الشارع المغاربي: قبل أيام قليلة غيّر راشد الغنوشي الصورة الموضوعة في أعلى صفحته الفايسبوكية بأخرى له وهو جالس على كرسي في منصة رئاسة البرلمان وكأني به يريد أن يذكِّر متابعي صفحته بأنه ما زال حاملا لتلك الصفة رغم أن الأوضاع تغيّرت وذهب البرلمان بمن فيه إلى غير رجعة. وَهْمُ البقاء تلبّس الغنوشي بصورة مرضيّة وظهر ذلك جليا في إصراره على عدم الاستجابة بالمغادرة المشرفة رغم العرائض والمناشدات حتى من داخل حركته. ففي حديثه لجريدة الصباح يوم 9 نوفمبر 2021 اقترح على رئاسة الجمهورية العودة إلى ما قبل 25 جويلية مع تعهده بالاستقالة من رئاسة البرلمان وهو في اقتراحه يكشف أنه الى حدّ الآن لم يستوعب ما استجد في البلاد وما زال يتصور نفسه الحاكم بأمره مثلما كان الامر منذ سنة 2011 ولم يدرك أنه أُخرج من ساحة الفعل السياسي نهائيا وأن عودته إليها أصبحت مستحيلة. ففي السياسة من خرج لا يعود ولم يحدث خلاف ذلك إلا في حالات قليلة تعدّ على أصابع اليد الواحدة وفي ظروف وملابسات فريدة من نوعها كحالة خوان بيرون في الأرجنتين، والدليل على أن قرارات 25 جويلية وما تلاها كانت قاصمة لظهره:
1) سحبت منه كل الصلاحيات التي كان يتمتع بها كرئيس للبرلمان وصاحب أكبر كتلة فيه حيث مارس الدور الرئيسي في صياغة سياسة الدولة خلال العشرية الماضية دون منازع وما وقوفه أمام باب البرلمان في تلك الليلة المباركة على البلاد والمشؤومة عليه إلا إعلان عن نهايته السياسية.
2) عَزْلُ رئيس الحكومة قضى على موقع النفوذ الذي من خلاله مارس الغنوشي سيطرته على السلطة التنفيذية في التعيينات والعزل وجمع الحرفاء واستبعاد كل نفس وطني حرّ.
3) إلقاء القبض على عدد من النواب المجمّدين الذين لعبوا دورالعصا الغليظة ومحاكمتهم وهم الذين كانوا يأتمرون بأمره، حَرَمَه من أدوات كان يستعملها في التعنيف المادي والأدبي لخصومه وهو ما عاينه الناس جميعا في البرلمان المجمّد. هذا الأسلوب من المخاتلة والتخفي وراء الآخرين مثل منهجا أساسيا لديه حتى يلقي بالمسؤولية على الآخرين. من ذلك أن فشل الحكم لا يعود إلى سوء اختياراته والجهالة وانعدام الخبرة التي عليها من عيّنهم بل هو فشل مشترك يتقاسمه الحلفاء. ولهذا السبب بالذات يلهث وينادي بالتوافق والتحالف الذي هو وسيلة يحصل بها على مغانم الحكم لوحده ويعمّم الفشل على من رَضِيَ لنفسه بالفتات مِنّة منه. نفس الشيء يقال عن ائتلاف المعنِّفين الذين كانوا أولاده المدلّلين ولكنهم بعد قرارات 25 جويلة التي قلّمت أظافره وأنهت حمايته لهم أصبحوا في نفس المرتبة مع خصومه قيس سعيد وعبير موسي مثلما جاء ذلك في مقال له صدر في صحيفة «الرأي العام» بتاريخ 4 نوفمبر 2021.
4) انفراط العقد الحكومي الذي كان مكوّنا من مجموعة من الأحزاب والأفراد الذين فضلوا السلامة كَرْهًا ورفضوا الانخراط في جوقة المدافعين عنه. فحزب قلب تونس تحلل وانتهى الأمر بمؤسّسه شريدا في أرض الله الواسعة. أما أعوانه فذهبوا هباء منثورا بعضهم في الخارج يؤثث الوقفات الاحتجاجية والبعض الآخر في الداخل انسحب أو فضّل الصمت ونفس الشيء حدث لما يسمى «تحيا تونس» لمالكه الشاهد الذي تطال قياداته شبهات فساد.
5) تململ جزء من قيادات والمنتسبين لحركة النهضة ممن اتضح لديهم أن الحركة انتهت ولم يعد لها موقع سياسي داخل البلاد مستقبلا فاتجه بعضهم إلى محاولة تكوين حزب جديد والبعض الآخر فضّل الكمون والاختفاء في انتظار تبدّل الأوضاع.
6) أما سادسة الأثافي إن صحّ التعبير فهي الرفض الشعبي لحركة النهضة ولرئيسها الذي يحتل المرتبة الأولى في كراهية الشعب التونسي له وهو ما يعلمه منذ مدة ونتيجة لذلك نُصح بعدم الترشح للرئاسة رغم أن أمنيته في الحياة هي دخول قصر قرطاج رئيسا للجمهورية.
ومع كل هذه المؤشرات القريبة التي عاينها الغنوشي فإنه لم يستوعب رغم تجربته الطويلة في الحركات التي تخلط الدين بالسياسة أن هذه الأخيرة لا تعيش ولا تتمدد داخل مجتمعاتها إلا إذا كانت في السرية لأنها ما إن تخرج إلى العلن والنور حتى تفقد مصدر قوّتها الأساسي ممثلا في استنادها إلى خطاب ديني رافض يكفل لها وحدة الجماعة وانضباطها فضلا عن أن السرية تمنع أي نقاش أو حوار خوفا على التنظيم من الانشقاقات. وتدل التجربة التاريخية لهذا النوع من الحركات أنها كلما خرجت إلى العلن ولامست الوقائع ومشاكل الناس وضرورات التأقلم مع الأطراف السياسية الأخرى إلا وأصيبت بحيرة تنتهي بها إلى الضمور والتفتت. ولنا في تجارب الجزائر والمغرب والسودان خير مثال على ذلك. ومن الجدير بالملاحظة أن حركة النهضة لم تخرج عن هذا التوصيف حيث كانت في السرية «سابل عليها ربي سترو» كما يقال ولكنها ما إن خرجت إلى العلنية وتصدرت دفة الحكم حتى أثبتت عجزا كاملا عن التسيير من ناحية وإصرارا على ارتكاب نفس الأخطاء من ناحية أخرى. هذا الإصرار يتكرّر مجدّدا حتى بعد إجراءات 25 جويلية وما تلاها. فبدل أن يستوعب الغنوشي الدرس الكامل من فشل حركته وفشله هو شخصيا وينسحب من الساحة التي لم تشهد في عهده سوى الفساد الذي أدى إلى حالة الهوان التي تعيشها الأمة نجده يتشبث بكرسي البرلمان ولو على جثة الوطن، وفاته أن حالته هذه تحدث عنها عبد الله بن المقفع منذ 13 قرنا من الآن عندما قال: «المُلك سريع الانتقال من أيدي الملوك وليس بعائد إلى من انتقل عنه لأن من عجز عن حفظه وهو في يده فهو في إعادته أعجز».
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 نوفمبر 2021