الشارع المغاربي – الباحثة زينب التوجاني لـ«الشارع المغاربي»: مشاريع الأخونة الخفية تدمّر كل مكاسب التحديث

الباحثة زينب التوجاني لـ«الشارع المغاربي»: مشاريع الأخونة الخفية تدمّر كل مكاسب التحديث

قسم الأخبار

13 فبراير، 2021

الشارع المغاربي:حاورتها – عواطف البلدي: زينب التوجاني أستاذة في الحضارة وباحثة في الإسلاميات وتحليل الخطاب الديني وحاصلة على التبريز في اللغة والآداب العربية، اهتمت منذ أول بحوثها الجامعية بالخطاب الدّيني وأثره في المجتمع والفرد ولها في ذلك مقالات علمية وبحوث منها كتاب «الثواب والعقاب في كتب تفسير القرآن» الصادر سنة 2019، وبحوث في المتخيّل الديني والفقهي والسياسي والانتروبولوجيا والفكر الديني قديمه وحديثه.

«الشارع المغاربي» التقت الباحثة للحديث عن مساهماتها في نقد الإسلام السياسي وإبراز مخاطره وعن واقع الحركة التنويرية اليوم.

هل غادرنا السقيفة؟؟

في تونس بدأنا نغادرها لكن في البلاد العربية والإسلامية عموما ما زال مسار التحرر من تأثيرها طويلا جدا ويكفي أن نلتفت للعراق لنرى حجم الدمار وحجم تأثير أحداث الفتنة حول السلطة في ما يجري اليوم في العراقيّين وفي غيرهم من البلاد المسلمة.

تُشَرِّحِينَ في كتاب لك منظومة الثواب والعقاب بوصفها «تشكيلا فقهيا» بشريا لو تَشْرَحِينَ باختزال (إن أمكن) هذه المقاربة الطريفة؟

يتعلق الأمر بمعنى الوجود عند الإنسان المسلم، فالمسلم يعتقد أن الله خلقه ليمتحنه ثم يجازيه بالجنة أو بالنار، وهو يعتقد أن هذا الأمر إلاهي بما أنه يستند إلى «القرآن». ولكنّ حين نطلع على نظريات علمية حديثة تتعلق بنشأة الكون والتاريخ والزمان سيظهر لنا أن قصة آدم والجنّة والحية والنار ليست سوى تمثيل رمزي لشيء ما، هذا الشيء هو فكرة البداية وأما الجنة والنار اللذين ينتظراننا بعد الموت فإنهما أيضا تمثيل لشيء ثان ليس سوى النهاية وأما حياتنا بين هذه البداية وتلك النهاية فإنها أيضا تعاقب بين الخير والشر الذي نجد صداه في كتب الدين والحكايات الشعبية وتصورات الأوّلين. فنحن إذن في الوجود برمته موجودون لغاية جزائية في تصور المسلمين في حين أن العلم الحديث يثبت أولا أن كل الشعوب القديمة اعتقدت في أشياء كهذه وثانيا أن الكون أقدم مما نعتقد وأنه مجهول تماما وأن نشأته ليست معلومة بعد وأن بعض مكونات النصّ القرآني لا يمكن أن تطابق الواقع بأي شكل من الأشكال. فهذه القصص إذن لها بعد رمزي وتربوي وتكويني بمعنى أنها ضرورية لنعتقد في شيء ما لأنه إذا لم نعتقد لا يمكن أن نعيش فالإنسان كائن يعتقد في شيء ما. لكن أليس من حقنا أن نخضع ذلك الاعتقاد إلى النقد والتشكيك؟ طبعا يجب أن نفعل. وإلى متى نبقى متمسّكين برواية اثبت العلم أنها لا تطابق الواقع؟ والى متى نعتقد أن قصّة الجنة والنار والطوفان والسفينة حدثت حقا كما تصفها كتب التراث؟ أليس من السخرية أن نعتقد أن القصص المتخيل مطابق للتاريخ؟ ألم يحن بعد أن ندرك أن كل تلك القصص ليست تاريخية بمعنى أن لا شيء يثبت أنها حدثت بل كل شيء يثبت استحالة حدوثها؟ إذن فكل نظام الجزاء الإسلامي بدءا من قصة الهبوط من الجنة ومرورا بالحدود والأحكام والتعازير ووصولا إلى الحساب والجنة والنار ليست سوى بنية متخيلة للمجتمع الذي أنتجها غايتها الوحيدة تنظيم المجتمع جزائيا وفقهيا وانطولوجيا وسياسيا، وعندما نفهم هذه الحقيقة البسيطة ونقارنها بالعلوم الحديثة سنتحرر من الظلامية والدغمائية ولا يعني ذلك أننا سنخسر الإيمان. لم يعد مقبولا أن نعلّم أبناءنا في هذا القرن أن الأرض دُحيت وأن السماوات سبع وأن جنة ما في انتظارهم بمكان ما في الوقت الذي يكشف العلماء يوميا أكوانا ونجوما وإمكانيات حياة افتراضية لا قدرة على وصفها أصلا.

كيف السبيل لحل معضلة التداخل بين الديني الربّاني والإيديولوجي البشري في تراثنا؟

لا سبيل إلا العلمنة وفصل الدين عن الفضاء العام والسياسة، يجب أن يبقى الدين أمرا خاصا بالفرد وأن تتكفل الدولة بحماية ذلك الحق دون أن تتدخل فيه، لم يعد مقبولا أن تتدخل الدولة اليوم في شعائر المتدينين ومعتقداتهم لأن في ذلك إهانة كبرى حتى للدين نفسه، وأوروبا التي فصلت بين الدين والسياسة لم تخسر شعوبها الديني بل نجد تشبثا كبيرا من فئات عديدة بالإيمان سبيلا لإيجاد معنى. لذلك لا معنى لشعار الإسلام في خطر الذي يرفعه الإسلاميون عندنا فالإسلام ليس في خطر لان له ربا يحميه ولأن للدين عموما نظاما يبقيه منغرسا في النفوس. إن المسلمين هم الذين في خطر وحضارتهم في خطر ووجودهم في خطر، هل يعقل ان يموتوا لأجل وهْم يعتقدون أنهم يدافعون عنه إذا ماتوا؟ أيعقل أن يدمروا مدنهم باسم وهْم ان الإسلام في خطر؟ إلى متى يعيش المسلمون خارج التاريخ؟ ألا يفتحون عيونهم ليروا انهم يتصرفون كالمجانين؟ إن الحل الوحيد أمامنا هو العلم وحقوق الإنسان. فالعلم لحماية عقولنا وحقوق الإنسان لحماية الفرد وضميره وحرمته. وإذا كان التخلي عن أوهامنا الكبيرة موجعا جدا فإني أقول دائما «ما يلزّك على المرّ إلا الأمرّ منّو»، فإذا لم نقم باستئصال الورم نوشك أن نفقد فرصتنا الأخيرة في النجاة والورم هو اعتقادنا أن أساطيرنا الدينيّة تاريخ حقيقي.

حسمتِ في نصّ منشور وكتبتِ أن حركة النهضة (بسبب بنيتها الاخوانية) عاجزة بنيويا عن التحول الى حزب مدني مؤمن بالدولة المدنية المواطنية؟

تحتاج هذه الفكرة إلى توضيح علمي، التحليل الذي قمت به ذو طابع انطولوجي انتروبولوجي يتعلق بالمسلمات الخفية والأفكار الدنيا المؤسسة لايديولوجيا الفكر الاخواني، وهذه البنية تتعلق بتصورات الوجود والهوية والمعنى أي بتلك التصورات الأساسية المكونة للبديهيات والمسلمات الكبرى مثل فكرة خلق الإنسان وفكرة موته وبعثه والحساب والجنة والنار والخ. وهنا تبنى النهضة ايديولوجيتها الفكرية بوصفها حركة إخوانية على ما يسمى بالإسلام السياسي وهو مدونة من التأويلات التاريخية لنصوص مقدسة إما أنها قرآنية أو تعود نسبتها إلى النبي، ويمكن أن تكون حجية. هذه الأفكار نابعة أيضا من الاجتهادات الفقهية كاجتهادات ابن تيمية وابن القيّم وغيرهما. وكل هؤلاء يمثلون بالنسبة للمنظرين الإخوان مرجعا مسلما به وثابتا لا شك في قداسته. وهذه الأفكار الدنيا نجدها أيضا عند الإنسان المسلم العادي فيحدث اللبس، وتتمثل تلك الأفكار في الاعتقاد بان الإنسان مخلوق، ولأنّه مخلوق فيعني ذلك أنه مفتقر بالضرورة إلى الخالق وينتج عن ذلك الافتقار الدائم تصورات ثابتة من أهمها فكرة الدينونة والشكر والحمد الدائمين وهما يمنعان وعي الإنسان بحريته الذاتية واستقلالية ارادته في الوقت الذي يربيانه على معرفة حدوده في الكون، والخلاصة أنّ الفكر الاخواني يسلم تسليما مطلقا بكل هذه المعتقدات التي تجاوزها العلم الحديث ويمنع الحراك الصّحوي العقل المسلم من أن يقطع مع مسلماته هذه لمحاولة إيجاد حلول لمعتقدات لم تعد صالحة في الزمن الراهن، فانظر إلى الكنيسة تخلت عن الاعتقاد في قصة الهبوط مثلا، وأقرت أنها قصة متخيلة لها وظيفة تربوية ولكن مازلنا نعلم أبناءنا تلك القصة لنفسر بها الوجود وما إن يعتقدوا بها حتى يتوقف عقلهم عن التفكير إذ نقدم لهم معنى جاهزا لوجودهم وهو معنى لا حجة عليه قط سوى تلك النصوص التي ورثناها وورثنا الاعتقاد فيها دون ان يكون لنا مجال لنتأكد من صحتها. بل هي خارقة ولا يقبلها العقل السليم أصلا. إنها خرافات الأولين التي يجب أن نتعلم منها الحكمة لا غير ولا يجب الإيمان بها وتصديقها. فالإسلام عموما بحاجة إلى تجديد عميق يصل المسلم بعصره ولكن الصحوة الإسلامية التي ينجزها الإسلاميون تمنع تلك اليقظة وتثبت السبات وتعرقل تحديث البنى العميقة وتجعل المسلم دائما متشبثا بمعتقدات لاتاريخية لم يحينها بعد. وكل هذا يجعلنا نقر بأن الإسلاميين يعادون التحديث. وفي نفس الوقت أثبتت الأحداث أنهم لا يتمكنون من القيام بثورة جذرية في ايديولوجيتهم فانظر موقفهم من المواريث وكذلك من الحريات الفردية ونظرتهم إلى غير المسلم وذلك أنهم ملتزمون بمنزلة وجودية تحد من حريتهم على كسر قيود النظر إلى ذواتهم والعالم. فهم يعيشون زمنا لاتاريخيا.

ولكنها «تعبيرة» سياسية عن قسم محافظ من «التوانسة»؟

للإسلام المحافظ التونسي تعبيرات متنوعة وعديدة، منها في قسم كبير إسلام المتصوفة والإسلام الشعبي والإسلام الطرقي، يوجد في تونس إسلامات عديدة لا تتطابق بالضرورة مع هذه التعبيرة الوافدة من وراء البحار، فهذا الإسلام الصحوي وهّابي المحتوى متأثر بالثورة الخمينية في بدايته ثم تدريجيا صار ينحو منحى إخفاء تلك الصِّلات دون جدوى خاصة في السنوات الأخيرة لان المشروع الإسلامي مهما تعددت أسماؤه في جوهره واحد. وهذا المشروع يتمثل في تحقيق فكرة متخيّلة تحملها الكتب التراثية وتم استنباطها في أيام الفشل الذريع للمسلمين لتحقيق ذواتهم الجماعية في عالم تغير فجأة ولم يعودوا فيه خير أمة أخرجت للناس. لذلك فإن الإسلام السياسي القادم إلى تونس في السبعينات ليس هو الإسلام التونسي الطبيعي الذي نتج عن تفاعلات حضارية بين فتوحات الإسلام وثقافة افريقية القديمة والذي مرّ بمراحل متعددة منها انه اتجه اتجاها شيعيا وسنيا طرقيا ومتعددا ومتنوعا وانغرس في عادات الناس فامسى هذا الإسلام مزيجا أحيانا بين ديانات وثنية قديمة وتوحيدية ومذاهب وفرق. فلا اعتقد بالمرة ان التونسيين مجبورون على التماهي مع إسلام حركة النهضة. لقد جاءت الصحوة الإسلامية لتفسد عادات وتقاليد كثيرة في البلاد التونسية ولتؤثم الناس، ولكن عادات التونسيين لا يمكنها أن تتراجع من ذلك الموالد والزيارات إلى الأولياء الصالحين ومن ذلك الرقص ومظاهر الفرح والاختلاط ومن ذلك أيضا البكاء في المقابر وعلى الموتى، كما تغلغلت تلك الصحوة محاولةً تحريم الكثير من البهجة وتقييد سلوك التونسيات خاصة في ما يتعلّق بالحياة الخاصة والعامة. ولكن التونسين حافظوا على بهجتهم وعاداتهم حتى وان نجح الصحويون في نشر الحجاب بشكل كبير وفي تأثيم المعاصي وتقليص مظاهر العويل والندب في المآتم.

كيف سلبت المؤسّسة الفقهية العقل العربي؟… هل من نماذج..؟

نعني بالمؤسسة الفقهية المدونة الجامدة من الأحكام والحدود والتي تعمل اليوم من خلال الفتاوى لتواكب العصر، لنذكر مثلا على ذلك ما حدث في مصر مؤخرا حيث تمّ الإفتاء بجواز عقد زواج مؤقت يدعى زواج التجربة بل وتم تطبيق ذلك أيضا، في حين تعدّدت من قبل زيجات عديدة لها أسماء متنوعة: المتعة، المسيار، العرفي الخ.. هذه كلّها زيجات لها غطاء شرعي وديني وسيجد لها المفتون دائما بابا ومدخلا ليحللوا تلك الأشكال من العلاقات الجنسية في قالب حلال. طبعا لا ننسى أيضا جهاد النكاح فهو يندرج ضمن نفس الباب. والمتأمل يجد في كل هذه الأشكال نوعا من سلعنة النساء وبضاعة تباع وتشترى لا مودة ولا سكينة ولا رحمة والتي هي في الأصل قيم الزواج الإسلامي. كان يجدر بالعرب المسلمين أن يفتحوا باب النّقاش الصريح والعميق في قضايا الجسد والمتعة والحب والزواج لا أن يجدوا للجنس أشكالا «حلالا» في حين أن تلك القوانين العربية تتدخل في أجساد الناس وتحرص على التحكم في الحريات الفردية، أليس هذا بتناقض كبير؟ وهل هذه الزيجات حقا «إلهية» ولماذا هذه الأشكال من الدعارة محلّلة في حين يحرّم تحريما باتا إقامة علاقة رضائية بين راشدين يكونان عاقلين ومسؤولين قانونيا خارج الأطر «الحلال»؟ أي لماذا يجب أن نجد اسما فقهيا للحرية الجنسية في الوقت الذي قد يمثل ذلك شكلا من أشكال الاعتداء على كرامة الذوات البشرية وحقوق الضحايا من الأطفال والنساء؟ مثال ثان يتعلق بفتاوى الجهاد التي لم تسلب فقط العقل العربي بل سلبت أوطانا حريتها وخرّبتها وغير ذلك من أمثلة: العقوبات المنافية لحقوق الإنسان كالجلد والرجم وقطع اليد والتي لم تعد صالحة للعصر وللعقل الحديث، وقوانين القوامة والولاية والأحوال الشخصية التي تؤبّد وضع النساء العربيّات وتجعلهن خارج التاريخ، إن هذه المؤسسة الفقهية سلبت العقل العربي بهذا المعنى أي جعلته معطّلا غير قادر على دخول العصر وغير مواكب للتحديث القانوني والاجتماعي والسّياسي وأخيرا قضية الحكم والخلافة وهي مدار الصراع المرير اليوم بين من يراها شكلا إسلاميا شرعيا ومن يريد ان يحدّث البنى السياسية لتكون الديمقراطية حقيقة وممارسة لا شكلا خاويا من كل معنى. والأمثلة كثيرة لا حد لها ففي كل لحظة مئات الفتاوى تثبت ان العقول العربية مرتهنة لمؤسسة بالية لم تعد قادرة بحق على مواكبة العصر وتعقيداته الكثيرة وانه لا مفر من التحرر منها لإتاحة الفرصة للفكر والمسؤولية والإرادة البشرية للتحقق والحياة.

يعاب على الحركة التنويرية اليوم أنّها نخبوية جدّا في مقابل سواد محافظ؟

لست متأكدة إن كانت في تونس حركة تنويرية، فالتنوير يتطلب فاعلين حقيقيين يؤمنون بما يقولون ولا يرددون فقط الشعارات واني أرى المحافظة تسود الثقافة التونسية باستثناءات نادرة، أين هو التنوير؟ إن التنوير يتطلب شجاعة أدبية وحياتية وجسارة وإقداما وليس التنوير فقط ان نردد المقولات الفلسفية أو أن نحمل الشعارات؟ أما عن ثنائية النخبة/ سواد الشعب فاني لا أرى الامر على هذا النحو، فمن هي النخبة؟ ما تعريفها؟ ما ميزاتها؟ لا اعرف بالضبط. هل نعني بالنخبة الحاصلين على الشهائد العليا؟ نعرف ان كل حاصل على شهادة عليا ليس بالضرورة صاحب فكر أصيل. وإذا كنا نعني بالنخبة الفاعلين في المشهد الحالي فقد تتداخل في تكوينهم عناصر عديدة من بينها المعرفي والإيديولوجي والانتماء الطبقي والنسب العائلي. .

بالنسبة لي أعتقد أن الدولة التونسية التي تركها لنا بناة الجمهورية هي التي تقوم الآن بدورها في الحفاظ على المكتسبات، بمعنى كل من نراهم في المشهد فاعلين هم أبناء المدارس العمومية والتعليم العمومي، وهم أبناء المكتبات العمومية ودور الثقافة العمومية وهم أبناء الجامعات العمومية، لقد تلقوا في رحاب تلك المؤسسات فكرهم وساهمت أيديولوجية الدولة في تكوينهم على ما هم عليه. وينضاف إلى ذلك عنصر مهم هو اطلاع هذه الفئة «النخبوية» على الآداب والتجارب العالمية وربما اضطلاعها بمهام وتجارب جعلتها قادرة على إحداث حركية داخل المجتمع التونسي لكنها من رحم المؤسسات الرسمية جاؤوا اذن فبالنسبة اليّ الدولة هي التي لا تزال تقدم خدمة للمجتمع التونسي المضطرب بين حداثة صعبة على التربة الإسلامية عموما وبين انشداد للنموذج الذي جاء به الإسلاميون من سفراتهم الى السودان وأفغانستان ومصر والعراق في ستينات القرن الماضي.

اما السواد الأعظم فهم أيضا أبناء التعليم العمومي والذين لم يصلوا فيه إلى نهايته ولكنهم ظنوا أنهم يعرفون وجعلهم ذلك الاعتقاد يخطئون التقدير ويتعصبون في الغالب لأطروحاتهم وإذا بنا أمام شعب في غالبيته حصل على تعليم مجاني وسعت الدولة لتكوينه لكنه لا هو بقي على عفويته ولا هو تمكن من مرتبة مرضية من العلم فإذا به كما نرى يتأرجح بين المحافظة والتقليد والمعاصرة والتحديث. ولعل تعميم التعليم كان له هذا الأثر ولكنه في نفس الوقت أمر طبيعي لدولة تلقت الكثير من العراقيل من فساد ومن نرجسيات ومن تعطيل دواليبها وها هي اليوم في حالة من الوهن لا تزال تقاوم للحفاظ على الحد الأدنى لا من التنوير بل من الإصلاح العميق والدخول في العصر. نحن في وضع المقاومة للحفاظ على مقومات الدولة المدنية حيث حرمتنا هذه الوضعية من المضي قدما لنطالب بثورة جذرية تنويرية أعمق. فها إنّا للأسف جميعا محافظون.

تقولين إن مقاطعة «الإخوان» هي الحل.. ؟

بالنسبة لي من حق جميع التونسيين أن يتنظموا سياسيا كما يشاؤون في إطار المدنية، فمشكلتي مع النهضة أنها ذات مرجعية دينية توظفها لخدمة مصالحها السياسية وهذه المرجعية توظفها في مضرة المواطنة والحقوق المكتسبة للحريات وللمساواة. هذه هي المشكلة الجوهرية، لكنهم يدعون أنهم تتونسوا وقطعوا صلاتهم مع التنظيم العالمي وهو الأمر الذي يمكن أن نتأكد من عدم صحته لاعتمادهم الدائم على الازدواجية في الخطاب والبراغماتية والمرحلية. إذن مشكلتي مع حزب النهضة بالذات هي التالية: إنهم قد يتنازلون عن ايديولوجيتهم اليوم مرحليا في إطار استراتيجي ولكنها الغاية التي يسعون إليها والتي سيفعلون أي شيء لأجلها. لقد فسرت لم لا يستطيعون التخلص من تلك الغاية لانها تلك عقيدتهم المكونة لفكرهم ولقيمهم. وقد يتطورون في الظاهر تحت تأثير التطور التكنولوجي او ظروف الحياة المعاصرة او الضغوط ولكنهم سيسعون دائما إلى انجاز مشاريعهم اللاتاريخية والمتخلفة وهي متخلفة لانها قائمة على مسلمات تجاوزها العصر ولأنها تساهم في تعميق التمييز والقيم اللاانسانية والتي لا تعبر عن قيم العصر الحديث. لذلك أعارضها معارضة واضحة وصريحة واخصص جزءا من وقتي ومن اهتمامي لهذا الأمر . واعتبر فضح هذه الازدواجية وعقم فكرهم مهمة واجبة عليّ وأسعى بذلك إلى تنبيه المجتمع للمخاطر. طبعا أود أن يقاطع الناس هذه الحركة والّا يثقوا في فكرها وايديولوجيتها ويدركوا ارتباطاتها الاستراتيجية ومخاطرها أتمنى ذلك لا من منطلق سياسي بل من منطلق حضاري لأني أتمنى أن يسعى التونسيون لوضع سياسيين لهم رؤية أكثر حداثة ومدنية وقادرة على إحداث فرق حقيقي في المجتمع. واني ادعو القراء الى مقاومة الأسلمة الناعمة وعدم التساهل مع تغلغل الصحوة في نسيج الحياة المدنية. وعدم الاستهانة بمشاريع الاخونة الخفية التي تدمر كل مكاسب التحديث الاجتماعي والسياسي والثقافي.

ليس أمامهم سوى طريق واحد هو أن يقطعوا مع تنظيم الإخوان تماما وأن يتتونسوا ويعملوا في نطاق الأحزاب المدنية الديمقراطية، لان بقاءهم مرتبط بحركة الإخوان وبمشاريعهم العالمية المدمرة سيدمرهم ويدمر تونس من خلالهم، ويبدو أن شقا داخل حزب النهضة بدأ يعي هذا الأمر ويدرك أنّه لا مستقبل له في تونس إلا بالقطع مع مرجعياته المشبوهة، وننتظر منه الاعتذار عن ماضيه الذي سبب لنا أوجاعا وتأخرا حضاريا وأن يفتح صفحة جديدة حقيقية فإما هذا أو أن هذا الحزب يسير نحو طريق مجهول ومسدود. ومن دون أن يشرعوا في البكاء لانهم سيدمرون أنفسهم بأنفسهم وبالجهل الذي تقوم عليه ايديولوجيتهم.

تتعرض الحركة النسوية إلى التشويه والحصار .. هل هو سوء تفاهم بين أطروحاتها التحررية وواقع مجتمعي محافظ؟ ام هي أسباب أخرى؟

الإجابة عن هذا السؤال المهم مركبة، فأوّلا أودّ التأكيد على أن الحركة النسوية في تونس حديثة العهد نسبيا فهي تعود إلى التسعينات خاصّة مع تنظم مجموعات من النساء المثقفات خريجات الجامعة وإعلانهن عن وعيهن بذواتهن ومطالبهن، ومطلب كالمساواة في الميراث عمره عشرون سنة ومطلب كقانون العنف ضد النساء عمره أقل بقليل، ولقد حققت هؤلاء النسوة المثقفات الحقوقيات والمحاميات وأستاذات الجامعة في عديد الاختصاصات ومربيات ونساء من مهن متعددة وحرف متنوعة ونقابيات الكثير من مطالبهن على عكس ما يظن الناس. فقد أثرن بشكل كبير في التوجهات التي حرصت على الحفاظ على مكانة النساء في عهد بن عليّ بنضالهن الدائم وكن حاضرات في المحاكم وفي الحقول على عكس ما يظن البعض من أنها مجموعة نخبوية وكن حاضرات في أحداث الحوض المنجمي وساهمن في الدفاع عن ضحايا التعذيب وضحايا الاستبداد وضحايا العنف السياسي والاجتماعي وهذه الحركة على قلة عددها كانت فاعلة ومؤثرة وتحظى بتعاطف شق من النخبة التونسية اليسارية المتنورة التي غذت هذه الطموحات بقيم الدفاع عن الحريات والمساواة. لكنّ في القول بأن الواقع التونسي محافظ نظر كبير، فالواقع التونسي اليومي ليس محافظا قط، توجد عملية إنكار حقيقية للممارسات الاجتماعية التي تثبت نزعة تحررية عند الشباب خاصة وحتى صلب الفئات الأكبر سنا، حيث تثبت الأرقام أن للشباب حياة جنسية قبل الزواج وتثبت الإحصائيات الصادرة عن مراكز الصحة العمومية أو المستشفيات الخاصة أن عمليات كالاجهاض ورقع البكارة اكبر مما هو دارج في البلاد وهو الامر الذي يثبت أن في تونس واقعا غير معترف به يتمثل في الممارسات التي تتم في السرية والظلام وتعرض بذلك النساء للعنف لان تلك الممارسات لا تتم تحت جناح القبول الاجتماعي ولا تحت جناح القانون الذي يحمي الحريات الفردية. إذن الحركة النسوية في نظري رغم ارتفاع أصوات الشعبوية في الانتخابات الأخيرة ناجحة وهي تفضح بشكل متواصل نفاق المجتمع ونفاق قوانينه وهشاشتها أمام الواقع. فالحركة النسوية التونسية تملك قوة الحق لذلك هي قادرة على كسب المزيد من التغلغل في الواقع لانها تعبّر عن تطلعات الشّباب وأفضل دليل على ذلك احتضان جمعية النساء الديمقراطيات مؤخرا لاحتجاجات الشباب وفتح مقرها ومواردها لدعمهم دعما رمزيا وتبنّي مطالبهم وهذا يؤكد تجذّر الوعي النسوي التونسي بصفته لا يعبر فقط عن الهموم النسوية بل هموم الفئات الهشة وغير المرئية بشكل عام كالأقليات والمهاجرين والشباب وغير هؤلاء من الذين لا يسمع صوتهم ولا يعترف بحقوقهم. وما دامت هذه الحركة قادرة على الدفاع عن الاختلاف وعن التنوع والكرامة بمرونة فسيكون النجاح حليفها مهما تصاعدت أصوات الشعبوية والمحافظة والخوف لانّ النساء التونسيات لم يعدن يقْبَلْنَ بالعودة إلى الصمت والخنوع. فنقول للذين يعنفون الفاعلات ويشوّهون الرموز النسوية التونسية ويقذفون النساء حاولوا لا تيأسوا، لم يعد لما تفعلون مصداقية وكل ما تتفوهون به سيذهب ادراج الريح وتبقى حقوقنا ونضالاتنا شاهدة على ما ندافع عنه من قيم المواطنة والحريّة والعدالة والكرامة.

نُشر باسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 9 فيفري 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING