الشارع المغاربي : عاد الجدل مجددا حول حرية الاعلام في تونس نهاية الأسبوع الفارط لاسيما بعد صدور بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التي أدانت اقدام مؤسستي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة على اقصاء وسائل اعلام محليّة ومراسلي الصحافة الدولية من مواكبة حدث اعلان يوسف الشاهد عن التحوير الوزاري والندوة الصحفية لرئيس الدولة بأسلوب انتقائي فجّ يؤشر على محاولات محمومة لتكريس اعلام الموالاة وصحافة البلاط مثلما كان عليه الحال خلال العهد السابق.
لقد كشف هذا التعاطي الرسمي مع وسائل الاعلام والصحفيين الوجه القبيح لمنظومة الحكم الحالية في تعاملها مع السلطة الرابعة لدرجة المنع من القيام بالعمل عوض أن يكون هناك تكافؤ في الفرص في الحصول على المعلومة فضلا عن مساع للزج بالاعلاميين ومؤسساتهم في أتون الأزمة السياسية الراهنة بين القصبة وقرطاج.
السبسي وحرية الاعلام: خطان متوازيان لا يلتقيان
لم تكتف مصالح الاعلام والاتصال برئاسة الجمهورية بتوجيه دعوات لجزء من وسائل الاعلام وبعض رؤساء التحرير والاعلاميين الذين لا يخفى على أحد قرب لفيف منهم من الباجي قائد السبسي الذي يفتح لهم أبواب الطائرة الرئاسية في رحلاته الخارجية بمنطق «الأقربون أولى بالمعروف » والذين لهم الحصر والسبق في الحوارات الصحفية لأسباب ليست بمنأى عن الولاء والدرجة العالية من الرضاء السياسي، بل إنّ رئيس الجمهورية نفسه حوّل بلا غضاضة الندوة الصحفية إلى خطبة عصماء حيث لم يتوّرع عن القول: «جيت باش نعطيكم المعلومات وأنتوما اتصرفوا فيها… ما جيتش باش نتحاور…بربي ما تعبونيش”.
ربّما قد يكون قائد السبسي مازال في تمثّله لدور الاعلام في المجال العمومي وفي الحياة الديمقراطية لم يبارح بعد العقل والنسق الدعائي الذي كان وراء اجتراح سلسلة توجيهات السيد الرئيس زمن حكم الزعيم الحبيب بروقيبة في التلفزيون الرسمي.
الأخطر من كلّ هذا أن الرئيس السبسي سمح لنفسه بالتعدي على الزميل الصحفي حسّان العيّادي حيث رفض منحه الفرصة لطرح سؤاله بل ذهب إلى أبعد من ذلك حينما حاول التهجم ضمنيا على صحيفة المغرب بتعلّة أنّه يعرف توجهاتها التي تكاد تتحوّل إلى جريمة تعاقب عليها مؤسسة الرئاسة ومحاكم التفتيش الجديدة.فهل الشيء من مأتاه يستغرب؟
من المعلوم أنّ لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي سوابق في الاعتداء رمزيا ولفظيا على الصحفيين والمسّ من كرامتهم سواء حينما كان في خطّة الوزير الأول بعيد الثورة أو خلال الفترة التي ترأس فيها حركة نداء تونس وجميعنا يتذكر تلك الحادثة الشهيرة التي جمعته بالكرونيكور محمد بوغلاب في القناة الوطنية حيث قام وقتها برمي الورقة عليه دون أن يحرّك الأخير ساكنا بطريقة تنمّ عن تطاوس وضيق صدر تجاه حريّة الاعلام والأسئلة المحرجة والمستفزة.
كما أنّه لا مجال للمقارنة بين الوضعية التي كان عليها الانفتاح من قبل مصالح الاعلام والاتصال في قصر قرطاج تجاه الصحفيين ووسائل الاعلام بمختلف أصنافها وتوجهاتها زمن الرئيس محمد منصف المرزوقي والوضعية في عهد الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي الذي أضحى الحقّ في الحصول على المعلومة في عهده ولاسيما الحوارات الصحفية لمن استطاع اليها سبيلا و التي كان يفترض أن يراعي فيها المسؤول في الدولة مبدأ التنوّع والتعدّدية السائدة اليوم في المشهد الاعلامي ولكن هيهات فالسبسي وحرية الاعلام على ما يبدو خطان متوازيان لا يلتقيان واذا ما التقيا فلا حول ولا قوة الا بالله فالمطلوب أساسا هو مناخ للحريات الصحفية يكون على المقاس إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
طبعا هذا دون الحديث عن التمييز بين الاعلام المحليّ والصحفيين الأجانب الذين هم في نظر السيد الرئيس المؤتمن على الدستور اعلاميون من درجة أولى تتلوّن معهم السجيّة والمهجة وتفرش لهم السجادة الحمراء.
يتبجح رئيس الجمهورية بالندوة الصحفية التي قال ان الهدف منها مصارحة الشعب ورفع كلّ لبس في علاقة بموقفه تجاه التحوير الوزاري ولكنه قفز على حقيقة أنّ هذا الخيار الاتصالي التواصلي هو الأوّل من نوعه رغم مرور 4 سنوات على توليه مقاليد الحكم في قرطاج وهو الذي يكون بشكل دوري في الأنظمة الديمقراطية بل إنّ البعض من الرؤساء في الدول الكبرى ينظم سنويا في نهاية كلّ عام اداري مؤتمرا اعلاميا تحضره جلّ وسائل الاعلام من أجل الاجابة بكل وضوح عن تساؤلات الرأي العام وهو شكل من أشكال المساءلة الصحفية.
فأين نحن من كلّ هذا ورئيس الحكومة الشاب بدوره لا يختلف عن رئيس الجمهورية الذي قال انه صاحب الفضل في تعيينه فقد اكتفى يوم الاعلان عن التحوير الوزاري بدعوة بعض وسائل الاعلام التي على ما يبدو يرى فيها مستشاره الاعلامي (مفدي المسدي الذي بات منذ اعلانه الاستقالة يمارس عمله خلسة مثل بائع الخمر) بمزاجيته وذهنيته المعهودة أنّها الأجدر بالحضور والتغطية وكأنّ المسألة تتعلّق بحفل زواج أو ختان.
إنّ هذا الوضع البائس في العلاقة بين مؤسسات الدولة في السلطة التنفيذية ووسائل الاعلام يؤشر على ممارسات خطيرة ما انفكت تتمدّد وهي تسير بالقطاع إلى المربع القديم حيث كانت حرية الاعلام تقوم على فلسفة «القطرة قطرة » والبروباغندا على طريقة غوبلز وزير الدعاية في عهد ألمانيا النازية بقيادة هتلر.
لقد آن الأوان لفتح نقاش جدّي مثمر حول اشكالية الحقّ في الحصول على المعلومة في علاقة بالقصبة وقرطاج وسبل التغطيات الصحفية لأنشطة رئيسي الحكومة والجمهورية ولم لا حلّ هذه المعضلة عبر اصدار بطاقات اعتماد رسمي لصحفيين مكلفين بمثل هذه المهمة من قبل ادارة تحرير مؤسساتهم الاعلامية لا بإملاءات من السلطة السياسية وذلك اقتداء بالاليزيه والبيت الأبيض.
إنّ هذا الحوار لا يجب أن يستثني المكلفين بالاعلام والاتصال في مؤسسات الدولة في مختلف الأسلاك والقطاعات مركزيا وجهويا ومحليّا ودورهم في تسهيل عمل الصحفيين احتراما لحريّة الصحافة.
النفط مقابل الغذاء:
الانتهاكات والتضييقات التي طالت حرية الاعلام في السنوات الأخيرة ليست ذات علاقة فحسب بحقّ الحصول على المعلومة أو النفاذ اليها وفق المعايير المهنية المتعارف عليها ومن مظاهر ذلك انتشار صحافة «المصادر المطلعة » وهي تقوم على التسريبات الموجهة وأحيانا يتم حتّى غشّ الصحفيين من خلال مدّهم بمعلومات مغلوطة لغاية في نفس يعقوب وخير دليل على ذلك تعدّد القائمات التي تداولتها مواقع الصحف الالكترونية والاذاعات ساعات قبل الاعلان الرسمي من قبل رئيس الحكومة يوسف الشاهد والتي قد يكون الهدف منها سياسيا بامتياز من أجل المناورة وتحسين شروط التفاوض والابتزاز الحزبي ، بل هي مسّت أيضا جوانب أخرى تهم الملفات العالقة بين الحكومة ومجلس نواب الشعب وهياكل المهنة.
إنّ الملاحظ لتعاطي حكومة الشاهد ومنظومة الحكم الحالية ككل مع الملفات المهنية في القطاع الاعلامي كالاشهار العمومي والسكن الاجتماعي للصحفيين والاعفاءات الجبائية ومسألة ديون الصناديق الاجتماعية بالنسبة لأصحاب المؤسسات وتسوية وضعية الموازانات المالية في الاعلام العمومي يتبيّن بشكل لا مراء فيه رغبة في جعل هذه الواجبات المحمولة على عاتق الدولة في اطار الاستثمار مبدئيا في حرية الصحافة بوصفها دعامة للبناء الديمقراطي، وهي ليست منّة من أي أحد مثلما يحاول البعض التسويق لذلك على أنّها انجازات بطولية في معظمها لم تتحقق بعد أن ظلّت لسنوات تخضع لأساليب التسويف وبيع الوهم والترغيب والترهيب، تكاد تتحوّل اليوم إلى أدوات لليّ الذراع وتكميم الأفواه عملا بسياسة «النفط مقابل الغذاء » ضمن تمشّ استراتيجي الهدف منه تدجين الأقلام وشراء الذمم وتوجيه المضامين التحريرية لبعض الطيّعين صوب أجندات القصبة ومن يساند ساكنها في خضم الاعداد لانتخابات 2019 .
لا شكّ في أنّ المجال الاعلامي يحتاج إلى قرارات جريئة من الدولة من شأنها أن تخفّف على الصحفيين وطأة التفقير الاقتصادي والاجتماعي الذي يمارس عليهم علاوة عن ضرورة وضع مسألة اصلاح الاعلام ومنظومته الحالية على رأس الأولويات الوطنية عبر استكمال المسار التشريعي والمؤسساتي الدستوري التعديلي وفتح ملف العدالة الانتقالية قبل أن يقبر نهائيا لكن لا يجب أن يتمّ ذلك على حساب أخلاقيات المهنة واستقلالية القطاع والحريات الصحفيّة.
لقد عادت ثقافة ومقاربات وكالة الاتصال الخارجي وممارسات زين العابدين بن علي لتطفو على السطح مجددا وسط تواطؤ عديد الجهات والدوائر التي أضحت بمثابة الخلايا السريّة في ما يسمّى بالمشروع السياسي ليوسف الشاهد ومن لفّ لفّه وربما اذا ما تواصل الوضع على هذه الشاكلة إلى غاية الاستحقاق الانتخابي القادم فإنّه وقتها حريّ بنا أن نترحم على حريّة الاعلام التي توزعت دماؤها بين قبائل الانتهازيين ولوبيات الفاسدين والطامعين في غنائم منتظرة قد تأتي وقد تذهب في مهب الريح. أفلا يستحون أم على قلوب أقفالها؟
منشور بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم الثلاثاء 13 نوفمبر 2018