الشارع المغاربي: ابتُليت البلاد الإسلامية بنوع من التدين الذي اصطلح على تسميته بالتديّن الشكلي وهو نوع من السلوك الذي يجعل من الدين طقوسا لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية العليا التي حث على الاتصاف بها. ويتحول بذلك إلى خدمة أغراض سياسية أو لإخفاء ما يخشى المرء إظهاره بين الناس لينقلب التديّن من أداء الصلاة إلى التطاول في بناء المساجد وتأثيثها كما تقترن الحشمة بفرض الخمار والنقاب ويتم الانحراف بالزكاة من مصارفها المحدّدة شرعا إلى تمويل الأحزاب وغيرها من منظمات المغالبة وذلك من خلال صناديق الزكاة. والغريب في الأمر أن هذا النوع من التدين الشعبوي يجد الرعاية والعناية من قبل مؤسسات الدولة خدمة لأغراض سياسية حتى وإن افتقدت لأي سند شرعي من ذلك مثلا:
1) إعلان الأذان في الإذاعة والتلفزة وهو ما تم في إطار خطة سحب البساط التي اعتمدها النظام السابق لمّا توهم أن مقاومة الإسلام السياسي يمكن أن تستند إلى نفس أسلحته والحال أن هذا النوع من الأذان وإن انتشر فإنه بدعة من شأنها أن تلبّس على خلق الله. فأوقات العبادات جميعها مبنية على حركة الشمس والقمر وهي لذلك تختلف من منطقة إلى أخرى! فالدين مُوَجَّه إلى المؤمنين وليس مُوَجَّها إلى الدولة حتى تحدّد له وقته أو تعلن دخوله أو خروجه فوقت المغرب في تونس العاصمة هو غيره في توزر وإعلانه في تونس لا يعني أن سكان توزر يفطرون وفق ما أذيع في تونس بل ينتظرون مغيب الشمس. لذا تقتضي الحكمة أن يُترك أمر العبادة وتوقيتها للمؤمنين وألا تحشر الدولة نفسها في ذلك. ومن التقعّر الاستعانة بمعهد الرصد الجوي مثلا في تحديد أوقات الصلاة أو رؤية هلال رمضان فأحكام العبادات تعرف بالوسائل العادية المتاحة للجميع وليست في حاجة إلى الاختصاصات والآلات والمعارف المعقدة لأن القصد من أداء العبادة إظهار الطاعة لله وليس أداءها في وقت محدد مضبوط. فالعبادات مبنية على الظنون وليست مبنية على اليقين من ذلك أن القبلة في جامعي الزيتونة وعقبة بن نافع منحرفة بالحسابات الفلكية ورغم ذلك فالصلاة فيهما صحيحة لأن الأوامر الشرعية مبنية على قدرة المكلف بإمكاناته العادية والمتاحة له. أما ما نشاهد من هرج يصحب رؤية هلال رمضان والدعوة إلى اعتماد الحساب والرصد الجوي والمناظير فليس إلا تكلفا وتقعّرا يندرج في باب التديّن الشكلي المنهيّ عنه الذي لم يأمر به الشرع. ولا يخفى طبعا أن القصد من كل ذلك الصخب والهرج الذي تتبارى مؤسسات الدولة على إظهاره ليس إلا خدمة لأغراض سياسية ممثلة في إرضاء العامة وكهنتهم ولو كان ذلك بالتوسل إلى التدين الشكلي الشعبوي.
2) استعمال الميكروفونات في الجوامع والمساجد للأذان ولنقل الصلوات والخطب وغيرها والملاحظ أن هذا التصرف الذي تسمح به الدولة ولا تواجهه مواجهة حازمة يندرج هو الآخر ضمن التديّن الشكلي وهو ما دفع بوزارة الشؤون الإسلامية في السعودية في إطار ما تشهد من إصلاحات الى نشر تعميم مفاده: «قصر استعمال مكبرات الصوت الخارجية على رفع الأذان والإقامة فقط، وألا يتجاوز مستوى ارتفاع الصوت في الأجهزة عن ثلث درجة جهاز مكبر الصوت، واتخاذ الإجراء النظامي بحق من يخالف»، مستندة في ذلك إلى فتاوى مستحدثة لشيوخ المذهب الوهابي راعت فيها ما يمكن أن تحدث مكبرات الأصوات من أذى للمرضى وكبار السن والتلامذة وغيرهم. الذي بادرت السعودية إلى معالجته بتعميمها الأخير عجزنا في تونس عن مواجهته حيث نجد أن مكبرات الصوت تصدح بكامل طاقتها في كل الأوقات دون اعتبار لِما يحدث هذا الضجيج من ضرر للأصحاء والمرضى كبارا وصغارا. ففي سنة 1975 نشر المسرحي المرحوم حسن الزمرلي نصا في جريدة «لا براس» اشتكى فيه من مصدح جامع العمران الذي قال إن قوّته يمكن أن «تقيّم رقود الجبانة في مقبرة سيدي يحيى». في ذلك الوقت هاجمته مجلة «المعرفة» ونشرت ردّا برّرت فيه ذلك بما يصدر عن الأعراس والقطارات من أصوات وكفّرت الرجل في طلبه. وفي سنة 1989 نشر المرحوم الشيخ محمد المختار السلامي المفتي الأسبق فتوى في الموضوع أوضح وأشمل مما جاء في التعميم السعودي وذلك في مجلة «الهداية» السنة 15 العدد الرابع قال فيها: «لذا فإن قراءة القرآن بواسطة مضخمات الصوت من أعالي المآذن ممّا يتعيّن منعه، لأن القائم به ليس عابدا، ولكنه عاص، إذ هو بعمله يجعل القرآن موجب إزعاج وإرهاق للأعصاب. ولأنه غير محترم للقرآن إذ يصل صداه إلى مجامع الطهر وغيرها ويحول بين المصلي الداخل للمسجد وبين الخشوع في صلاته ويشغله عن تحيّة المسجد وإن التأثير السلبي للجهلة المتعصبين على الدين قد يكون أسوأ من تأثير أعداء الدين فما كان التعصب للدين له أو عليه إلا عمى والقرآن بصائر» ورغم كل ما ذكر فإن وزارة الشؤون الدينية قبل 2011 وبعده مصرّة على المحافظة على التدين في أتعس مظاهره لأنها وزارة للتدين الشكلي الشعبوي.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ 1 جوان 2021