الشارع المغاربي : انتهت هذا الأسبوع، بمقتضى القانون الانتخابي، عمليّات سبر الآراء “المعلنة” في تونس. ومع ذلك فقد تركت ندوبها في المسار الانتخابي، من جرّاء انخراط أصحاب تلك المؤسّسات في المناورات السياسيّة السائدة بهدف التأثير في توجّهات الرأي العام التونسي…
قضت الهيئة الوقتيّة لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين، مؤخرا، بالصبغة الدستوريّة للتعديلات المدخلة على القانون الانتخابي. وبصرف النظر عن المؤاخذات التي يوجّهها البعض إلى مضامين تلك التعديلات، فإنّ نتائج عمليّات سبر الآراء المعلنة منذ نحو أسبوع بشأن نوايا التصويت في الانتخابات المقبلة قد غرقت مجدّدًا في متاهة مناصرة أجندات سياسيّة على حساب أخرى. وهو ما جعل من المؤسّسات المُنتجة لاستطلاعات الرأي بمثابة فاعلين سياسيّين ينخرطون في رهانات معيّنة ويحاولون خدمة مصالح بعينها، دون مبالاة بخطورة التلاعب بآراء التونسيّين وتوجّهاتهم…
تباين وتلاعب!
صدر، خلال الأسبوع الماضي، استطلاعا رأي تطرّقا إلى مختلف الاهتمامات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة للتونسيّين، لكنّ نتائج الاستطلاعيْن أبرزت التباين العميق في ما يخصّ نوايا التصويت لدى الناخبين التونسيّين في الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة المقبلة. أنجزت مؤسّسة “سيغما كونساي”سبر الآراء الأوّل، في حين أجرت استطلاع الرأي الثاني مؤسّسة “بنشمارك كونسيلتينغ”. وقد كان من المنتظر طبعًا أن نُعاين النسق التصاعدي نفسه في سبر آراء شركة حسن الزرقوني، وذلك امتدادا لنتائج استطلاعها الصادم المنشور الشهر الماضي. فقد زالت اليوم رجّة المفاجأة بعد بداية اتّضاح الرؤيا بشأن الخلفيّات والمنهج الرامي إلى محاولة التأثير في التوجّهات المستقبليّة للناخبين. لم يكن مستبعدا إذن أن تُنصّب “سيغما كونساي” صاحب قناة “نسمة” نبيل القروي على رأي نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة بنسبة 23 بالمائة، ليليه في الترتيب المُدرّس الجامعي قيس سعيّد بنسبة 20 بالمائة، ثمّ رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي بنسبة 12 بالمائة. ولم يكن غريبا كذلك أن يُدفع رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى المرتبة الرابعة بنسبة 7 بالمائة، أي لينال أقلّ من ثُلث نسبة التصويت لباعث القناة!.
هذا الترتيب الزرقوني لم يكن له أدنى أثر في نتائج سبر الآراء الذي أنجزته مؤسّسة “بنشمارك كونسيلتينغ”، علمًا أنّها تُقدَّم على أنّها فرع من وكالة استشارات عالميّة ذات منشأ أمريكي، ولها موقع إلكتروني يبدو الأفضل فنيّا بالمقارنة مع المواقع الإلكترونيّة البدائيّة لسائر مؤسّسات سبر الآراء والاستشارات المماثلة في تونس. سبر آراء “بنشمارك” أسقط نبيل القروي إلى المرتبة الرابعة بنسبة لا تزيد عن 8.5 بالمائة، أي تقريبا ثلث نوايا التصويت الذي منحته إيّاه “سيغما كونساي”. وقد تدحرج هذه المرّة إلى ما دون عدوّه الشاهد اللدود الذي سبقه محتلّا المرتبة الثالثة بنسبة 9.4 من نوايا التصويت، في حين آلت المرتبة الأولى لقيس سعيّد والثانية لعبير موسي. كيف يمكن إذن للشخص نفسه أن يتصاعد أو يتهاوى بقرابة 15 بالمائة من نوايا التصويت وخلال الفترة ذاتها لإجراء الاستطلاع؟!. وماذا يمكن أن نفهم من هذا التباين الصاروخي بين استطلاعي الرأي سوى وجود كمٍّ من التلاعب لا يُقدّر ولا يرقى حتّى لنعتبره من قبيل الأخطاء المنهجيّة للعيّنة الاحتماليّة، والحال أنّ نسبة الخطأ التي تصرّح بها كلا المؤسّستين لا تتجاوز 2 أو 3 بالمائة على الأقصى؟!.
شكّل هذا التضارب العميق السمة نفسها لنسب نوايا التصويت المتعلّقة بالانتخابات التشريعيّة المقبلة، بل وأكثر!. فقد واصلت شركة الزرقوني تصعيد حزب نبيل القروي “قلب تونس” إلى أعلى السلّم بنسبة 29 بالمائة من نوايا التصويت. يأتي هذا الانفجار الساحق لنوايا التصويت بعد أيّام معدودة من إعلان اسم حزب القروي، وكأنّها فترة كافية لتعرّف ثلث التونسيّين عليه، ثمّ التحوّل بقدرة قادر إلى أنصار أوفياء، حتّى بلغوا تقريبا ضعف نسبة نوايا التصويت لدى أنصار حركة النهضة المعروفين بدرجة من الانضباط والطاعة لا تُضاهى…
في المقابل تسّاقط حزب “قلب تونس” بالضربة القاضية في استطلاع الرأي الذي قامت به شركة “بنشمارك”، فقد تهاوى من نسبة 29 بالمائة لدى استطلاع الزرقوني إلى “صفر” بالمائة من نوايا التصويت عند “بنشمارك”. ويبدو أنّ كثرة المناورات والمشاغل السياسيّة للبعض قد حالت دون التفطّن لقرب الإعلان عن نتائج هذا الاستطلاع. ولو لم يُنشر بعد فوات الأوان لكان من المحتمل أن نعثر على أثر “قلب تونس” في مخطوطات “بنشمارك”، ونُعاين بعض خطوات قلب الأسد في استطلاعها!.
دور شائك!
لا يخفى أنّ لوسائل الإعلام التونسيّة دورا محوريّا في تلميع صورة مؤسّسات سبر الآراء لاعتبارات وأسباب عدّة. فمن جهة ينبغي الاعتراف بأنّ هناك إعلاميّين “بارزين” يفتقدون القدرة المنهجيّة على تحليل نتائج عمليّات سبر الآراء تحليلا موضوعيّا. فتراهم ينزعون إلى التعامل معها بشكل انطباعي صرفٍ يخلو من أيّة مساءلة نقديّة، وكأنّها أرقام وإحصائيّات منزّلة من السماء ولا ترقى تفاصيلها مهما كانت صادمة إلى الشكّ مطلقا. ومن جهة ثانية، فإنّ معظم وسائل الإعلام التونسيّة تتسابق إلى نشر كلّ ما تراه مثيرًا وقادرًا على شدّ انتباه الجمهور. وليس ذلك بغريب، لكنّه يُعدّ أداء يتأثّر بالإستراتيجيات التسويقيّة والتجاريّة للقنوات أو الإذاعات الأكثر مشاهدة واستماعا. ومن ثمّة يسقط في ممارسة إعلاميّة تبدو أقرب إلى الدعاية سواء كانت عن قصد أو غير قصد. أمّا الأخطر من كلّ ذلك، فيتمثّل في انخراط بعض وسائل الإعلام في أجندة غير معلنة لمناصرة شقّ سياسي بعينه أو للدفاع عن مصالح فئويّة أو زبونيّة مّا…
ومن ثمّة تنزع تلك المؤسّسات إلى استخدام استطلاعات الرأي لتشكيل واقع جديد يتوافق مع أجنداتها ومصالحها. وهو ما يُسمّيه عالم الاجتماع الفرنسي الراحل “بيير بورديو” بنظريّة “النظّارات” التي تستخدمها وسائل الإعلام حتّى تفرض على جمهورها النظر إلى الواقع من خلالها، بعد أن تعمد إلى الانتقاء لبناء واقع معيّن. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تقديم تمثلات مفتعلة للواقع يتمّ تصوّرها واستبطانها بشكل مسبق عبر تحديد ما هو مهمّ وما هو أقلّ أهميّة أو يخلو من الأهميّة أصلا. وليس بسرّ الإشارة إلى أنّ الزبونيّة والمصالح المتبادلة تحكم العلاقات القائمة بين أصحاب شركات سبر الأراء وبعض وسائل الإعلام. ويتعلّق المثال الأكثر وضوحا بصاحب شركة “سيغما كونساي” حسن الزرقوني الذي “ينشط” بشكل دوري على امتداد سنوات في قناة “الحوار التونسي” بصفة “محلّل” أو “كرونيكور”. وفي الآن ذاته لا يتحرّج إطلاقا من مسألة “تضارب المصالح” عند إنجاز شركته الخاصّة عمليّات قياس نسب المشاهدة التي تتصدّرها تلك القناة. وطبعا فإنّ القبول بمثل هذه الدرجة القصوى من تضارب المصالح في قياس متابعة الجمهور لوسائل الإعلام يُفسّر كذلك بوضوح مدى الاستعداد لاعتماد الممارسات ذاتها إزاء دراسات سبر الآراء، وخصوصا حيال من يطلب إنجتزها، لا فقط من يتولّى نشرها أو بثّها.
ومن الأهميّة الوقوف على الصبغة القانونيّة لمؤسّسات سبر الآراء في تونس. فهي شركات غايتها الأساسيّة تحقيق الربح المادّي. وفي ظلّ عدم سنّ نصوص تشريعيّة لتنظيم عملها وتحديد شروط ممارستها وغياب هياكل مكلّفة بمراقبة أدائها المهني، فإنّها قد نزعت إلى اختزال نشاطها المهمّ في البعد التجاري المحض، وفق قاعدة العرض والطلب. وهو ما يجعلها لا تُبالي غالبا بخطورة دورها في توجيه الرأي العام. فهي لا ترى نفسها سوى مؤسّسات استشارات وعلاقات عامّة لا “وكالات” و”معاهد” لسبر الآراء. وفي هذا الصدد قد يجهل الكثيرون أنّ مصطلح “العلاقات العامّة” هو مرادف حرفي لمصطلح “بروباغندا” الذي نحته خبير الدعاية الأمريكي من أصل نمساوي “إدوارد بيرنايز” Edward Bernays في كتابه “البروباغندا: صناعة فكر الجمهور”، مُفسّرًا هذه التورية بأنّ النازيّين أعطوا معنى سلبيًا لمفهوم “الدعاية” ممّا دفعه إلى استبداله بمصطلح “العلاقات العامّة” الذي تُمارسه هذه المؤسّسات بشكل دؤوب…
منهاج السقوط
والمؤسف أنّ المشتغلين بترويج نتائج عمليّات سبر الآراء، ولاسيما من الإعلاميّين، لا يفقهون مدى تأثير ما يبثّونه ويُسوّقونه من إحصائيّات احتماليّة غير دقيقة في نوايا التصويت المستقبليّة لدى فئة المتردّدين أو من لم يُحدّدوا بعد قراراتهم الانتخابيّة. فمن المعلوم أنّ عوام النّاس غالبا ما ينزعون إلى تقليد ما يُصوّر لهم على أنّه يُمثّل رأي الأغلبيّة. ويعود ذلك سايكولوجيًا إلى رغبة الأقليّة المتردّدة في الاندماج في غمار الأغلبيّة المتجانسة والاحتماء بالجهة التي تبدو وكأنّها الأقوى أو تُسوّق دعائيّا على أنّها الأقدر على تحقيق انتظاراتها، وخصوصا في حال عدم الإحاطة بخلفيّات الصراع السياسي السائد والمصالح والأجندات التي تُحرّكها…
أظهرت شركات سبر الآراء في تونس إذن عداءها المعلن لتصاريف المنطق ونزاهة الأداء والمنهج. يتّضح ذلك من شدّة تناقض نتائج استطلاعات الرأي المنجزة في فترات شبه متزامنة، لكنّه ينبع خصوصًا من أخطائها المنهجيّة المتعمّدة التي تُفرز بالضرورة النتائج المدروسة المنتظرة. ينتجُ هذا التلاعب من مجرّد تعمّد اقتراح أسئلة دون غيرها، أو إدراجها في صيغ محدّدة وموجّهة، وذكر شخصيّات وتغييب أخرى، وإسقاط أسماء أحزاب على حساب غيرها، واعتماد ترتيب معيّن لهذه وتلك، وصياغة عيّنة لا تلتزم بمعايير تمثيل مجتمع الدراسة… كلّ ذلك وغيره يكشف أنّ لعبة الأجندات والمصالح هي الطاغية في هذه الممارسة المستحدثة في تونس، في ظلّ غياب أيّ رقيب أو حسيب من جرّاء امتناع الأغلبيّة البرلمانيّة عن سنّ قانون للغرض.
وبصرف النظر عن عمليات سبر الآراء، يبدو من الطبيعي أن ينحو التونسيّون إلى تصويت عقابي للشخصيّات والأحزاب التي خذلتهم وتنكّرت لمطالبهم خلال الانتخابات السابقة. ومع ذلك فإنّه من التجنّي تصوير الناخبين على أنّهم مجرّد قطيع مستعدّ للتصويت، في أيّ وقت، لحزب لم يمض شهر واحد على تأسيسه ولم ينظّم أيّ نشاط سياسي ذي بال باستثناء دفع عجلة التحيّل سواء عبر “الأنشطة الخيريّة” أو الزبونيّة المستشرية أو الدعاية والشعبويّة… لن يكون غريبًا إذن أن تنزع شركات سبر الآراء إلى تغيير تكتيكها مرحليّا، مُعوّلة على آفة النسيان لدى الجمهور. فقد يعصف تعديل القانون الانتخابي بأحلام بعض زبائنها، وتتحوّل إحصائياتها آنذاك إلى مجرّد وحي من خيال مفتعل. ولئن كانت تلك المؤسّسات مُلزمة قانونا بالكفّ عن نشر نتائج استطلاعاتها إلى غاية الإعلان عن نتائج الانتخابات، فإنّه لا شيء يوقفها حدّ الساعة عن خدمة أجنداتها بشتّى الطرق…
صدرت بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير.