الشارع المغاربي – تقرير محكمة المحاسبات: الزلزال ! /بقلم العميد الصادق بلعيد

تقرير محكمة المحاسبات: الزلزال ! /بقلم العميد الصادق بلعيد

قسم الأخبار

5 ديسمبر، 2020

الشارع المغاربي: لا شك انه كان لنشر التقرير السنوي لمحكمة المحاسبات (لسنة 2019) مفعول ‘الزلزلة’، ذلك الحدث العظيم الذي كان معظم النخبة السياسية وما يماثلها يتخوف منه خوف يوم الحساب ويتمنى الاّ يشهده، فيما كان معظم الشعب التونسي يترجاه أملا منه ان يرفع عنه ما تكدّس عليه من مفاسد ومظالم طيلة عشرات السنين…

في الحقيقة هذه المفاجأة ما كانت لتكون كذلك باعتبار ان القانون الأساسي لهذه المحكمة سنّ صراحة (الفصل 6)،مبدأ الدورية السنوية لإصداره في موعده،وهذا عُرف دأبت على احترامه محكمة المحاسبات بالخصوص، على خلاف أغلب الأسلاك القضائية الأخرى.

وإن من محاسن القانون الأساسي لمحكمة المحاسبات انه، عملا بأحكام الفصل 117 من الدستور، ميّز هذه الهيئة القضائية بالاختصاص الأوسع في كل ما يتعلق بالمال العمومي ومراقبة صرفه، ووهبها صلاحيات كبيرة مراقبة ومحاكمة وتنفيذا ولكن ما يلفت النظر في هذا التقرير السنوي بالذات هو القسم منه الذي خصص لنتائج الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية لسنة 2019، الذي سنتكلم عنه في هذه الورقة.

لنبدأ بملاحظة هامة حول ما كان يحصل في بلادنا في اغلب الأحيان خلال العمليات الانتخابية، بمختلف مستوياتها وفي مختلف ظروف تنظيمها: لقد كان الفساد الانتخابي هو الميزة الأغلب منذ السنوات الأولى للاستقلال: فما كان متداولا ومعروفا عند الجميع هو ان العملية الانتخابية، مهما كانت،كانت مزيفة وكانت نتائجها مزورة دون احتشام ودون أي تستر؛ وأقل ما نتج عن ذلك من نتائج سلبية هو عزوف الأغلبية من المواطنين عن المشاركة في الانتخابات، خصوصا، والاحجام عن النشاط السياسي، عموما.

وهذا أسهم بكل قوة في اندثار الثقة في المنظومة الديمقراطية بالبلاد. وإن المؤلم حقا في كل هذا هو الخيبة العميقة والشعور القوي بالاشمئزاز عند الأغلبية من المواطنين بعد ما تبين لهم ان الانتخابات الأولى التي نظمت إثر ‘الثورة’ الشعبية الأخيرة كانت لا تقل تزييفا ومغالطات عن سابقاتها. فالتصويت المسبق بحلويات ‘الشوكوطم’ وبأكباش الاضاحي والتبرعات الوافرة والسخية للكثير من المناسبات العرفية وغيرها، كل ذلك اقنع الكثير بأن ‘حليمة عادت الى عادتها القديمة’ وأن ‘ما بالطبع لا يتغير’ وان إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ‘لا غبار عليه’ قد يتطلب حقبة من الزمن تعادل ما سبقها من أولى الانتخابات ويتطلب بالخصوص الكثير من الجهود لإرجاع الثقة في نفوس الناس وتدريبهم على التعامل اللائق والأمين مع المنظومة الديمقراطية .

وهنا، لا مفر من الاعتراف بان مثل هذا التطور سيتطلب نفَسا طويلا ومثابرة مستدامة باعتبار ان ‘ثورة’ العشرية الحالية، بالرغم من إقحام المنظومة الديمقراطية وقواعدها ونواميسها في اعلى منظومتها الدستورية والتشريعية، لم تأت بما من شأنه أن يدخل الثقة والطمأنينة في القلوب، السبب فيه ان الفاعلين في الحقل السياسي، في اغلبيتهم الكبرى، لم يحترموا قواعد اللعبة بل انهم كانوا يستهزؤون بها وكأنها لعبة أو آلة يستعملونها لذرّ الغبار في الأعين ولمخادعة العديد من المتابعين للتجربة الديمقراطية التونسية الواعدة.

اضف الى ذلك ان الفاعلين السياسيين والأحزاب وغيرها من التجمعات الأكثر وزنا في البلاد لم يزيّفوا ويزوّروا العملية الانتخابية في السرّ والخفاء وباشتراك وحتى بتواطؤ العديد من المؤسسات فحسب، بل إنهم زيادة على ذلك، ارتاحوا الى انعدام كل نجاعة وكل فاعلية للقانون الانتخابي وغيره من التشريعات ذات الصلة واستهزؤوا بوهن العقوبات المالية والزجرية وبطول الإجراءات القضائية في حال تحريكها من السلط المعنية، واقتنعوا بأنهم في مأمن كامل من العقاب والزجر واطمأنوا للإفلات من ويلات التتبعات العدلية والجزائية.

إن أملنا الوطيد والصادق أن يقع تغيير كل ما ذكرنا أعلاه جراء نشر التقرير السنوي لمحكمة المحاسبات لسنة 2019. فبلا مبالغة، يمكن القول إن هذا التقرير قام بما يمكن ان نصفه بـ’قلب الطاولة’ على جميع الأفراد والمجموعات الذين اقترفوا العديد من الأخطاء والتجاوزات وارتكبوا العديد من الخروقات للقانون والجرائم الانتخابية بالخصوص في 2019؛ وكأن هذا التقرير أنبأ جميعهم بفتح باب كان مغلقا، لمحاسبة كل من اجرم وكأنه قيل لهم :”يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم” (سورة الحج، 22-1)؛ فإن القسم الأول من هذا التقرير المتعلق بنتائج مراقبة تمويل الحملة الانتخابية الرئاسية السابقة لأوانها والقسم الثاني منه والمتعلق بمراقبة نتائج مراقبة تمويل الانتخابات التشريعية لسنة 2019، رصدا بدقة كبيرة العديد من المخالفات الجسيمة للقانون وأشارا الى الأطراف التي ارتكبت كل تلك الخروقات والجرائم بالدقة التي تسمح بتشخيص أصحابها، فلم يبق أي شك في التعرّف عليهم وفي فتح السبيل امام النيابة العمومية للقيام بالإجراءات القانونية في شأنهم. في تقديرنا المتواضع، إن ما ذكرنا آنفا يمثل حدثا جديدا باعتبار انه سيفتح الباب لأول مرة لمحاسبة من يستحق المحاسبة وبأن لا علوُية على القانون في “دولة القانون والمؤسسات”.

كذلك هو حدث ‘ثوري’ باعتبار ان ما جاء في التقرير ينذر كل من سيقع تحت طائلة القانون بأنه لن يجد مأمنا من العقاب مهما كانت وسائل التهرب منه ومهما كان التحصن الجزائي الوارد في الدستور لصالح نواب الشعب… فكما قال القاضي محمد العيادي:”إن احكاما قضائية ستصدر خلال الايام القليلة القادمة تبعا لنتائج تقرير محكمة المحاسبات حول الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 وان الاحكام المنتظرة ستغير المشهد السياسي … بفقدان عديد النواب صفتهم داخل البرلمان طبقا للفصل 163 من القانون الانتخابي، وان البعض سيحرم من الترشح مستقبلا للانتخابات الرئاسية والتشريعية الموالية…”. وكأني بالحجاج بن يوسف يصرخ: “إنني لأرى رؤوسا قد اينعت وحان قطافها…”.

وخلافا لما حصل في الماضي الذي لمّح له التقرير بكل حسرة، لن تكون للجهات المعنية إمكانية اللجوء الى الصمت والى عدم الاكتراث المعهود عندها للتهرب من المسؤوليات الذي دأبت عليه في المناسبات الفارطة؛ بل عليها ان تتحمل كامل مسؤولياتها، وعلى كل منها الا يتغافل عن أداء واجبه كاملا.

إن الطابع الثوري لتقرير محكمة المحاسبات لا يجب ان ينحصر في تقديري تأثيره الحقيقي على من هو تحت سلطتها العقابية فقط،، بل ان مفعوله لا محالة، سيتوسع الى المجالات العديدة التي تتطلب المراقبة والتقييم والمساءلة وتسليط العقاب على كل من يستحقه سلوكه.

وفي الحقيقة، هناك أمران لا يمكن التهرب منهما: الأول هو انه على كل السلط الحكومية المعنية، من مشرّعين وقضاة ومنفذين واداريين وغير ذلك، وجميع الأطراف المعنية بالسياسة بمختلف مقارباتها لذلك النشاط، أن يستخلصوا العبرة العميقة الناتجة عن هذا التقرير وان يكفوا عن التملص من مسؤولياتهم مثلما كانوا يفعلون في الماضي، بل عليهم ان يقوموا بعملية المحاسبة والمراجعة التي اعلن الكثير منهم عن القيام بها ولم يفعلوا، بل انهم واظبوا على السلوك المغلوط الذي اعتادوا عليه.

والأمر الثاني يتعلق بالمفعول المرتقب والحتمي لتقرير محكمة المحاسبات، الذي يمكن ان يشبّه بمثال “الكرة الثلجية” التي حالما تتحرك وتنزل تتضخم بصورة مهولة وبلا إمكان تعطيلها؛ وفي الحقيقة، إنه لا مناص من التفكير في هذا التشبيه، فلا هروب من المحاسبة، بل إن رقعة تأثير التقرير ستتوسع الى العديد من المجالات، تشريعية كانت او قضائية او تنفيذية او إدارية، عمومية او خصوصية… ويومها يمكن حقا التحدث عن جدارة عن “الثورة التونسية الحقيقية والواعدة”.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING