الشارع المغاربي : تبدو النتائج الأوّلية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها قاصمة لظهر “السيستام” بائتلافه الحاكم أو بكلّ من حاول أن يعيد تكريره أو تكراره في أشكال أخرى لا تخرج عن رحاه أو تصبّ في مصبّه. هي صفعة قاسية للجميع خاصّة للحزب الحكومي “تحيا تونس” ولحليفه في الحكم حركة النهضة. يوسف الشاهد سيكون في أحسن الأحوال خامسا ومرشّح حركة النهضة عبد الفتاح مورو لا “لوّل” ولا “الثاني”…آوت !
يمكن طبعا تحبير مقالات ودراسات تحليلية عديدة تأتي على “زلزال” يوم الأحد تحليلا وتفكيكا لأرقامه ودلالاتها السياسية…هو زلزال وصفعة و”ثورة انتخابية” تقريبا ترجمت إلى تحطّم “السيستام” إلى شظايا متناثرة، أفول ما يسمّى ب”العائلة الوسطية الحداثية” وذهاب ريحها، نهاية اليسار في نسخته التقليدية، انكسار الموجة الثورجية الأولى وسقوط حرّ لحركة النهضة …في الأثناء يفتح الشعب التونسي مسارا جديدا لنفسه حيث لفظ من خلاله تصويته و”صوته” كلّ هذه المنظومات مجتمعة لينحت ربّما منظومته “المبتكرة” على نمط يمكن أن يكون فريدا واستثنائيا…في كلّ الأحوال نحن أمام منعرج حاد جدا …
زوايا النظر متعدّدة إذن، واخترنا هنا زاوية بعينها نعتبرها هامّة ومعبّرة عن خطورة هذا المنعرج السياسي في مسارات التجربة الديمقراطية التونسية: نتيجة مرشّح حركة النهضة عبد الفتاح مورو التي كانت “لطخة” مدوّية ربّما ستكون أصداؤها في الداخل عبر تراجع منتظر ومنطقي في التشريعيات بالنظر مع ما حصل في الرئاسيات مع ما يتزامن معه ضرورة من خروج من الحكم ( وهي فرضية أصبحت واردة).
رئاسيات 2019…النهضة لا الأولى ولا الثانية
أكثر من مليون ونصف صوت في انتخابات المجلس التأسيسي 2011، أقل من مليون في محطة 2014، نصف مليون في “بلديات” 2018..وهزيمة أخيرة لمرشّحها مورو في رئاسيات 2019 بعد خروجه من الدور الأوّل أمام مرشّح في حالة “إيقاف” داخل السجن وآخر خارج كلّ منظومة وبلا حزب أو “ماكينة” ! . لا يمكن أن نوصّف مسار حركة النهضة منذ 2011 إلّا بالانهيار والسقوط الحرّ (chute libre) والانحسار الكبير في شعبيتها وجماهيريتها.
هذا في المستوى الأوّل للتحليل أي عند البقاء على سطح تشخيص وتفكيك لدلالات الأرقام والمعطيات الأوّلية دون أن توغّل أكثر في أسباب هذا التهاوي الكبير لحركة راهن عليها مليون ونصف تونسي بعد الثورة واعتبروها حاملة لآمالهم في تحويل شعارات الحراك الثوري إلى منجز على الأرض، كما راهنت عليها أيضا قوى إقليمية لتكون “قلب رحى” الجمهورية الثانية ومحور كل عملية سياسية.
إذا توغّلنا قليلا في التحليل دون تشفّ أو تحامل نقول أنّ حركة النهضة تتحمّل بقسط وافر مسؤولية هزائمها المتتالية والمتراكمة، كما تتحمّل أيضا المسؤولية السياسية والأخلاقية في التصويت العقابي للتونسيين يوم الأحد الذي ترجم عبر لفظ وكنس واضح لنظام المافيات واللّصوص وتجار الدين وهي التي كانت ركنا ركينا فيه ورافعة له. لقد كانت ومنذ 2011 هي الحزب الأكبر والأقوى ولم يحصل التوازن السياسي إلّا لسنوات قليلة مع حركة نداء تونس الذي ساهمت في تفتيته عبر اللّعب في بيته الداخلي وترغيب وغواية جناح على آخر أو ترهيب البعض عبر “نشّ ذبابها الأزرق” عليه (طبعا لا ننفي مسؤولية الجميع تقريبا في “نداء تونس” على تفتّت الحزب بدرجات متفاوتة وعلى رأسهم إبن الباجي وبطانته المقرّبة).
لعبت حركة النهضة منذ 2011 لوحدها تقريبا على السّاحة السياسية، التهمت المؤتمر من أجل الجمهورية، سحقت “التكتّل” ، أنهكت نداء تونس وتركت رئيسه (الباجي) معزولا ووحيدا في قصره، نفخت في “راس” يوسف الشاهد وزيّنت له أنّ بإمكانه أن يكون خليفة الرئيس في قرطاج فانقلب على الباجي وأسّس حزبا “مستنسخا” خرج من تحت عباءة الشيخ الغنوشي….لكلّ هذه الأسباب تتحمّل النهضة مسؤولية خياراتها واختياراتها التي حرّكتها “آلية التمكين” الحزبي فحسب دون نظر أو اكتراث للمسألة الوطنية، المهم هو أن تنفذ إلى مفاصل الدولة وأن تحوّل كلّ لاعب حزبي ومنافس سياسي مفترض إلى “شريك مروّض” وخادم لأجندات “مونبليزير”. هذا في مستوى التمشّي السياسي لحركة النهضة منذ 2011 والمنطق الذي حرّك تحالفاتها ومواقفها من شركائها السياسيين، أمّا في مستوى “الحصاد” أو المنجز الاقتصادي والاجتماعي على الأرض، فالنهضة اعتبرت (وهذا صحيح بنسبة هامّة) هي المسؤولة على سنوات التيه والاغتيال والعنف زمن الترويكا، مثلما هي مسؤولة أيضا على التدهور الاقتصادي وتردي الأوضاع الحياتية للمواطن التونسي بصفتها شريكا في الحكم بعد 2014، وبصفتها خاصّة “الحاكم” الفعلي و المتحكّم في القصبة بعد أن روّضت يوسف وتمسّكت به رغم فشله الواضح تحت تبرير واه وغير مقنع: “الاستقرار الحكومي” !
استقرّ في النهاية نسق انهيار النهضة من محطّة انتخابية إلى أخرى، وسقط في الأثناء يوسف حليفها الأخير، لتجد الحركة نفسها هذه المرّة في العراء وحيدة بلا مظلّة “حداثية وسطية معتدلة” كما تعوّدت وستجبر على الأرجح على إكراهات غير مسبوقة أو ربّما ستجد نفسها خارج الحكم أصلا وهي لعمري فرضية واردة جدا.
تقول المؤشّرات الأولى أنّ النهضة ستدفع ثمن خسارتها للرئاسيات وخاصّة ثمن خيار مجلس شوراها لمّا تعنّت وذهب في “مرشّح خاصّ بالنهضة”. ستكون التداعيات أكيدة على التشريعيات التي من المنتظر ألّا تتجاوز الحركة فيها وفي أقصى الحالات الاربعين مقعدا وذلك بالنّظر إلى حصيلة الرئاسيات وإلى التشتّت الكبير المنتظر في التشريعيات والتوزّع المتجدّد لخزّانها الانتخابي… حينها ستتحوّل النهضة بالضرورة في البرلمان الجديد إلى كتلة متساوية أو تكاد مع كتل أخرى صاعدة بانت ملامحها الأولى يوم الأحد…سيكون المأزق السياسي كما رجّح الكثير (العميد الصّادق بلعيد: انظر الحوار في العدد الأخير من الشارع المغاربي) وسيصبح تشكيل أغلبية مسألة عسيرة…مأزق سياسي منتظر وفرضية واردة تتحمّل النهضة أيضا جزءا كبيرا من المسؤولية فيه.
ملاحظة أخيرة عابرة ولكنّها شديدة الحساسية والخطورة على هامش تداعيات انهيار النهضة وخروجها من السّباق الرئاسي منذ الدور الأوّل هي تراجع الإسلام السياسي عموما وأفوله المنتظر ( إذا لم يغيّر في العمق من خطابه ومضامينه ويفكّ الارتباط فعليا مع الإيديولوجية الإخوانية) وطنيا وإقليميا…كان أفولا عاصفا وعنيفا في الخارج، أمّا في تونس فكان ومازال بطيئا ولكن “بالصندوق”…وتلك “مزيّة” تونسية لو يستفيد منها أصدقاؤنا النهضويون قبل فوات الآوان… !
صدر باسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير.