئة المُجزّأ وتفتيت المُفتَّت”. وما يهمّنا في المقام الأوّل من كلّ هذا ليس مدى نجاح القوّة الأمبرياليّة الأعظم في ضمان انتصار حليفها التّاريخي، الكيان الصّهيوني المغْتصب، ووضْع يدها على ثروات الشّرق الأوْسط الطّبيعيّة، بل ما خلّفه حكْم الإخوان المسلمين-إمارة إفريقيّة فيما بين نوفمبر 2011 ونوفمبر 2014 من معالم ترهيب للمواطنين الآمنين تحت المُسَمّى الدّيني، ولولا تراجع مهندسي “الرّبيع العرَبي” بفعْل خروج مصر الإخْوانيّة عن السّيْطرة، وتحوّلت القيروان إلى عاصمة إمارة إفريقيّة تحت حراسة جند الله الذين أطلقوا على أنفسهم اسْم “أنْصار الشّريعة”. روّعونا بخيمهم الدّعويّة ومضخّمات صوتهم المُنْذرة بعذاب القبْر في صورة التّخلّف عن الجهاد المُسلّح ضدّ الطّواغيت ورعبونا بلباسهم الأفغاني وأحْذيتهم العسْكريّة واستعْراض قوتّهم التّرهيبيّة في الطّريق العامّ لمجرّد جلوس بعْض المواطنين الآمين وقت الصّلاة في المقْهى.
وبعد هذا وذاك وقبله أيضًا، فإنّنا لسنا مستعدّين لأن يجثم مستبدّ ثالث على أنفسنا باسم الله، والسّبب في غاية البساطة: أنّ الحقّ –سبحانه- لم يذكر مرْشد الإخوان-جزء تونس في قرآنه الكريم بصفته مفتاحًا من مفاتيح الجنّة. كما أنّ كلّ تحرّكات “الخوانجيّة” في هذا البلد الأمين لا تنمّ إلاّ عبْر الإمعان في اسْتغْفال الشّعْب، فمعظم مناورتهم تتمّ تحْت جنح الظّلام. من ذلك مثلاً أنّ موقفهم من مسائل مصيريّة ذُكرت في تقْرير لجْنة المساواة والحرّيّات الفرديّة ظلّت طيّ الكتْمان، ولم تُنْشر على رؤوس الملإ. أوَ لم تتضمّن أدبيّاتهم أنّ الأمر شورى بين المسلمين؟ بل أنّ جلّ ممارساتهم السّياسيّة تكتنفها السرّيّة المطلَقة، كتحرّكاتهم المُسْتَرابة وغير الخفيّة على أحد بمناسبة حملتهم الانتخابيّة البلديّة الأخيرة التي تمرْكزت في الجوامع والمساجد والتي دارت عمومًا حول استبْلاه خلْق الله من خلط بدْءً بمجانيّة الويفي وانتهاءً بالخلاص الأعْظم والتّنعّم بفراديس جنّاته –تعالى علوّا كثيرا عمّا افتروا عنه- بمجرّد انتخاب أعوانهم.
إنّ ما يحزّ في نفسي حقًّا هو أن أرى مقاوليهم يروّعون المواطن البسيط بتفْصيلهم عذابات القبر في صورة عدم الانْصياع لأوامرهم… إلى أن انتهى الأمر بأئمّتهم إلى اشْتراط تزكية الآباء جهاد نكاح بناتهم إعلاءً لكلمة الله… أكفْر أكْثر من هذا الكفْر بسرّ آيات الله؟؟
أيّها المشعْوذبن، لن تفلتوا من حكم التّاريخ عليكم، مثلما حكم على باعة صكوك التّوبة للمؤمن المسيحيّ الآمن من رجال كنيسة متعفّنين… التّاريخ سيصدر حكمه النّهائي على قذاراتكم… ولن يرْحمَكم….