الشارع المغاربي – النهضة تستنجد باحتياطييها / بقلم: محمد الخالدي

النهضة تستنجد باحتياطييها / بقلم: محمد الخالدي

قسم الأخبار

18 سبتمبر، 2021

الشارع المغاربي: كتبت في آخر “وقفة” لي بـ”الشارع المغاربي” (6/7/2021) أن نهاية الإسلام السياسي حتمية تاريخية لا مناص منها وأن النهضة تستمد قوتها وديمومتها من الطبقة السياسية البائسة التي ظهرت بعد 2011. فالجميع، إلاّ من رحم ربك يدورون في فلكها، يتملقونها ويخطبون ودها، بعضهم جهرًا وبعضهم سرّا، وهؤلاء هم الأخطر، ومن هنا اطمئنانها على مستقبلها السياسي، سيما وقد بسطت سيطرتها الكاملة تقريبا على مفاصل الدولة. ولذلك كانت إجراءات الخامس والعشرين من جويلية بمثابة الزلزال، هزّ أركانها على حين غرّة إذ لا أحد، لا من الطيف السياسي ولا من المراقبين المحايدين ولا من الناس العاديين كان يتوقع الإعلان عنها في ذلك التوقيت وبتلك الدراماتيكية التي فاجأت الجميع. ومن هنا ذهول النهضويين وأتباعهم والمتمسحين بأذيالهم وفقدانهم البوصلة من هول الصدمة. فقد كانوا يتهيئون لتأبيد سلطتهم، وذلك بالتخلص من رئيس الدولة الذي وقف عقبة كأداء في طريقهم خلافا لما كانوا يتوقعون.

لقد تعالت الأصوات بين مرحّب بإجراءات الرّئيس وهم أكثرية الشعب وبين مندّد بدعوى خرقه الدستور ونيّته إقامة نظام دكتاتوري وهم الفئة المستفيدة من وجود النهضة في الحكم ومن انتشار الفساد، وبين متردّد في انتظار اتضاح الرّوية، وهم الانتهازيون وصائدو الفرص.

وبعيدا عن هذه الأجواء الصاخبة، تعالوا نبحث في العوامل التي ساعدت النهضة على التغوّل ومكّنتها من البلاد والعباد في زمن قياسي. فقد رفعت شعار المظلومية الذي استغلته أبشع استغلال واستطاعت بذلك خداع شرائح واسعة من التونسيين وسرقة عقولهم. أضف إلى ذلك الزحف الجماعي للتجمعيين للالتحاق بصفوفها ممّا أدّى إلى تضخم قاعدتها بين عشية وضحاها. ويتكوّن هؤلاء اللاجئين في معظمهم من رؤساء وأعضاء الشعب والبلديات والعمد ولجان التنسيق، أي من سارقي مساعدات اليتامى والأرامل والعجّز ومخبري بوليس بن علي. والهدف طبعا حماية ظهورهم والحفاظ على مصالحهم. وقد استقبلتهم النهضة بالأحضان. وبفضل هؤلاء حقّقت فوزها الساحق في انتخابات 2011، على عكس كل التوقعات بما في ذلك توقعات قادتها أنفسهم لتبدأ مرحلة الاستيلاء على البلاد ونهب مقدراتها، مستفيدة من أذرع التنظيم الأخطبوطي للإخوان ومن منابر إعلامية ذات تأثير واسع ومن ارتباطها الوثيق بالماسونية والصهيونية التي يعرفها الجميع باستثناء أتباعها والمنافحين عنها من السذّج ممّن فقدوا القدرة على التمييز.

في الأثناء، استطاعت النهضة أن تصنع لها أجنحة وأذنابا ومخالبَ وأنيابا، يعملون بالوكالة لصالحها وينفّذون المهمات القذرة التي تترفع، بحكم موقعها على القيام بها وبموازاة ذلك. كانت تصنع لها حلفاء سرعان ما تتخلّص منهم بالضربة القاضية أحيانا مثلما فعلت مع حزب الراحل الباجي وحثالته “تحيا تونس”.

ورغم أنها فقدت الكثير من ريشها في السنوات الأخيرة، فقد ظلت، مع ذلك تتصدّر المشهد السياسي، فسيطرت على 80% من البلديات في انتخابات 2019 وحصلت على الأغلبية في البرلمان، لتجد نفسها، هذه المرّة، تصول وتجول بمفردها في الساحة السياسية، فازداد نهمها للسلطة وللنّهب، غير مبالية بتردّي الوضع المعاشي للمواطن، فيما ازداد، في المقابل عدد متملقيها وخاطبي ودّها من أحزاب ورجال أعمال ورجال قانون ونوّاب “مستقلين” وسياسيّين فاشلين فقدوا مصداقيتهم ومجّهم الشعب. كذلك الخرِف “قيدوم المعارضين”الذي توهّم، في يوم من الأيام بأن “الشيخ” قادر، بضغطه على زرّ سحري، يتحكّم فيه وحده على أن يقذف به ليجد نفسه في قصر قرطاج. ويبدو أن هذا الوهم قد عاوده من جديد هذه الأيام، فراح يدغدغ أحلامه القديمة وفاته أن “الشيخ” أكثر لهفة منه على الوصول إلى هناك، وأنه كان قاب قوسيْن أو أدنى من تحقيق هدفه لولا إحباط المحاولة الإنقلابية التي كان يعدّ لها قبل يوم من تنفيذها، ممّا حدا بالرّئيس إلى اتخاذ تلك الإجراءات الدراماتيكية التي فاجأت الجميع، أو ذلك النائب “المثقف”، صاحب التوقيع السحري على الهواء، الذي لم يترك مائدة إلاّ ونال نصيبه منها، أيّا كان أصحابها. فذلك شأن لا يعنيه، وكل ما يعنيه هو الغنيمة… هذا النائب المثقف و”المستقل” انتهى به المطاف، أو بالأحرى انتهازيته التي لا ينافسها فيها أحد إلى الارتماء في أحضان “الشيخ” ليعمل عنده مخبرًا في زيّ مستشار. ولأن الانحطاط لا قاع له، فقد احترف هذا الدّعي التهريج، وهو يتنقل بين الإذاعات والقنوات التلفزيونية حتى تحوّل إلى كاراكوز مثير للشفقة… لما كان ينتابه، في كل لقاء تقريبا من حالات هستيرية وكأنّ جدنا المتنبي قد عناه بقوله:

وإذا أشار محدّثا فكأنه قردٌ يقهقه أو عجوزٌ تلطم

ويبدو أنه لم يتفطن، حتى الآن إلى أن المعجبين به الذين صوّتوا له في الانتخابات البرلمانية الأخيرة هم مرضى مثله، يرون فيه صورتهم المشوّهة والمعطوبة.

وغير بعيد عن هذين المهووسين بالسلطة هوسا مرضيّا أستاذ في القانون الدستوري تحوّل، بقدرة قادر من معارض شرس للإخوان إلى مدافع ومنافح عنهم طمعا في منصب وعدوه به للضحك عليه، ليس إلاّ…

ينضاف إلى هؤلاء المهزوزين والفاشلين الذين جندتهم النهضة مناضل أممي، فاشل هو الآخر لينضم إلى الجوقة المندّدة بخرق الدستور والمطالبة بالعودة إلى ما قبل 25 جويلية، أي إلى الأوضاع المتعفنة التي يعرفها الجميع، علما أن هذا المناضل “الأممي” كان يطالب، وما بالعهد من قدم بالقطع نهائيا مع المنظومة القائمة، وبإجراء انتخابات سابقة لأوانها وعندما سنحت الفرصة لذلك ها هو، بين عشية يغير موقفه إلى النقيض تماما، وليس هذا بمستغرب منه. فقراءته للواقع التونسي لا تختلف عن قراءته للواقع في الشقيقة نيكاراغوا وفق المسطرة التي يقيس بها الأشياء ولأنه معارض محترف فإنه لا يتردد في معارضة نفسه إذا لزم الأمر ولم يجد من يعارضه.

هؤلاء وغيرهم وهم كثر بعدد النمل هم الآن بصدد بعث “كارتل” بدعم من قوى خارجية مشبوهة في محاولة لعزل رئيس الجمهورية واستعادة “المسار الديمقراطي”، أي تأبيد حكم النهضة وتسلّط الفاسدين للحفاظ على مصالحهم…

لقد سقطت الأقنعة أخيرا وزالت المساحيق المزيفة وظهرت الوجوه على حقيقتها، عارية إلاّ من النفاق والخيانة. وبات واضحا، أن هدف هؤلاء، هو استمرار الفوضى وإنهاك الدولة، لأن الفساد لا يزدهر إلا في مناخ مماثل. ولو تواصلت هذه الفوضى أشهرا أخرى النهار ما تبقى من أركان الدولة ولاقتتل الناس في ما بينهم ولظهرت في كل حي ميليشيا مسلحة تأتمر بأوامر رئيس عصابة كأن يكون زعيم حزب، أو مهرّبا أو تاجر دين أو تاجر مخدّرات أو عضوا في البرلمان، ولأصبح السلاح في متناول كل يد مثلما نرى ذلك اليوم في البلدان التي دُمّرت باسم الدين كالعراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن.

ليس هذا من باب المبالغة أو التشاؤم وإنما هي الحقيقة. لأن هدف محاولة الانقلاب التي أحبطت في اللحظة الأخيرة كان خلق فوضى عارمة وإطلاق أيدي أباطرة الفساد ومن والاهم من محتكرين ومهرّبين للعبث بأمن البلاد والعباد. فمن عادة الإخوان، وهذا معروف، الاستثمار في الفوضى وعدم الاستقرار، شأنهم شأن كل التنظيمات الإرهابية.

لقد احتكر الاخوان الله والدين والسلطة. ولم يكفهم ذلك فاحتكروا الفساد والإرهاب والعمالة للأجنبي وبيع الأوطان، مقابل بقائهم في السلطة. ومع ذلك ترتفع، هنا وهناك، هذه الأيام أصوات نشاز تدافع عنهم وعن “الديمقراطية المغدورة ولا أدري أية ديمقراطية يعنون، فهي بالتأكيد ليست ديمقراطية مباشرة، فهذه الأخيرة تطبّق في بلد واحد في العالم هو سويسرا. ولا هي ديمقراطية اجتماعية أو مركزية أو ليبيرالية بالمعنى الغربي للمصطلح، سيجيب البعض إنها ديمقراطية تمثيلية والسؤال الذي يطرح هنا: هل الكائنات الغريبة التي احتلت البرلمان عن طريق المال الفاسد والرشوة والتزوير وحولته إلى إسطبل تمثل الشعب؟

لقد عشنا خدعة كبرى طيلة سنوات عشر اسمها الثورة وما هي بثورة. فالتاريخ يخبرنا بأن من يقوم بفعل الثورة هو من يستلم السلطة بعد ذلك ولو إلى حين. وهذا لم يحصل في تونس. بل حصل العكس، إذ استلمت السلطة جثث محنطة تنتمي إلى زمن غابر هو زمن البايات ليركبها بعد ذلك الظلاميون والعملاء الخونة الذين جاؤوا من وراء البحار ولم يشاركوا ولو برفع شعار واحد في المظاهرات الصاخبة التي أفضت إلى هروب بن علي. فعن أية ثورة يا ترى يتحدثون؟ وهل الذين تسلّطوا على رقابنا من ارهابيّين ومجرمين، يجرّ كل واحد منهم تاريخا حافلا من الخيانة والعمالة ثوار؟.. قد ينخدع المرء إلى حين، لكن أن يستمر في خداع نفسه فتلك هي المأساة. ولعلّني من القلائل ممّن لم يُخدعوا ببريق “الثورة”. كما أجزم بأني الوحيد- من بين الشعراء والكتاب على الأقل- الذي هجاها بعد انتخابات 2011 مباشرة وصعود الإخوان إلى السلطة، وذلك في قصيدة لي بعنوان “الشبيه في عزلته”، نشرتْ في جريدة “القدس” بتاريخ 5/11/2011 (قبل انتقال ملكيتها إلى قطر) وتضمنتها مجموعتي “أطوار من سيرة الشبيه” الصادرة عام 2012. فعلت ذلك وفي ذهني ما أحدثته التنظيمات والأحزاب الدينية في لبنان والجزائر والعراق وقد رأينا ما فعلت بعد ذلك في مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن. وممّا جاء في هذه القصيدة:

…أهذي ثورةٌ؟ أم عورةٌ أم كذبةٌ؟ -أهو الربيع إذن؟ – بلى ! فمن المحيط إلى الخليج من الخليج إلى المحيط، أقولها تتناسل الظلمات يتلو بعضها بعضًا ويعضد بعضها بعضا فيا.. يا خيبة الثورات تُسرق من بنيها يا خيبة الثورات تأكل صانعيها !

وتنتهي القصيدة بهذيْن السطرين اللذين يلخصان حال البلاد خلال العشرية السوداء:

هذي البلاد سبيّةٌ نخّاسها هي بن بيْ.

هل هو حدس الشاعر؟ هل هي نبوءة؟ ربما فالشاعر يستشرف وقد يرى أحيانًا.

في الأثناء، وبعدها كان الشعراء يتغنون بـ”الثورة”، متنقلين من أمسية إلى أخرى مثلما كانوا يفعلون في احتفالات السابع من نوفمبر. وكنت أعجب لتلوّن هؤلاء وقدرتهم على تبديل جلودهم وأقنعتهم….

لم أكن يومًا جزءًا من السلطة، بل كنت دائما في مواجهتها ولا أعترف بأية سلطة عدا سلطة اللغة. قلت هذا الكلام وكتبته في عهد المخلوع. وقد كلّفني ذلك ثمنا باهظا. وهذه السوانح والتداعيات ليست دفاعًا عن أحد، هي فقط للردّ على الهجمة الشرسة التي شنتها جوقة العملاء والمتصهينين على تدابير رئيس الجمهورية من أجل انقاذ البلاد. وإذا كنت أتفهم ردود فعل الإخوان ومن يدورون في فلكهم سرًّا، وعلانية، فإن ما أثار دهشتي هو هذه الهستيريا التي استبدت ببعض من كنا نعتقد أنّهم في الخندق المقابل. فأصبحت محاسبة الفاسدين وناهبي المال العام في نظرهم ظلما وتحجير السفر على المجرمين والخونة تعدّيا على الحرّيات، وهذا إن دل على شيء فعلى هول الصدمة التي تلقوها على حين غرّة ممّا أفقدهم رشدهم وتوازنهم، فانخرطوا في جوقة من البكاء والنحيب على حقوق الإنسان والديمقراطية، رغم علمهم علم اليقين باعوجاج منطقهم وبطلان ادعاءاتهم.

ورأيي أن ما يثيره هذا الرهط من أشباه المثقفين من ضوضاء وصراخ ما هو إلاّ رثاء لحزب النهضة وإن بطريقة لاواعية.

بقي أن أشير إلى أن المتضرّرين من التدابير الأخيرة لرئيس الجمهورية لن يستسلموا بسهولة، فقد يعمدون إلى إثارة البلبلة كحجب السلع الأساسية مثلا، مستغلين نفوذهم المالي. هذا إذا لم يعمدوا إلى سياسة الأرض المحروقة فيلجؤون إلى الاغتيالات السياسية والتفجيرات من أجل خلق الفوضى وبث الرّعب في صفوف المواطنين. وليس هذا بغريب عنهم بل هو جزء من عقيدتهم.

وفي ظل أوضاع كهذه، فإن المطلوب، للحفاظ على الأمن والاستقرار إبقاء البلاد تحت حماية الجيش مدّة عام أو أكثر ريثما تكتمل الإجراءات المزمع اتخاذها حتى لو لم يعجب ذلك مرتزقة حقوق الإنسان والديمكرتية.

فالمسألة تتعلق ببقاء الدولة أو زوالها.

نشر ياسبوعبة “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 14 سبتمبر 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING