الشارع المغاربي : في خضم المأزق السياسي غير المسبوق الذي تشهده تونس منذ اندلاع الثورة، وفي أجواء تنم عن عودة سياسية ساخنة نتيجة احتقان الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى أبعد الحدود، جاء الإعلان عن سلسلة من القروض الجديدة المبرمة أو المبرمجة مع الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية ليعيد معضلة المديونية التونسية المفرطة والمتفاقمة إلى واجهة الأحداث الوطنية خاصة أن هذا الملف أضحى مرتبطا أيضا بالأزمة الحكومية
وبالصراع الدائر على رأس السلطة و تدخل مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى لمعاضدة رئيس الحكومة مقابل تعهده بإبرام اتفاق التبادل الحر
الشامل و المعمق مع الاتحاد الأوروبي وكذلك تفعيل الاتفاق المتعلق بمقاومة الهجرة السرية باتجاه أوروبا.
هذا المقال هو بداية سلسلة سنسلط فيها الأضواء على الجذور التاريخية للهيمنة الفرنسية الأوروبية على تونس وسنبين في هذا الإطار كيف تم توظيف المديونية عبر التاريخ – إلى جانب الأدوات الاستعمارية الأخرى كالتجارة المختلة والامتيازات الخاصة بالأجانب و الاتفاقيات المتعددة الأطراف- لإجهاض طموحات الشعب التونسي لبناء دولته الوطنية المستقلة والنيل من سيادته وتكريس تبعيته المالية والاقتصادية والتحكم في ثرواته المادية والبشرية و في سياسته الاقتصادية وخياراته الدبلوماسية تمهيدا لمرحلة الاستعمار المباشر.
وسنتعرض إلى أساليب الهيمنة الجديدة القديمة التي تم تطويرها بعد الاستقلال وفي المراحل المفصلية التي مرت بها العلاقات شمال جنوب، ومن ضمنها المديونية، للحفاظ على مكاسب الفترة الاستعمارية ولإبقاء تونس والمنطقة المغاربية في دائرة النفوذ الغربية والسعي الحثيث لتأبيد تبعيتها لفرنسا وللغرب من خلال إقحامها في منظومة العولمة الاقتصادية و ما تفرع عنها من آليات واتفاقيات ومؤسسات مالية متعددة الأطراف.
وقد ارتأيت الانطلاق من الفترة الموالية مباشرة للثورة باعتبار أهميتها التاريخية و ارتباطها المباشر بالظرفية السياسية والاقتصادية الدقيقة التي تمر بها تونس وبالدورالمؤثر الذي تضطلع به فرنسا وحلفاؤها الغربيون داخل المشهد السياسي التونسي وفي علاقات تونس الخارجية السياسية و الاقتصادية.
المديونية في خدمة بقاء الهيمنة الفرنسية الغربية على تونس
اللافت أن ملف المديونية الخارجية تصدر القضايا التي طرحت مباشرة بعد الثورة حيث طالبت بعض الإطراف السياسية وعدد من المختصين بتعليق تسديد مديونية النظام السابق في انتظار إجراء تدقيق لتحديد الجزء الذي يمكن تصنيفه كمديونية ” كريهة” يجوز المطالبة بإلغائها.
ورغم الأصداء الايجابية لهذا الموقف في البرلمان الأوروبي فإن الحكومات المتعاقبة تعهدت، بضغط من الإطراف الغربية المهيمنة على التعاون مع تونس،بمواصلة تسديد المديونية بحجة استمرارية الدولة والحفاظ على الأرقام السيادية لتونس ومصداقيتها المالية حتى يتسنى لها مواصلة الخروج الآمن في الأسواق المالية الدولية.
وحرصا على احتواء هذا الجدل قدمت مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى أثناء قمتها المنعقدة بدوفيل الفرنسية في ماي 2011 تعهدات بتخصيص برنامج كبير للمساعدات المالية لتونس بشروط ميسرة لتيسير انتقالها الديمقراطي والسياسي وهو يشمل، إلى جانب القروض الضخمة الموعود بها، استرداد الأموال “المسروقة” المهربة إلى الخارج والمقدرة آنذاك بحوالي 38.5 مليار دولار وفقا لمصادر جامعية أمريكية موثوق فيها .
ورغم عدم التزام الجانب الغربي بهذه الوعود واصلت الحكومات المتعاقبة تسديد الديون المتخلدة بذمة النظام السابق مثلما استمرت في التداين والإنفاق
المفرط والتوسع في سياسة الانفتاح الاقتصادي و التجاري مع تعهدها بالتوقيع على اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق.
وهذا ما يفسر الارتفاع المستمر و الجنوني للمديونية التونسية المرتبط أيضا بالتدهور الكبير في قيمة الدينار الذي فقد 62 % من قيمته قياسا بالأورو منذ 2011 وخضوع تونس بداية 2013 للبرامج المشروطة لصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية وآخرها الصفقة الموقعة مع الحكومة الحالية التي تعهدت بالتوقيع على “آليكا” سنة 2019 مقابل دفعة جديدة من القروض بقيمة 17 مليار دينار سيخصص جلها للتعهد بمديونية الترويكا والحكومات الموالية لها التي شرع في تسديدها انطلاقا من العام الماضي.
الحقائق المفزعة لأزمة المديونية
لم يسبق ان بلغت المديونية الخارجية لتونس هذه الدرجة من الخطورة بعد خروجها الكلي عن السيطرة نتيجة سوء إدارة هذا الملف غداة الثورة من كافة الحكومات المتعاقبة بلجوئها المفرط للاقتراض والمديونية الخارجية قصيرة الأمد وهو ما تؤكده آخر الإحصائيات الرسمية والأرقام المتداولة في أوساط المختصين و مفادها أن كتلة الديون قفزت من 25 مليار دينار سنة 2010 ) 40 % من الناتج المحلي الإجمالي( إلى 75 مليار دينار أي أنها تضاعفت ثلاثة مرات مقارنة بعام 2010 وهو ما
يناهز 73 % من الناتج المحلي الإجمالي بزيادة عشر نقاط عما كانت عليه قبل سنتين لدى تسلم حكومة يوسف الشاهد مقاليد السلطة وتعهدها باستعادة
التوازنات المالية الكبرى ومقاومة الفساد كأولوية مطلقة.
وعلى سبيل المقارنة تفيد الأرقام الرسمية لشهر مارس 2018 الصادرة عن وزارة المالية أن حجم الديون ارتفع بأكثر من 12 مليار دينار خلال سنة فقط في ما بين 2016 و 2017 وأن كتلة الديون أصبحت تشكل أكثر من ضعف ميزانية الدولة للعام الجاري . لكن هذا الرقم مرشح لمزيد الانفلات إذا أخذنا بعين الاعتبار آخر الأرقام المشار إليها لشهر جوان التي لا تشمل القروض الإضافية المبرمة أو المبرمجة للعامين المقبلين. وفي هذا الصدد نشير إلى القروض المبرمة خلال شهر جويلية 2018 و البالغة 2740 مليون دينار علما أن الحكومة تعتزم اقتراض مليار دولار إضافي من السوق المالية الدولية بشروط ينتظر أن تكون جد مجحفة بسبب الأوضاع الاقتصادية والمالية الحرجة التي تمر بها تونس. وتضاف هذه التمويلات إلى صفقة جديدة تعهد بموجبها الاتحاد الأوروبي و صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك الإفريقي للتنمية والوكالة الفرنسية للتعاون بتأمين القروض الضرورية بعنوان العامين القادمين في حدود حوالي 17 مليار دينار) 5.5 مليارات اورو ( غير أن هذا البرنامج مشروط باستكمال “الإصلاحات” وفي مقدمتها التزام الحكومة بتفعيل الاتفاق المتعلق باستعادة المهاجرين غير القانونيين وبإبرام اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق باعتباره “أولوية إستراتيجية” بالنسبة للجانبين. والملاحظ أن ثلثي هذه الديون متأتيان من القروض الخارجية قصيرة الأمد المتضخمة ذاتيا وآليا بفعل التراجع المستمر للدينار التونسي مما أدى إلى الارتفاع الكبير في نسبة الاعتمادت المخصصة سنويا لتسديد خدمة الدين بميزانية الدولة التي أصبحت منذ سنوات تحظى بالأولوية على حساب التنمية وتوفير المتطلبات الأساسية للبلاد بحكم انهيار الاحتياطي العام للعملة الصعبة إلى اقل من سبعين يوما وهو ما يفسر النقص الحاد في المواد الحياتية الضرورية كالدواء وكذلك تدهور الخدمات الصحية وغيرها من المرافق العمومية.
وفي هذا الصدد، تشير الارقام الرسمية إلى ارتفاع كبير في الاعتمادت المخصصة سنة 2018 لتسديد خدمة المديونية والمحددة ب 9,5 مليارات دينار أي قرابة ثلث الميزانية وهي تناهز ضعف المبالغالمدفوعة سنة 2016 حيث بلغت 5130 مليون دينار مع الإشارة إلى أنّ ذلك المبلغ كان يساوي ميزانيات وزارات الصحة، والشؤون الاجتماعية، والتشغيل والتكوين المهني، و التنمية، والبيئة، والنقل، والتعليم العالي،إلى جانب الثقافة والسياحة مجتمعة .
لكن الرقم الفعلي المدفوع سيكون اكبر بفعل التراجع الكبير في قيمة الدينار وهو مرشح لمزيد الانفلات بسبب الشروع في تسديد مديونية
الترويكا والحكومات الموالية لها.
غير أن الائتلاف الحاكم يتمسك بهذه السياسة رافضا الإقرار بالحقيقة الموضوعية المرة التي يرددها الخبراء ومفادها أن تونس تكاد تكون دولة مفلسة طالما أنها أصبحت عاجزة عن مواجهة استحقاقات الديون بمواردها الذاتية ودون اللجوء إلى الاقتراض القذر غير المنتج الذي يتجاوز طاقاتها ويزيد في تعميق ماساتها بدلا من حلها.ومع ذلك استمرت الحكومات المتعاقبة منذ عهد الترويكا في عرقلة مشاريع القوانين المطالبة بالتدقيق في المديونية ، إلى جانب عدم استجابتها لدعوات المختصين المطالبين باتخاذ بعض التدابير الوقائية المتاحة لتونس للتحكم نسبيا في حجم المديونية المرتبطة أيضا بالعجز التجاري والمالي المتفاقم والخارج عن السيطرة .ومن ضمن هذه الإقتراحات تفعيل البنود الوقائية لاتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية مع الاتحاد الأوروبي وتعليق تسديد تونس التحويلات السلبية الصافية لصالح المقرضين.
ما هي حقيقة التحويلات السلبية الصافية ؟
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى الكتاب الصادر سنة 2014 حول المديونية التونسية بإمضاء الأستاذ الجامعي التونسي المتخصص في القضايا المالية عبد المجيد عمار وهو بعنوان – l’endettement extérieur Tunisien L’engrenage fatal ويكشف هذا الكتاب حقائق مثيرة حول معضلة المديونية ومن بينها أن إرتفاعها إلى مستويات خطيرة تتعدّى القدرة على التسديد كما هو الحال بالنسبة لتونس يؤدي إلى تحوّل الدولة المدينة إلى مصدر للأموال حيث كثيرا ما تتجاوز المبالغ المدفوعة سنويا إلى الأطراف الدائنة أصلا وفائدة ما يتحصل عليه الطرف المدين في تلك السنة من القروض الجديدة التي يعاد تحويل الجزء الاكبر منها إلى الأطراف المقرضة لتسديد القروض القديمة.
وهذا هو الواقع المأساوي الذي تعيشه تونس بدرجات متفاوتة من الخطورة منذ نهاية الثمانينات حيث بلغت التحويلات السلبية الصافية ما بين 1988 و 2010 لصالح المقرضين، 6534 مليون دينار أي بمعدل سنوي سلبي يساوي – 284 مليون دينار.
واعتبارا إلى أن المديونية التونسية لم تعد والحالة تلك ذات جدوى إقتصادية، يقترح الكاتب التفاوض مع الدائنين الرئيسيين لتحويل المبالغ السنوية السلبية الصافية المستحقة لهم إلى مشاريع تنموية لصالح الجانبين علما أن دول مجموعة السبع هي من ابرز المستفيدين من التحويلات الصافية الموزعة بالنسبة للفترة 1994 2010 بين الدائنين كما يلي: 1340 مليون دينار لصالح الولايات المتحدة الأمريكية و 1030 م د لصالح ألمانيا و 516 م د لفائدة فرنسا و 506،6 م د لصالح اليابان وكذلك 459،8 م د لفائدة إيطاليا.
وهذا دون احتساب التحويلات الصافية المستحقة والمدفوعة خلال السنوات الأخيرة الموالية للثورة و المقدرة بـ 2.5 مليار اورو سنة 2014 علما ان الديون التونسية المعلن عن طرحها أو تحويلها إلى مشاريع تنموية من قبل ألمانيا وإيطاليا و فرنسا هي في واقع الأمر جزء يسير من مجمل التحويلات الصافية التي تكبدتها وما زالت تتكبدها تونس لصالح هذه الدول منذ الثمانينات .
والملاحظ أن ديون تونس إزاء فرنسا مقدّرة ب 1،5 مليار أورو وهي من المقرضين الرئيسيين ومن أكبر المستفيدين من التحويلات الصافية ومن الأسواق التونسية باعتبارها أول شريك تجاري واستثماري لتونس داخل الاتحاد الأوروبي.
وتبين مثل هذه الدراسات والتطورات الأخيرة في أرقام المديونية أن تونس بلغت فعلا منذ سنوات مرحلة الإفلاس غير المعلن وأن مضيها في هذه السياسات الانتحارية، بضغط من القوى الغربية المهيمنة، رغم تحذيرات المختصين والأطراف السياسية المعارضة هو الذي أوصل البلاد إلى هذا المستوى من الانهيار الاقتصادي والمالي وإلى المأزق السياسي الحالي الذي أصبح يهدد بإجهاض ما تبقى من الانتقال الديمقراطي مما قد يفتح المجال لدخول البلاد في دوامة مجهولة العواقب من الفوضى وعدم الاستقرار.
بقي أن نشير إلى أن البحث عن حلول حقيقية وطويلة الامد لمعضلة المديونية ولمشاكل البلاد المالية والاقتصادية يحتاج إلى مقاربة شاملة ومتكاملة ترتكز على مراجعة جذرية لسياسة التداين المفرط وللسياسة الاقتصادية والتنموية ذات الصلة فضلا عن إعادة النظر، من خلال الحوار الوطني والحوار الثنائي والمتعددة الأطراف في الأطر التنظيمية لعلاقاتنا مع شركائنا الإستراتيجيين وتحديدا مع مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي فضلا عن المؤسسات المالية الدولية.
صدر بأسبوعية الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 11 سبتمبر 2018