الشارع المغاربي: لا ريب في أن المسألة الصحية هي اليوم الشغل الشاغل لجميع التونسيين. ومما لا شك فيه أن الشأن الاقتصادي عامة يؤرق الجميع بحكم ارتباطه بالمعيش اليومي والحق في الشغل. غير انه لا معنى اليوم لأية مبادرة إصلاحية ما لم تتنزل صلب معركة استرداد الاستقلال الوطني، وهو ما يقتضي عناية عاجلة متأكدة بمدرسة الجمهورية. فقد شهدت تونس مع المرحوم الهادي نويرة استفاقة اقتصادية غالبت بها متاعب عشرية المرحوم احمد بن صالح رغم أنها كانت من اخصب مراحل البناء الوطني من جميع الوجوه. كما أن تونس سرعان ما تداركت مع السيد رشيد صفر حفظه الله أسباب الوهن الذي أصاب اقتصادها أواخر السبعينات حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي. فالخطأ في الشأن الاقتصادي تنتج عنه مصاعب لا تعسر مغالبتها على أهل الخبرة، أما الخطأ في الشأن التربوي، فتنتج عنه أجيال متعثرة قد تكون وبالا على الوطن. ولا ريب ان الكثير مما يعيشه التونسي من مصاعب او مصائب تعود مغارسها إلى عشرات السنين. فكيف لنا اليوم ان نعالج أوضاعنا الوطنية الراهنة لانقاذ استقلال الوطن دون تأجيل التعني لفك الحصار المضروب على مدرسة الجمهورية ؟ وكيف لمساعي ”الحوار الوطني ” المرتقب ألّا يفرط في ضرورة الجمع المتين بين هذين البعدين ؟
هل من التونسيين من هو اليوم في حاجة الى التذكير بما فعل ”الإسلام السياسي” بتونس منذ سنة 2011 حتى اليوم ولا سيّما أيام حكم الترويكا” البائس؟ سؤال موجه للتونسيين الذين لا ولاء لهم إلا لتونس وتونس وحدها، اما من خلاهم فالشعب التونسي أولى بمحاسبتهم، وهوعليم بأنهم أكثر ذنوبا من الدهر في حقه. فما مست أيدي ”الاسلامويين” شيئا الا افسدته… حتى اللغة. فالإسلام عندهم لقيط لا تعلق له بالإسلام المحمدي، والإيمان بالله موضع استثمار تجاري. لذلك كان ”الوفاق ” مجرد ”مخاتلة” على منهج ”التقية”، و”المسؤولية الجماعية” تعني تقنية تبرئة الذمة بتحميل الآخرين أوزار سوء صنيعهم. و”الوحدة الوطنية ”في عرفهم المدخل الى ”الخلافة السادسة”، و”الوسطية” تعني – في عقيدتهم- أنهم على حق في عالم على خطأ. لذلك كانت مقالة ”نهاية الإيديولوجيات’ من أهم مقالات منظري الإسلام السياسي ، وهي تعني عندهم –تدقيقا –أنه ما من رأي، وما من حقيقة، مطلقة أو نسبية، الا حقيقتهم ورأيهم. لذلك كانت حرية التفكير والتعبير والمعتقد مجرد مجاراة لتيارات جارفة هي بالضرورة الى زوال في حكم ”الخلافة السادسة”. وأنّى لهم أن يخطئوا وهم من طلعت شموس معارفهم وغاصت عليهم الهداية الربانية غوصا، فكانوا ”الموقعين عن رب العالمين”؟ وهل لهم عندها أن يروا في القوات المسلحة حماة الوطن إلا ”الطاغوت ” ؟ وهل من سلوك عندهم الاّ الغدر بالجميع ؟ وهل أدل على ذلك من أن محاربة الفقر الذي نشروه بيننا، إنما تكون عندهم بنهب المال العام وتوزيعه على ”المظلومين” الذين فجروا النّزُل في سوسة، وحرقوا الأبرياء في باب سويقة، وألزموا الايمة شرب ماء الفرق في المرسى ، ورفعوا السلاح في وجه الوطن. أما مقاومة الجهل فقد تكفلت بها ”كتاتيب” ”ومدارس قرآنية ” هي أوكار لتفريخ الإرهاب ونشر ثقافة الحقد. ويقضي الواجب في هذا المقام بالتوجه بجزيل الشكر إلى المواطنة الفاضلة روضة العبيدي رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص، على ما تقوم به من جهود محمودة لفضح جرائم الإسلام السياسي بجميع شرائحه في حق اطفال تونس مثل ما تم في وكر الرقاب. وهل من برّ عند الاسلام السياسي أفضل من التغرير بشبابنا لإرساله الى مواطن الحروب لتقتيل اخواننا في سوريا وليبيا مثلا؟ وهل خلق أكرم عنده من تسخير بعض المعتوهات من بناتنا لجهاد النكاح؟
ومن ألطاف الله انه ما من أحد يمكنه اليوم أن يزايد على ”كبار” قادة الإسلام السياسي في التشهير بخيانة الإسلام السياسي. فقد قال فيهم قائل من أنفسهم ما لم يقل مالك في الخمر ولم يبق في كتائبه إلا المتورط والمنتفع والمتردد. ولعل ما يفسر إبطاء الحسم في شأنه بتونس وحدها، وجود متواطئين معه بتعلات مختلفة تلتقي جميعها في بِؤرة تتراوح مكوناتها بين انتهازية الرمق الأخير، وسذاجة المراهقة الدائمة، وكلاهما – مع الاسف- مرض صعب الانقلاع. ولما كانت جميع الايديولوجيات الدينية تقوم أصلا على مراوغة تريك الباطل في صورة الحق، فان الإسلام السياسي تعلم- في تونس وحدها بلد اليتم السياسي –كيف يستفيد من ” حلفائه ” الذين يسميهم سرّا ”فجرة ” تقديرا منه -رمي به الرسول العربي كذبا –” أنّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر”، حتى اذا قضى من ”الفاجر” وطرا، قضى عليه مثل ما جرى لجميع من تحالف معه منذ 2011.
ويقيني ان الشعب التونسي لن يلدغ مرة ثالثة من جحر الإسلام السياسي، ولن يرجعه -مع ذلك -إلى زمن التباكي والتظلم الذي خدعه به، بل سيطرده بانتخابات مشفّة بعد أن جاءنا بانتخابات معتّمة، ما من شك اليوم في زيفها كما تبين ذلك جليا من قرارات محكمة المحاسبات مثلا. ويقيني انه لن يكون للإسلام السياسي حين تسير الأمور على منهج صحيح بفضل سياسة دولة قوية أمينة،مقتدرة على حفظ قيم الديمقراطية، سياسيا وامنيا واقتصاديا.. .إلاّ نصيب فلول النازية في ألمانيا أو بقايا الفاشية في ايطاليا، ذلك أن ثلاثتهم على مداد واحد، خبث المنبت ولؤم الغرس ومر ّالثمر. وهل على ذلك دليل أظهر من ألأوضاع المحزنة التي آل إليها وطننا بعد حكم الإسلام السياسي و”حلفائه ” مدة عشر سنوات ؟
والحق أن أوضاعنا الوطنية اليوم اقرب ما تكون إلى الوضع الاستعماري، باعتباره وضعا تشل فيه إرادة الشعوب، فتقعد بها عن القيام للواجب، فإذا هي –موضوعيا – في حكم الرقيق راهنا او مستقبلا. لذلك كانت جميع مجالات الحياة الوطنية في حاجة متأكدة وعاجلة إلى إصلاحات جذرية شاملة، ولا سيما المجال الاقتصادي برمته. غير أن مدرسة الجمهورية هي الأولى –مرحليا -بالعناية العاجلة، اذ من تحريرها تبدأ فعلا استعادة الاستقلال المهدد اليوم. وما كان ذلك التأكد بحكم وظيفة مدرسة الجمهورية في تحقيق طموحات الشعب فحسب، بل كذلك بحكم الرسالة المقدسة التي أناطتها بعهدتها دولة الاستقلال منذ 4 نوفمبر 1958: إنها أولا رسالة إبداع الإنسان وفقا لما به إنسانيته بإطلاق او قل في كونية مفهومها، عقل مستنير، ووجدان مرهف الإحساس بنبض الوجود ولهب الحياة، وضمير أخلاقي سليم الطوية. وهي ثانيا رسالة تربية ”الإنسان -المواطن”الذي لا ينفصل عنده الوعي بحقوق المواطنة عن القيام لواجباتها، حتى لا ولاء له إلا للوطن وللوطن وحده، أرضا وشعبا وتاريخا ورموزا وانجازات وطموحات. وهي ثالثا رسالة تكوين ”الإنسان –المواطن-القوة المنتجة” المقتدرة على ايجاد الخيرات، حتى ينشأ التونسي على قيم الاستقلال باعتباره آكد شروط حريته فردا وجماعة، فيأكل مما يزرع، ويلبس مما يصنع ويذود عن أرضه بسلاحه من مصنعه.وهل للاستلام السياسي مقام بيننا حين يصير الفعل التربوي في مدرسة الجمهورية الى حقائقه؟ ما من شيء أقدر من الفعل التربوي السليم الأسس والممارسة، على تحصين شبابنا ضد ثقافة الحقد، وأجدى في تجفيف منابع الإرهاب.
ومن أجل تلك الرسالة المقدسة، لحق مدرسة الجمهورية من الضرر-على يدي الإسلام السياسي، خاصة خلال العشرية المنصرمة ما لم يلحقها، منذ تأسيسها على يدي المجاهد الأكبر رحمه الله. غير أن الموضوعية تقتضي الاعتراف بان فساد العشرية المنصرمة إنما كان تتمة لما شهدت مدرسة الجمهورية من هدم نسقي على أيدي شق من ”الدساترة ” في مقدمتهم المرحوم محمد مزالي، في تحالف مع الاسلام السياسي في مجرى التساند المتبادل في معارك خلافة بورقيبة، بما كانت تقتضي من اعتداءات وفساد عريض في الارض ، امتدّ خاصة الى الاتحاد العام التونسي للشغل الذكاء الوطني أي الى تونس العاملة بالفكر والساعد.غير ان حزم الوطنيين أفشل خطط المعتدين ولو الى حين.
لذلك عاود الاسلام السياسي الاعتداء على مدرسة الجمهورية منذ 2011 حتى اليوم :مربون مهدورو الكرامة ، تلاميذ خلّي بينهم وبين الوان من الفساد ليست المخدرات أدناها، وانتدابات عشوائية دون ادني إعداد صناعي ملائم، وإطار تفقد و إرشاد بيداغوجي شبه معطل، ومؤسسات للتكوين المستمر تنفخ فيها الرياح.
والاخطر من ذلك كله أن الإسلام السياسي استعان في اعتدائه ذاك بأسوء ما في البلاد العربية الإسلامية، فقهاء الفتنة ومفرخي الارهابيين ومدبري تدمير الاوطان الذي نصبوا انفسهم ”علماء المسلمين”. فكأنما كتب على بلاد الاسلام اليوم الا يؤمها الا ”لكع ابن لكع”، سليل قوم لا يتناهون عن منكر، ولا يجتمعون على مكرمة، على ما تشهد به مواقفهم من تدمير سوريا وليبيا، ومحاولات التطاول البائسة على تونس بزرع ”الجمعيات الخيرية ” و”المدارس القرانية ” و”المؤسسات الفقهية” وكلها تدور على معاني التعبئة الايديولوجية الإرهابية.
ولن ادعي ان النظام التربوي التونسي على ما يرام، بل انه كثير النقائص. غير انه –دون شك- أفضل ما في البلاد العربية والاسلامية على نقائصه تلك. وقد حاضرت بجامعة الزيتونة واطرت اطروحات الدكتورا والماجستير مدة تقارب عشر سنوات، كما قضيت سنين بالمجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم وترأسته، كما تعاملت مع الالكسو واليونسسكو طويلا، مما أتاح لي خاصة فرص التعرف على جل وزراء التربية والتعليم العالي والثقافة وخبرائهم في حوالي 52 بلدا عربيا واسلاميا، كما هيأ لي إمكانية التعرف عن قرب على الكثير من مؤسساتها وبرامجها ومناهجها من رياض الاطفال حتى مدارج الجامعة، بحيث استطيع القول ان تونس المتفتحة دائما على الدنيا كلها ، ليست اليوم في أدنى حاجة الى عون منظمة ”علماء المسلمين ” الجاثية على ركبتيها امام فلول الاستعمار العثماني،، والسكرى حتى الثمالة بالبترودولار والمستعينة بقنوات فضائية ظلامية الفكرة ظالمة السلوك.
لذلك كان موقف السيدة عبير موسي رئيسة حزب الحزب الدستوري الحر من هجوم الإسلام السياسي البائس على مدرسة الجمهورية وتطاوله على الذكاء التونسي موقفا وطنيا بلا احتراز، صريحا بلا غموض، صحيحا بلا مساومة. وفي تقديري المتواضع ان تأييد ذلكم الموقف ، والمساهمة في انجاحه بجميع الطرق القانونية الممكنة، لا يعيب أحدا ولا يخسر أحدا. فالانتصار للحق أزكي أشكال الاستقلال، وأجدر المكاسب النضالية. وحين يتعلق الأمر بالدفاع عن الوطن، فلا يمين ولا يسار ولا وسط، وإنما هي الوطنية باطلاق في أنقى تجلياتها، وأنبل مقاصدها.
ويقيني ان التزام الخط الوطني الخالص على نحو ما جرت عليه نضالات الاتحاد العام التونسي للشغل منذ حشاد حتى اليوم، هو الكفيل وحده بنجاح ”الحوار الوطني” المرتقب حتى لا يتحول الى فرصة لإنقاذ ”الإسلام السياسي ”من جديد . ولا بد للاتحاد وحلفائه، من أن يحسم الأمر في شأن مشاركة من كان منذ عشر سنوات سببا رئيسيا مباشرا في ويلات شعبنا اليوم. ولا بد للتونسيين عامة والمنظمات الوطنية خاصة أن تجيب عن هذا السؤال :هل من حق أي كان أن يشرك في أية مبادرة من اجل استعادة استقلال الوطن، من وقف ذات يوم من شهر أوت 2013 وقفة هبل في بطحاء القصبة ليردد في عيّ” باقل ”:ان هذا الحشد العظيم( يذكره) بحشد فتح مكة على يدي رسول الله “؟ فهل اهانة للتونسيين أبعد ضلالة من هذه ؟ وهل عقوق أشد من هذا العقوق ؟ فكيف لذي حس وطني سليم، أن يحاور أمثال هؤلاء وأن يتوقع منهم خيرا ؟ وهل يمكن للعقل السياسي مهما بلغ من البساطة والكرم أن يأتمن هذا الرهط على سلامة الوطن والبلوغ بالتحول الديمقراطي الى مطلبه الشامل الكامل في ”الشغل والحرية والكرامة الوطنية ”؟ ولما كانت هذه المخاوف حقيقية، ألا نكون مطالبين بالموازنة المتأنية بين منهج ”الحوار الوطني” بما يحف به من مخاطر، ومنهج ”التحالف الاجتماعي ” الذي يحمّل التونسيين الوطنيين وحدهم أمر مصير وطنهم ومستقبل حريتهم ؟
نُشر باسبوهية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 5 جانفي 2021