الشارع المغاربي – حروب الخنادق...تُهدّد كيان الدولة/ بقلم: جمال الدين العويديدي

حروب الخنادق…تُهدّد كيان الدولة/ بقلم: جمال الدين العويديدي

قسم الأخبار

4 يونيو، 2021

الشارع المغاربي: حرب الخنادق “La guerre des tranchées” هي شكل من أشكال الحرب يعتمد من خلالها الخصوم اللجوء إلى مواقع مُحصّنة تُوفّر لهم الحماية من الأسلحة الصغيرة والوقاية بحد أكبر من الأسلحة الثقيلة. 

لقد أصبح مُصطلح حرب الخنادق مُرادفا للجُمود والاستنزاف وانعدام الجدوى أثناء النزاعات ناهيك عن نتائجها الكارثية والعقيمة على البلدان وعلى الشعوب في آخر المطاف.

ما يجري في تونس سياسيا واقتصاديا منذ انتخابات سنة 2014 وخاصة ما تجلّى بوضوح بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019 يتطابق تماما مع هذا المُصطلح.

الحرب المفتوحة التي جرت بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة في عهد الرئيس الراحل والتي تجري بين الرئاسات الثلاث منذ سنتين تقريبا تُبين مدى انزلاق البلاد في حرب استنزاف لا فائدة ولا طائل منها. حيث بات واضحا أن مشاغل الشعب الصحية والمعيشية والبطالة المتفشية بين الشباب وتدمير المؤسسات وانهيار الدينار وإفلاس البلاد ليست من أولويات المسؤولين السياسيين الحاليين.  

لقد تحصنت رئاسة الجمهورية بقصر قرطاج وباتت تناور تارة بالتهديدات والتلميحات تحت عناوين متعددة منها مقاومة الفساد وطورا بالحديث عن الرشق بالصواريخ بمعنى التلويح بتطبيق ما يتيحه الدستور من فصول تُمكّن من حل المجلس لإزاحة الطرف المقابل.

فيما تحصن الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية بمجلس نواب الشعب بباردو وجعل منه قلعة الدفاع والهجوم مستعملا التحالفات الحزبية المُتوفرة والهجمات المكثفة سعيا لإرباك الطرف المعادي. وقد وصل الأمر إلى مزيد التصعيد خاصة بعد التسريبات الأخيرة التي تعهد بها القضاء العسكري.  

وبين الطرفين، تمركزت رئاسة الحكومة بقصر القصبة واعتمدت سياسة بهلوانية “acrobatique” سعيا لشق طريق بين الطرفين يُمكّنها من ضمان استمرارية لتثبيت موطئ قدم للدخول في الحلبة السياسية. 

في الأثناء كيان الدولة التونسية يتلاشى يوما بعد يوم

هذه الحرب “العبثية” عمقت تفكيك عرى الوحدة الوطنية وأحبطت غالبية الشعب التونسي. مما أدى إلى تعميق الفساد الذي طال كل مفاصل الدولة وجعل من سوء التصرف سمة أساسية أوصلت البلاد إلى حالة إفلاس نتيجة التداين المفرط والتخلي عن السياسات الرشيدة المنتجة للثروة. 

الخطير في هذا الأمر هو أن هذه الحرب فتحت المجال للمجموعات الكبرى المحلية لإحكام قبضتها على مفاصل الاقتصاد الوطني وتأبيد منوال تنموي يعتمد التوريد الفاحش والربح السريع. هذه المجموعات أصبحت لها اليد الطولى لفرض إرادتها على كل الحكومات. 

الأخطر أيضا هو أن هذه الحروب القائمة بين رموز السلطة فتحت المجال للتدخل الأجنبي غربا وشرقا للنيل من سيادة الدولة التونسية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. خاصة في ظرف جائحة عالمية وفي وضع انهيار كامل للاقتصاد الوطني الذي تم استدراجنا إليه منذ قمة دوفيل في ماي 2011 عبر تدخل المؤسسات المالية العالمية. 

اليوم اشتدت الضغوطات على الحكومة الحالية. حيث بادر الاتحاد الأوروبي بالمطالبة بفتح المفاوضات من أجل التوقيع على اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” رغم المعارضة الحادة لهذا المشروع الخطير التي أطلقتها القوى الوطنية في السنوات الأخيرة.   

ما يُطرح على تونس وهي في حالة إفلاس هو فتح قطاعاتها الفلاحية والخدماتية للمنافسة مع مجموعة تعتبر من أعتى الدول المتقدمة في العالم. والحال أن الاقتصاد الوطني عرف جمودا متواصلا بين سنة 2011 و2019 وانتقل إلى انكماش حاد بنسبة -8,8 بالمائة سنة 2020. وما زال على تلك الحالة في الثلاثي الأول لسنة 2021 حيث سجل نسبة انكماش بنسبة %3,1 حسب الإحصائيات الرسمية. في وقت بدأ فيه الاقتصاد العالمي بالتعافي. هذا علاوة عن رفع الدعم وخوصصة المؤسسات العمومية والضغط على كلفة الأجور.

ما يزيد في تعقيد هذا الوضع العصيب هو ما يمكن أن تتعرض له البلاد من ضغوطات سياسية خطيرة خاصة منها تلك المتعلقة بالدفع نحو التطبيع مع الكيان الغاصب في فلسطين المحتلة.

وقد شاءت الاقدار أن تتنزّل كل هذه الضغوطات في ظروف اجتماعية مُتفجرة لا تسمح للأطراف الحاكمة الإقدام على تلبيتها بسهولة ليقينها أن الكلفة سوف تكون عالية وخطيرة.  

حرب الخنادق في تونس طالت أيضا مؤسسات الدولة وفي مقدمتها ما يجري بين البنك المركزي التونسي ورئاسة الحكومة من تجاذبات مصيرية. حيث تمترس الأول “باستقلالية البنك” مُتحصّنا بالدعم الداخلي والخارجي. مما جعل البنك المركزي خارج الخدمة لصالح الاقتصاد الوطني.  وتشبث بدوره في تنفيذ السياسة النقدية التي دمّرت المؤسسات الوطنية وأثقلت كاهل المواطن بنسبة فائدة مُشطّة بدعوى مقاومة التضخم. في الوقت أن التضخم سببه الأساسي انهيار قيمة الدينار الذي دفع البلاد إلى ما يُسمى “بالتضخم المستورد” الذي أوصد كل الأبواب أمام عودة الاستثمار الوطني في القطاعات المنتجة وكبّل المؤسسات الوطنية وأغرقها في ديون لم يعد من الممكن الخروج منها إلا عبر إجراءات استثنائية. وهو ما يؤشر إلى مزيد استفحال حالة البطالة والفقر والتهميش في البلاد ومزيد تفشي ظاهرة الهجرة السرية الاضطرارية والانتحارية.                     

 حول موضوع استقلالية البنوك المركزية ودورها في كبح التضخم، بينت الدراسات المقاربة أنه لا توجد نتائج ثابتة لهذه العلاقة. حيث تبين أن البنك المركزي الياباني الذي يعمل مباشرة تحت سلطة الحكومة نجح في مقاومة التضخم بطريقة أفضل من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي يتمتع بالاستقلالية التامة. كما أن المقارنة مع ألمانيا بينت كذلك الأفضلية لليابان.

أمام هذا الوضع الذي يهدد كيان الدولة لم يبق لكل الأطراف المعنية إلا حلين: إما إعلان الهدنة التامة والمباشرة التي تستوجب مصارحة الشعب التونسي بالمؤشرات الحقيقية للاقتصاد الوطني. واتخاذ الإجراءات الاستثنائية وفي مقدمتها إعلان حالة عدم القدرة على تحمل عبء المديونية الخارجية والمطالبة بجدولة الديون بالنظر لانعدام وجود نمو قادر على خلق الثروة. كما يجب المبادرة بإلغاء قانون البنك المركزي الصادر في سنتي 2006 و 2016 لتمكينه من تمويل مُخطّط وطني مُيسّر لدفع الإنتاج الوطني والتشغيل عبر التخفيض في نسبة الفائدة الرئيسية في حدود %2 فقط وتحديد نسبة فائدة للبنوك.

وأما في حالة التمسك بحرب الاستنزاف فسوف تكون النتائج كارثية للجميع. لأن الجمود وانعدام الجدوى والتراشق العبثي في وضع جائحة عالمية وغلاء المعيشة وتعطل مقومات النمو والتشغيل سوف يفتح الأبواب على مصراعيها للمغامرات والهزات الاجتماعية العنيفة. هكذا لأن الطبيعة تأبى الفراغ خاصة عندما تتهالك الشرعية والمشروعية.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 1 جوان 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING