الشارع المغاربي – الوطنية‭ ‬الأولى‭ :‬حين‭ ‬تسقط‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار‭ ‬الرئيسيّة‭ ‬في‭ ‬التسلّل‭!‬

الوطنية‭ ‬الأولى‭ :‬حين‭ ‬تسقط‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار‭ ‬الرئيسيّة‭ ‬في‭ ‬التسلّل‭!‬

قسم الأخبار

26 فبراير، 2022

الشارع المغاربي-معز زيود: كانت نشرة الأخبار الرئيسيّة بالقناة الوطنيّة الأولى تتصدّر على امتداد سنوات سلّم البرامج الإخباريّة في تونس. وفي ظلّ الظروف الماديّة والسياسيّة التي عصفت بمنافسيها التقديديّين بعد الثورة، لم يكن متوقّعا أن يتراجع مستواها إلى درجة تمييع عناوينها الرئيسيّة وسقوطها في حالة من الإغماء. كيف ذلك؟!

تابعت مساء الأحد، على غير العادة، نشرة أخبار الثامنة باعتبارها حافظت سابقا ولسنوات بعد الثورة على حدّ أدنى من المصداقيّة والموضوعيّة، وحاولت تجنّب السقوط في أجندات هذا الطيف السياسي أو ذاك، رغم ما ارتكبته من هفوات وأخطاء مهنيّة بلغت أحيانا انتهاك أخلاقيّات المهنة. هذا الحدّ الأدنى أو ما قد يُسمّيه البعض بـ»السميغ» المهني أتاح لنشرة الأخبار الرئيسيّة في القناة الوطنيّة التحليق عاليًا. ويكفي الإشارة هنا إلى أنّ نسبة مشاهدة أخبار قناة «الجزيرة» القطريّة هوت بعيد الثورة إلى ما دون 1 بالمائة، باعتبار أنّ معظم التونسيّين المتعوّدين على مشاهدة الأخبار التلفزيّة قد تصالحوا مع قنواتهم التلفزيّة عموما وعادوا خصوصا إلى قناتهم الأمّ لمتابعة نشرة أخبارها الرئيسيّة، لا لأنّهم مكرهون على دفع إتاوة دوريّة لها ضمن فاتورة الكهرباء والغاز، وإنّما لأنّها تقيهم شرّ التلاعب السياسي المكشوف الذي تتعمّده تلك القناة الأجنبيّة أو القنوات التونسيّة الخاصّة التي ما انفكّت معظمها عن تغليب أجندات أصحابها أو الالتزام بما تُسطّره اللوبيات التي تموّلها وتحدّد خطّ تحريرها…

وعلى الرغم من غياب سياسة عموميّة للإعلام، على مرّ سنوات ما بعد الثورة، فإنّ هذا المرفق الإعلامي العمومي حاول بالجهود المجتمعة للفريق الصحفي العامل في قسم نشرة الأخبار الرئيسيّة تأمين الحدّ الأدنى من الموضوعيّة والتنوّع والتعدّديّة في المضامين الإعلاميّة التي ينتجها. ومن دلالات هذا التفوّق أنّه حدث في مناسبات عديدة أن اقتاتت بعض برامج الفرجة التي تبثّها فضائيّات خاصّة من فقرات بثّتها لأوّل مرّة نشرة الأخبار الرئيسيّة في القناة الوطنيّة.

لماذا نُغامر إذن بالحديث عن وقوع نشرة الأخبار الرئيسيّة، خلال هذه الفترة، في التسلّل؟

باختزال شديد، شكّلت متابعة نشرة الأخبار الرئيسيّة بالقناة الوطنيّة الأولى لمساء أمس الأوّل الأحد صدمة غير متوقّعة، بالنظر إلى هزالتها على مستوى المضامين والتبويب والترتيب. ويكفي أن نستعيد العناوين الرئيسيّة لنقف على ملامح ذلك:

1 – كرّاس الشروط الجديد المتعلّق بفتح رياض الأطفال يثير ردود فعل متباينة، ووزارة المرأة توضّح…

2 – تحيين المنظومة الجبائيّة وتبسيطها آليّة حيب الخبراء لإرساء الثقة بين المواطن والدولة…

3 – تصاعد شكاوى بحّارة ميناء طبلبة بالمنستير من تردّي البنية التحتية وتباطؤ مشروع توسعة الميناء…

هذه هي بالضبط مجمل العناوين الرئيسيّة للنشرة التي الأخبار وفق هذا الترتيب في بداية نشرة الثامنة مساء ونهايتها. وهي في مجملها مواضيع يتداخل فيها الجانبان الاجتماعي والاقتصادي. ويعني ذلك أنّ النشرة أهملت كليّا الجانب السياسي، في زمن تشهد فيه البلاد أزمة سياسيّة حادّة يكتنفها جمود خانق.

وللتوضيح فإنّني لم أحاول عند اختيار كتابة هذه المقالة جمع معلومات، من السهل جدّا الحصول عليها، عن الفريق الصحفي العامل بشريط الثامنة أو عمّن يُشرف حاليّا على رئاسة تحرير قسم الأخبار ورئيس تحرير النشرة. فمن المرجّح أن يكون بعضهم زملاء دراسة بمعهد الصحافة أو من طلبتي السابقين. ولذا فإنّ النهج الوحيد الذي اتّبعته هو مشاهدة النشرة، ثمّ محاولة تقويمها مهنيّا، وذلك تجنّبًا للتشخيص.

سهو وتمييع أم تجاهل؟

لا ريب طبعا أنّ الإشارة إلى أنّ نشرة الأخبار الرئيسيّة قد سقطت في التسلّل لا يعني انتزاع الأهميّة عن مواضيعها الرئيسيّة مثل إعادة تنظيم مجال رياض الأطفال من أجل الحدّ من الفضاءات الفوضويّة والبرامج الدخيلة أو تحيين المنظومة الجبائية أو ما أدّى إليه الإبطاء في توسعة ميناء طبلبة بولاية المنستير من أضرار بمراكب الصيّادة. ومع ذلك فإنّ هذه المواضيع دون استثناء لا ترتقي لتصعيدها مجتمعةً إلى عناوين نشرة رئيسيّة. وهي كما هو معلوم نشرة وطنيّة جامعة وليست نشرة بعد الظهر أو نشرة أخبار جهويّة أو نشرة ضمن برنامج اجتماعي أو اقتصادي أو نشرة مختصّة في مشاكل الطفولة، حتّى يتمّ تهميش الجوانب السياسيّة وتجاهلها تماما.

والأكثر من ذلك فقد تضمّنت هذه النشرة بمفردها ثلاثة ريبورتاجات تهتمّ بالأطفال، وهي موضوع رياض الأطفال، وموضوع يتعلّق بالأنشطة الرياضيّة الموجّهة إلى الأطفال، وخصوصا الأكاديميات الرياضيّة التي لا تزال مسألة نخبويّة، فضلا عن موضوع آخر يتعلّق بتغطية عرض مسرحي للأطفال قدّمته إحدى الجمعيّات. والحال أنّه قد تمضي أسابيع وربّما أشهر لا تتطرّق النشرة خلالها للطفولة. إذن يبدو أنّ هناك مشكلا يتعلّق باختيار المواضيع، وعلى الأرجح أنّ قرار الاشتغال على مواضيع النشرة يتمّ بشكل متسرّع ودون مناقشة مدى أهميّتها وضرورة أن تتسم بالتوازن والتنوّع بين محاورها وتوزيع المواضيع المتشابهة زمنيّا على نشرات مختلفة.

المشكل لا يقف عند هذا الحدّ، فبصرف النظر عن توجّهات القائمين عن النشرة ومدى التزامهم بالنزاهة، فإنّ إفراغ النشرة الرئيسيّة للأخبار من أي موضوع سياسي لا يمكن أن يُقرأ إلّا سيميائيّا إلّا لكونه خيارا مدروسا حتّى وإن كان أمرا غير مقصود. فلا يخفى أنّ أهمّ برنامج إخباري في البلاد لا ينبغي أن يُحسب على أنّه مجرّد عمل لهُواة، بل يجب أن يعكس رؤية إعلاميّة تتّسم بحدّ أدنى من الوضوح. وما دام الأمر يتعلّق بأهمّ مرفق للإعلام العمومي فإنّ قسم النشرة الرئيسيّة للأخبار ملزم بأن تكون له رؤية إعلاميّة وطنيّة شاملة، دون أن يعني ذلك المسّ باستقلاليّة خطّ تحريرها.

وقد يذهب بعض المتحذلقين إلى أنّ نشرة مساء الأحد تكون عادة نشرة إخباريّة خفيفة، كما أنّه ليس هناك أنشطة سياسيّة مكثّفة خلال عطلة نهاية الأسبوع. والحقيقة أنّه لا يمكن قبول مثل هذا الطرح إلّا في البرامج المشهديّة المتخصّصة في ترويج مختلف ضروب التفاهة التي تكتنز بها معظم الفضائيات التونسيّة الخاصّة.

فقدان البوصلة

والمعلوم أنّ قسم الأخبار المحترف عادة ما يكون له بنك للمواضيع التي يمكن إنجازها على امتداد الأسبوع. كما أنّ وجود مجلس تحرير دوري، يمكنه الاجتماع كلّما تطلّبت الضرورة كفيل بأن يرتقي بجودة مضامين النشرة الرئيسيّة. فمن غير المعقول مثلا أن تُهمل نشرة الأخبار طرح موضوع «حصيلة» زيارة رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد إلى بروكسيل سياسيّا ودبلوماسيّا واقتصاديّا، وذلك بعيدا عن نهج الدعاية. كما كان بإمكان النشرة ألّا تؤجّل الحديث عن توجّهات اتحاد الشغل ما بعد المؤتمر الأخير، بشرط تجنّب السقوط في تلميع هذه الجهة أو التي تعارضها. وفي يوم غالبا ما يجتمع التونسيّون في بيوتهم، كان من الممكن أيضا أن تنقل نشرة الأخبار المذكورة عبر مراسليها في بعض جهات البلاد شهادات من أسواق العديد من المدن التونسيّة عن المواد الاستهلاكيّة المفقودة أو عن الأسعار المتداولة يومها لبعض المواد الرئيسيّة. فالأهم أن تنقل نشرة الأخبار الرئيسيّة نبض الشارع التونسي في مجالات تهمّ معيشه اليومي.

أمّا الموضوع الأخطر الذي غاب تماما عن النشرة، فيكمن في تجاهل ما انتشر يومها بشكل هائل في الميديا الاجتماعيّة وفي الصفحات التونسيّة بشبكة «فيسبوك» تحديدا في ظرف ساعات. ويتعلّق بما تلفّظ به رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أثناء تأبينه في تطاوين فرحات العبار عضو مجلس شورى الحركة والمدير السابق بمكتب قناة «الجزيرة» القطريّة بتونس. فقد وصف الغنوشي القيادي النهضوي الراحل بقوله حرفيّا: «هذا الرجل ربّنا حط في قلبه من الشجاعة أنّه لا يخشى لا حاكما ولا طاغوت». وكما هو معلوم فإنّ مصطلح «طاغوت» هذا معروفة دلالاته، ويعني تحديدا (لدى جماعة السلفيّة الجهاديّة باعتبارها الأكثر استخداما له) الحاكم الكافر الذي طغى وتجبّر ولم يعد يعمل بما أنزل الله. وبذلك فإنّ توصيف الحاكم بـ»الطاغوت» يعني تكفيره وهدر دمه والدعوة ضمنيا إلى قتله وقتل أعوانه العصاة المؤتمرين بأمره. والواضح أنّ تلفّظ الغنوشي بهذه الكلمة الخطيرة ليس مجرّد زلّة لسان بقدر ما هو نطق بما يختمر بتلابيب ذهنه إزاء حاكم تونس الأوحد اليوم الرئيس قيس سعيّد. وأمام خطورة هذا الطرح الذي لا يمكن اختزاله في أسطر، كان من الأولى طرحه في النشرة الرئيسيّة للأخبار، ولو من باب عدم التفويت في أهمّ ما قيل في الساحة التونسيّة يومها، وذلك عبر استضافة خبير مختّص في معجم الجماعات السلفيّة أو على الأقلّ نقل الخبر وبثّ فيديو الواقعة المنتشر كالنار في الهشيم.

بدت النشرة الرئيسيّة للأخبار بالقناة الوطنيّة الأولى إذن فاقدة لأيّ طعم أو رائحة، لتذكّرنا بما كانت عليه قبل عام 2011. وأمام حالة الارتباك التي تردّت إليها يبدو من الضرورة أن تعمل على استعادة توازنها بعد أن فقدت البوصلة التي يُفترض أن توجّهها وتُنير لها طريق إعلام مهني تعدّدي ونزيه يحمل رؤية تقدّميّة جديرة بتونس وشعبها، في ظلّ استمرار غياب أدنى جهد للدولة في اعتماد سياسة عموميّة للإعلام تسنده دون أن تمسّ من حريّته وجوهر مهامه.

نُشر بصحيفة “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم الثلاثاء 22 فيفري 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING