الشارع المغاربي-لطفي النجار: أعطت عبير موسي اشارة انطلاق ما سمّتها بـ”ثورة التنوير” في يوم “الغضب” بالمنستير، وهو مصطلح طارئ على معجمية الثورة التونسية ومفهوم مبتكر (على الاقل بالنسبة للطبقة السياسية بعد 14 جانفي 2011). تطرح ثورة التنوير في صيغتها الخطابية اشكالات واستفهامات متعدّدة منها ما يتعلّق بسياقات الثورة التنويرية واشتراطاتها (وطنيا على الاقل ) ومنها ما يتعلق أيضا بصدقية السياسي لمّا يرفع شعارا عظيما في حجم التنوير والمقصود هنا مسألة التوظيف السياسي لِقِيَمٍ عُليا ومبادئ سامية بقصد التحشيد السياسي وكسب الانصار.
تقول عبير موسي في تحديد لأهداف ثورة التنوير كما تراها طبعا هي: “بناء دولة جمهورية ذات نظام جمهوري لإرساء دولة اجتماعية ذات سيادة وطنية ولا مكان فيها للاسلام السياسي”. وتضيف موسي: “تهدف ثورة التنوير الى ارساء نظام ديمقراطي تعدّدي يقوم على الفصل بين السلط والتوازن بينها ويلتزم بضمان الحريات الفردية والعامة وحقوق الانسان في كونيتها وترابطها وتحقيق الامن القومي الشامل”. يمكن لطالب عادي دارس لتاريخ الافكار أن يلاحظ أن تعريف عبير موسي لثورة التنوير واهدافها هو تعريف شعاراتي لا علاقة له بالتنوير كفلسفة ورؤية عرفتها اوروبا في القرن 18. فخطاب زعيمة الحزب الدستوري الحر لا يزيد عن الخطاب السياسي المجتر والمكرّر ممّا سمعناه منذ 2011 ممن يُسمّون بالعائلة الوسطية والحداثية ولكنّها (عبير) تزيد عن ذلك الخطاب السياسي المعروف بمفهومين جديدين: 1- ثورة التنوير و2- استئصال الاسلام السياسي.
ثورة تنوير أم سلفية بورقيبية
يُعرّف التنوير عادة بأنه حركة فكرية فلسفية في القرن 18 انطلقت مع كتاب الاصول الرياضية للفلسفة الطبيعية لاسحاق نيوتن وتحدد تاريخيا تقريبا ما بين وفاة لويس 14 في 1715 واندلاع الثورة الفرنسية 1789 وانتشرت قيم التنوير عبر الصالونات الادبية والكتب المطبوعة والصحف والمنشورات. والتنوير هو سيادة العقل واعلاء لشأنه الى جانب مثل عليا كالحرية والتقدم والتسامح والحكومة الدستورية وفصل الكنيسة عن الدولة. يعرّفه كانط مثلا في نص شهير عنوانه “ما هو التنوير؟” فيكتب سنة 1784 “ان التنوير هو خروج الانسان من مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن الرشد…” ويشير كانط في مقاله هذا الى ان قيم التنوير الاساسية هي الحرية الفردية والتسامح الديني مقابل الملكية المطلقة والعقائد الثابتة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية ويرى ان التعصّب الديني هو سبب الشرور والحروب المذهبية التي مزّقت اوروبا من خلال حرب الثلاثين عاما (1618 – 1648) التي جرت بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستاني. ويستنتج كانط ضرورة التخلي عن المفهوم القديم للدين وتبني مفهوم يندرج ضمن اطار العقل وعندئذ تحصل المصالحة التاريخية بين العلم والايمان او بين الفلسفة والدين.
أردنا أن نذكّر بالسياقات التاريخية لميلاد ونشأة مفهوم التنوير وهي سياقات ذات خصوصية اوروبية غربية في علاقتها خاصة بالكنيسة التي جثمت على صدور انسان العصور الوسطى في اوروبا ومنعت كل محاولة للنهضة او التحرر من سيطرتها ونفورها .. نقول هذا الكلام ثم نعود الى عبير موسي التي لم تحدد مفهوما واضحا ودقيقا لثورة التنوير بل جعلته شعارا مضادا للإسلام السياسي ووقودا ايديولوجيا فحسب لحربها المعلنة ضد الاخوان المسلمين. لا يكفي ان نرفع شعار التنوير او حتى ان نعلن اشارة انطلاق ثورة التنوير حتى تتحقق اهدافه .. التنوير هو تسامح ديني وهو ايضا اعادة نظر لحضور الدين في الفضاء العام وتحديد لمكانته في المجال التداولي العمومي.
ان ثورة التنوير قد انبثقت في المحيط الاوروبي والمقصود به تنوير القرون الوسطى المظلمة وهي حركة قد قطعت نهائيا مع قيم ومثل العصر الوسيط لتعود الى فلسفات الاغريق وتراثهم. هي حركة أحدثت ثورة في الفيزياء والرياضيات والعلوم الصحيحة كما غيّرت جذريا في نظرة الانسان الى الوجود والعالم والدين والجسد والفن ومجمل الرؤى الثقافية اذ كانت مراكمة فكرية وأدبية وفنية عظيمة امتدت لأجيال من المفكرين والعلماء الكبار. ولا نعتقد اننا اليوم في تونس وفي العالم العربي نمتلك شرطا واحدا من شروط النهضة والتنوير مثلما حصل في اوروبا. ورَفْعُ شعار ثورة التنوير هو استثمار سياسي يفسد قيم التنوير الاصيلة ولا يحقق اهدافها خاصة عندما يتم استثماره (شعار ثورة التنوير) في اشتباك سياسي وايديولوجي القصد منه استئصال الخصم والوصول الى الحكم والسلطة.
لا نعتقد ان زعيمة الحزب الدستوري الحر عبير موسي يمكن ان تكون داعية لثورة التنوير لأنها ليست بثائرة اولا وليست بتنويرية ثانيا. هي ليست بثورية وهذا توصيف وتشخيص وليس نقدا او انتقادا بمعنى انها اصلاحية لم تتجاوز لحظة بن علي ولم تبلغ لحظة بورقيبة. فبورقيبة كان ثائرا تنويريا في زمانه اذ غيّر في العمق نمط مجتمع تقليدي تونسي وشكّل مجتمعا حديثا عبر تحريره للنساء وتوحيده للقضاء وتعميمه للتعليم. أما عبير موسي فلم تكن سوى وفية فحسب لهذا الميراث البورقيبي التنويري وتنظر اليه نظرة السلفي الديني الى سلفه الصالح دون ان يبدع فيه أو يضيف إليه شيئا. لا يمكن لعبير ان تكون تنويرية وهي الرافضة للمساواة في الميراث هذا اضافة الى اننا لم نسمع لها قولا “تنويريا” يزيد عن الميراث البورقيبي، وما ترديد الشعارات السياسية من قبيل “بناء دولة جمهورية ذات نظام جمهوري لارساء دولة اجتماعية ذات سيادة وطنية…” قد لا يكون سوى سفسطة سياسية تتخفى خلف يافطة براقة سمتها عبير ثورة التنوير..
يحتاج التنوير حسب تقديرنا الى جهد وعلم ومعرفة تمتد لأجيال، والى رؤية تعيد النظر الى مكانة “الديني” والمقدس عامة في فضائنا العام، اذ لا يكفي ان نقول ونردد انه : “لا مكان للاسلام السياسي” حتى تتحقق اهداف التنوير. فالاسلام السياسي هو في النهاية نبْتُ هذه الارض وتعبير عن ازمة يعيشها الخطاب الديني ونحن في حاجة اكيدة الى تحقيق مصالحة بين العقل والايمان وبين الفلسفة والدين ووضع تمايزات وحدود دقيقة ومبتكرة بين السياسي والديني مثلما علّمنا الدرس الكانطي…
ولكن يبقى هذا الدرس الكانطي وفيا لسياقاته وعلينا الاستفادة منه عبر تدبّر وتفهّم أعمق لخصوصيتنا الحضارية ومساراتنا التاريخية… التنوير قادم لا محالة ولا يجب تشويهه او افساده او الحط منه وتوظيفه في معارك دونكيشوتية طاحنة لا تنتهي.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 ديسمبر 2020