الشارع المغاربي: عرفت حركة النهضة في الفترة الأخيرة استقالات متعددة آخرها حملت إمضاء 113 منتسبا. وبصرف النظر عن الأسباب التي سنعود إليها في ثنايا هذا المقال من الجدير أن نُذكّر بأن الحركة عرفت الطرد وعرفت كذلك الاستقالات ولكنها في الحالتين استرجعت المطرودين والمستقيلين إلا في مرات نادرة وبيان ذلك في ما يلي:
الطرد
أقدم عملة طرد وشهيرة أيضا هي التي حدثت في أواخر السبعينات من القرن الماضي. فبعد تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي واستفراد الغنوشي بالقرار فيها حاول البعض من المنتسبين افتكاك مكتب العاصمة الذي هو أكبر مكتب في الحركة وعمودها الفقري عن طريق عملية انقلابية أعدّ لها احميدة النيفر ولكن جرت الرياح بما لم تشته السفن إذ تفطن لها الغنوشي لأنه هو الآخر صاحب فكر انقلابي ومرّ بتجربة في حزب انقلابي بامتياز وهو البعث السوري. عندها أطرد المجموعة كاملة وأحال ملفها إلى عبد الفتاح مورو الذي ترأس لجنة لم تنه أشغالها لحد الآن. هذه الواقعة رواها الجورشي في نصّ عنوانه «لا تأخذوا التاريخ من ألسنة السياسيين» يقول فيه مُوَجها خطابه إلى مورو: «ولا أظنه قد نسي تلك الليلة المخزية التي وقع فيها حلّ مكتب العاصمة وتجميد عضوية المشرف عليها لا لشيء إلا لأن العاصمة حاولت أن تقود حركة إصلاح ومراجعة وتجديد في جسم إخواني يختنق»(1). ومن بين الأسماء التي شملها الطرد وشاركت في ما بعد في تأسيس ما سمي يسارا إسلاميا ومجلة 15/21 نجد بجانب احميدة صلاح الدين الجورشي ومحمد القوماني ولطفي الحاجي وغيرهم: تأملوا جيدا المواقع التي يحتلها هؤلاء هذه الأيام حيث عاد جميعهم إلى حضن الحركة وما بقي شيء من تلك الاعتراضات التي نشروها في مجلتهم 15/21 وفي بعض الكتيبات. فاحميدة مشارك أساسي في المؤتمر العاشر في لجنة الإعداد المضموني والجورشي هو المسوّغ ومبرر كلّ ما يصدر عن الحركة: يذكر الجميع أنه كان الصوت الأعلى في الدفاع عن اقتراح الغنوشي بضرورة عودة الإرهابيين إلى تونس لأن (اللحم الناتن ليه إماليه). أما محمد القوماني فقد ترأس لجنة الأزمة قبل الاستقالة منها هذه الأيام، وفي ما يتعلق بلطفي الحاجي فهو على رأس أكبر وأخطر مساند لحركة النهضة أعني قناة «الجزيرة» صاحبة السبق في نشر الأكاذيب لصالحها . أغلب الذين أطردوا عادوا اذن إلى الحركة خصوصا بعد أن تمكنت من الوصول إلى الحكم سنة 2011 باستثناء المرحوم صالح كركر الذي أوخذ على اعتراضه على الرسالة التي أُرسلت إلى الزعيم بورقيبة بعد موافقة الغنوشي على محتواها وعلى نشره مقالا في جريدة «الحياة» سنة 1998 نقد فيه الحركات الإسلامية فكان أن أُطرد من الحركة شرّ طردة بعد أن تعرض إلى حملة تشويه وقدح سبق للحركة أن صنعتها مع غيره كالمرحوم حسن الغضباني. وبعد وشاية اتهم فيها بالإرهاب وضعته الحكومة الفرنسية في الإقامة الجبرية إلى أن أصيب بسكتة دماغية حادّة، علما بأن أحد المساهمين في هذه العملية القذرة كان مسؤولا في حكومة الترويكا وفق ما ذكر الشيخ خميس الماجري(2) وكمال الحوكي(3). يقول الشيخ خميس في ذات الحديث: «جيء بكركر إلى المؤتمر ديكورا لأن الرجل مريض عاجز ليست له ذاكرة وقد جيء به رغما عن أسرته وكأنهم اختطفوه خطفا» جاؤوا به إلى المؤتمر التاسع وعيّنوه في مجلس الشورى ليتوفى بعد ثلاثة أشهر.
الاستقالة
شهدت حركة النهضة طوال النصف قرن من وجودها عددا كبيرا من الاستقالات منها ما أعلن عنه ومنها ما مرّ في صمت: اللافت للنظر أنها في أغلبها تنتهي بعودة المستقيل إلى حضن الحركة بعد مدّة قد تطول وقد تقصر بشرط أن لا يتحدّث عمّا هو داخلي، فحمادي الجبالي الأمين العام استقال لوحده وعاد في المؤتمر العاشر لوحده كذلك زبير الشهودي مدير مكتب الغنوشي استقال هو الآخر وعاد كسابقيه وغيرهما كثير هذا إذا استثنينا زياد العذاري الذي استقال وما زال جالسا على دكة الاحتياط إلى حدّ الساعة بحيث لم تمثل الاستقالات خطرا يمكن أن يهدّد الحركة في وجودها أو في وحدتها والسبب في ذلك يعود إلى أن حركة النهضة لا تُخْضِع مواقفها السياسية لعقيدتها بل تُخْضِع عقيدتها للاختيارات السياسية لرئيسها التي تتغير بتغير الأوضاع والظروف دون ضابط.
المستقيلون جميعهم إنما استقالوا بسبب اختلافهم مع بعض الخيارات السياسية وليس بسبب خروج الحركة عن الخط العقدي الذي صاغته في وثيقتها «الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة النهضة». وحده الشيخ خميس الماجري استقال لأن الغنوشي كما يقول: «ركّز كثيرا على العمل السياسي المُتفلت من التأصيل الشرعي»(4) مضيفا إلى ذلك قوله: «خَرَجْتُ من الحركة حين خرجوا هم عن المبادئ… لا وجود لحركة نهضة بل للغنوشي فقط هو الذي يحكم ويصدر الفتاوى باعتباره شيخ الحركة …. لا يحمل شهادة علمية في الفقه الإسلامي هو شيخ سياسي فقط»(5) وهو ما جرّ عليه غضب الحركة التي منعته من الإمامة وأرسلت إليه أعوانها الذين أنزلوه عنوة من المنبر في حادثة لا نظير لها وقدموا فيه قضايا دخل بسببها إلى السجن بتهمة مخالفة قانون المساجد. والذي يجب أن ننتبه إليه أن الحركات الإسلامية تسمح بالخلاف السياسي إلى حدود ولكنها لا تسمح بالخلاف العقدي لأنه يمسّ من وحدة الجماعة ويمهّد للقدح في بيعة المرشد، فإذا تجاوزنا الاستقالات الفردية وانتقلنا إلى الاستقالات الجماعية نجد أن الحركة عرفتها في مناسبتين:
الأولى: بعد جريمة باب سويقة حيث تهاطلت على الجرائد والمجلات استقالات المنتسبين للحركة وشملت حتى بعض القياديين الذين جمّدوا عضوياتهم فيها وشرعوا في تأسيس مبادرة جديدة. ومن الأسماء البارزة أيامها عبد الفتاح مورو ونور الدين البحيري وبن عيسى الدمني وصدقي العبيدي وفاضل البلدي وغيرهم. ولمّا شعر الغنوشي بخطورة ما يحصل وإمكانية تهديد قيادته للحركة دعا المنتسبين والمستقيلين إلى: «ألا ينسجوا على منوال مورو»(6) قاصدا بذلك المبادرة الجديدة. أما الاستقالة فهو يعلم جيدا أنها للتوقي من غضب السلطة بعد الجريمة لذا لم يتعرض لها ولا حثّ منتسبي حركته على التراجع عنها.
الثانية: بعد صدور التدابير الاستثنائية يوم 22 سبتمبر 2021 التي جمع فيها رئيس الجمهورية كل السلطات بيديه حماية للدولة من الانهيار والانفلات الجماعي الذي لا يمكن التحكم فيه، واللافت للنظر أن أصحاب هذه الاستقالات:
أـ نشروا استقالاتهم من الحركة بعد 3 أيام من نشر التدابير الاستثنائية وهو ما يعني أنهم تيقنوا من أن الحركة أصبحت في حكم الميت الذي لم يُلحد بعد لذا فضلوا إعلان الخروج منها خيارا منهم لا اضطرارا مستقبلا.
ب ـ شاركوا مشاركة فعالة في تنفيذ سياسات الحركة التي خطها رئيسها وهي سياسات متضاربة ومتناقضة عقدت فيها التحالفات اللامبدئية مع من اتهموهم سابقا بالفساد وبأنهم أخطر من السلفية. كما شاركوا مشاركة فعالة في التسفير والتستر على الإرهاب الذي اعتبره بعضهم فزاعة. هذا الموقف منهم غير أخلاقي لأن الغنوشي ما كان له أن يتصرف لو لم يجد طوع بنانه المستقيلين الذين نفذوا أوامره كاملة بحميّة وانضباط.
ج ـ بعض المستقيلين من قيادات الصفّ الأوّل تروج حولهم شكوك كبرى واتهامات فأحدهم (محمد بن سالم) متّهم بأنه حلّ سلك حراس الغابات وعوّضهم بجماعة العفو التشريعي العام ممّا سهل تمركز الإرهابيين في السهول والغابات. وقد صدر في ذلك حكم يثبت صحة الاتهام(7) وآخر متهم بالتصرف في هبات منحت تحت ستار التعويضات وثالث في التصرف في صندوق مقاومة جائحة كوفيد وتحويل مبالغه إلى اقتناء سيارات فارهة وغير ذلك وهو ما يعني أن بعض الممضين يتوهمون أنهم بإمضاءاتهم اليوم يشترون سلامتهم مستقبلا.
د ـ حصروا أسباب استقالتهم في بقاء الغنوشي في رئاسة الحركة واستحواذه على سلطتي القرار والمال فيها. واللافت للنظر أن هذه التعلة لم تظهر صراحة وعلنا إلا أثناء إعداد قائمات الانتخابات التشريعية حيث تصرف فيها الغنوشي كعادته ممّا أغضب الذين وقعت إزاحتهم لتكبر كرة الثلج وتنتقل إلى القدح في العائلة والمقربين منها الذين استحوذوا على منافع السلطة جميعها ولم يتركوا للبقية سوى الفتات وهو ما صرح به علنا محمد بن سالم وزبير الشهودي وحاتم بولبيار وغيرهم.
اللافت للنظر أن أصحاب الإمضاءات يختمون بيانهم بقولهم إنهم بما صنعوا أصبحوا: «متحررين من الإكراهات المكبلة التي أصبح يمثلها الانتماء لحزب حركة النهضة» ولكنهم لم يذكروا أيًّا من الإكراهات المتحدّث عنها ولا ذكروا لنا أسباب الإعلان عن استقالاتهم في هذا الوقت بالذات بل بقي خطابهم يدور حول راشد الغنوشي والحال أن ما هم فيه اليوم من هوان يعود إلى فشلهم الكامل في التوفيق بين مصالح العباد التي هي شأن عام ومقتضيات الإيمان التي هي شأن خاص حيث عملوا على تغليب إيمانهم ورؤاهم على غيرهم لتندثر كل التشكيلات التي اقتربت أو تحالفت معهم وفشلوا هم في أن يجدوا لأنفسهم موقعا من بين العائلات السياسية الأخرى لأنهم يخلطون بين المصلحة التي هي حقيقة موضوعية يمكن أن يتفق عليها أفراد الوطن الواحد والإيمان الذي هو شعور شخصي وذاتي لا يمكن أن يكون محلّ مفاوضة بين الشركاء في الوطن ولأنهم ما زالوا يعتقدون لحد الآن أنهم الأعلى بالإيمان الذي سمّاه سيد قطب بالإستعلاء بالإيمان.
——————-
الهوامش 1) مجلة حقائق العدد 225 بتاريخ 8 و14 ديسمبر 1989.
2) جريدة الحصاد بتاريخ 8 جانفي 2013.
3) مجلة حقائق العدد 222 بتاريخ 16 نوفمبر 2012.
4) جريدة التونسية بتاريخ 18 أفريل 2012.
5) جريدة الحصاد بتاريخ 16 أكتوبر 2012.
6) جريدة الأيام 28 مارس 1991.
7) انظر في ذلك موزاييك ف م بتاريخ 13 جويلية 2020 «قضية حراس الغابات: عدم سماع الدعوى في حق لطفي العماري» والأخبارية التونسية نفس التاريخ تحت عنوان: «القضاء يبرئ لطفي العماري ضد محمد بن سالم».
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 28 سبتمبر 2021