الشارع المغاربي : أعاد اعتقال الخبير الدولي في التسلّح منصف قرطاس، أواخر مارس 2019، إلى الأذهان إحدى الصور البارزة للأعوام الأولى للثورة. شكّلت تونس آنذاك مختبرًا يرتع فيه العملاء والجواسيس، من الداخل والخارج، لنقل أسرار ما يعتمل في البلاد ودول الجوار من حراك حثيث. قضيّة أمن قومي تحفل كسابقاتها بكمٍّ هائل من الغموض والتهافت…
تدافعت المعطيات وتعدّدت، خلال الأيام الماضية، بشأن إيقاف منصف قرطاس التونسي الجنسيّة لدى حلوله بمطار تونس قرطاج الدولي، مساء يوم الثلاثاء 26 مارس 2019، “للاشتباه في تخابره مع أطراف أجنبية”، أسوة بشخص تونسيّ آخر لم تُكشف هويّته. المعلومات المعلنة تقاطرت في البداية، فنُسبت إلى مصادر مطّلعة. وعند تدخّل منظمة الأمم المتّحدة لتبيان أنّ قرطاس يعمل خبيرا لديها، ممّا يجعله يحظى بالحصانة بمقتضى الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، عمدت وزارة الداخليّة، في بلاغ أصدرته للغرض، إلى الكشف رسميّا عن تفاصيل أخرى خطيرة جدّا. وبيّنت خصوصا أنّ عمليّة إيقاف الشخصين ذوي العلاقة تمّت “على إثر متابعة ميدانية وفنيّة انطلقت منذ سنة 2018، وبعد التنسيق مع النيابة العموميّة بالمحكمة الابتدائية بتونس1”. كما أوضحت بالخصوص أنّه تمّ “حجز العديد من الوثائق السريّة المتضمّنة لمعطيات وبيانات دقيقة وشديدة الحساسيّة من شأنها المساس بسلامة الأمن الوطني”، فضلا عن “تجهيزات فنيّة محجّر استعمالها بتونس ويمكن استغلالها في التشويش والاعتراض على الاتصالات كما تستعمل في عمليات المسح الرّاديوي”…
الجدير بالذكر أن منصف قرطاس سبق أن قُدّم في تونس على أنّه لا فقط خبير دولي في شؤون التسلّح بل هو أيضا باحث بمركز جنيف للنزاعات والتنمية وترسيخ السلم، ومنسق مشاريع برامج الدراسات في الأسلحة الخفيفة في ليبيا وفي شمال إفريقيا، وخبير في الإصلاح الأمني والعنف المسلح وما إلى ذلك، إلى جانب شركته الخاصة المتخصّصة في مجال الأسلحة والاستشارات الأمنيّة… وهذا يعني أنّه يعرف كلّ شيء عن الأسلحة، وعمّا يُستخدمُ في كلّ منطقة، وما يُفضّله المسلّحون وتُجّار السلاح والوسطاء، وعن الأسعار الحقيقيّة والأسعار المتداولة بحسب خطورة مسالك بيع الأسلحة. ومن يعمل في هذا المجال يفترض سلفا أنّه قد يقع يوما في قبضة جماعات مسلّحة أو لدى أجهزة أمنيّة نظاميّة وفرق مقاومة التجسّس في أفضل الحالات. ويعني ذلك أنّه قد يكون مستعدّا سلفا للسيناريو الذي يعيشه اليوم. وربّما كان يتصوّر أنّ الساحة التونسيّة مضمونة بالنسبة إليه أكثر من غيرها، لا فقط لأنّها بلده الذي يعرف كلّ شبر منه، ولكن خصوصا لتصوّره أنّ الفوضى التي تشهدها تونس تعلب لصالحه…
من الواضح إذن أنّ ملفّ منصف قرطاس متشعّب جدّا ويتضمّن جوانب يصعب كشفها للرأي العام التونسي على الأقلّ في هذه الفترة. وهو ما أدّى إلى لفّ القضيّة بهالة من الغموض، ولاسيما بالنظر إلى تدخّل أطراف محليّة وأجنبيّة عدّة في قضيّة تمسّ أساسا بالأمن القومي للدولة، لكن انطلق تسييسها منذ البداية…
غموض وتضارب!
من المنتظر أن تُسلّط الأضواء الكاشفة على هذه القضيّة أكثر من سابقاتها، ليس فقط من قبل “المخابرات الأجنبيّة” وإنّما أيضا الأمم المتحدة التي سارعت باتّخاذ موقفٍ أوّلي واضح من هذه القضيّة. فقد اعتبرت أنّ قرطاس “محتجز” وأنّه يتمتّع بالحصانة. وهو ما دفع السلطات القضائيّة إلى المسارعة بالتأكيد على أنّ المذكور “لا يتمتع بالحصانة الأمميّة خلافا لما تم تداوله”، فقد كشف المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب سفيان السليطي، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، أنّ “الأفعال المنسوبة إليه كانت بسبب تحقيق المعني لمصالح خاصة ولم تكن في إطار تحقيق مصالح الأمم المتحدة”. وجاء ذلك ليُؤكّد ما تمّ تداوله من معلومات بشأن إنشاء قرطاس شركة خاصة بالتوازي مع نشاطه الدولي، وهي تُعنى بتقديم استشارات أمنيّة حول تونس ودول شمال إفريقيا عموما، كما أنّ لديها عقودا مع مؤسّسات أجنبيّة منها أمريكيّة.
والملفت للانتباه أنّ السليطي، في تأكيده مسألة عدم تمتّع قرطاس بالحصانة، قد اعتبر أنّ المذكور “مكلف بمهمة أمميّة في ليبيا وليس في تونس”، على اعتبار أنّه حلّ بتونس بجواز سفر تونسي لا جواز سفر أممي. وهنا من الضرورة أن تتوخّى مؤسّسات الدولة الحذر والدقّة في التفسيرات التي تُقدّمها. فالقول بأنّ الشخص الموقوف مكلّف بمهمّة في ليبيا وليس في تونس قد لا يستقيم على اعتبار أنّ هناك الكثير من الدبلوماسيين المعتمدين لدى ليبيا يُقيمون في تونس. وكان من الأجدى التركيز على ما يتضمّنه ملف القضيّة من تهم خطيرة تمسّ بأمن الدولة على غرار حيازة معدّات تُستخدم في أنشطة ذات علاقة بالتجسّس. وهو ما يعني ضرورة الاكتفاء بتلك المعطيات الدقيقة، بدلا من تعويم القضيّة في جملة من الحيثيّات والمبرّرات التي قد تدفع إلى التشكيك في الرواية الرسميّة، ذلك أنّ تونس لها سيادتها في إيقاف أيّ شخص على أرضها في حال أضرّ فعليا بأمنها القومي.
في المقابل يبدو أنّ المصالح التي تلفّ هذه القضيّة قد أدّت إلى تواتر محاولات التضليل والتشويش من خلال اختلاق إشاعات وترويجها في الميديا الاجتماعيّة على أنّها معلومات تُفسّر الأسباب الحقيقيّة لإيقاف قرطاس. ومن بينها أنّ هذه العملية تهدف برمّتها إلى التغطية على التحقيق الذي يقوم به الخبير المذكور بشأن ما تمّ من تهريب للأسلحة بين تونس وليبيا زمن الترويكا. والحال أنّه من المعلوم أنّ ترسانة الأسلحة التي هُرّبت إلى ليبيا كانت قبل سقوط الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي سنة 2011. وطبعا فإنّ هذه التوصيفات قد سيقت إلى مصادر مجهولة من قبيل “يؤكّد مراقبون ومتابعون وخبراء”، كما هو الحال عند الرغبة في فرض تأويلات سياسيّة على أنّها معلومات وأخبار. وهو ما يبدو إمّا من قبيل تضليل الرأي العام بهدف التأثير لتعويم القضيّة وتوجيهها وجهة معيّنة. وهذا يعني أنّ من بثّ هذه الإشاعة له مصالح خفيّة تتّصل بأنشطة قرطاس، ويسعى بكل السبل إلى الإفراج السريع عنه. وإما من قبيل العبث الصرف، أيّ أنّ الخلاف السياسي والأيديولوجي هو الذي دفع إلى بثّ تلك التوصيفات في فترة تسجيل النقاط قبيل الاستحقاقات الانتخابيّة المقبلة.
من جانب آخر، اتّضح أنّ هناك التفاف على الموضوع من دون دراية. وعلى سبيل الذكر فإنّ “الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب” أعلنت أنّها أدّت زيارة تقصّ فجئية إلى مكان احتجاز المنصف قرطاس، دون مجرّد الإشارة إلى الشخص الثاني المحتفظ به في القضيّة ذاتها. وهو ما يعني أنّها على الأرجح تفتقد معلومات عنه. كما يعني ذلك أنّ المعلومات التي لديها محدودة جدّا، على خلاف ما ورد في بلاغها أنّ الزّائر الذي كلّفته بزيارة التقصّي “تمكّن من تجميع المعلومات حول الموضوع لدى الفرقة الأمنيّة المتعهّدة بالبحث، وعاين ظروف إيقاف المعني بالأمر وظروف الاحتفاظ به وأجرى مقابلة معه دون حضور أيّ طرف آخر”، لاسيما أنه طلب من الهيئة “متابعة التعهّد بالوضعيّة” أي وضعيّته. والواضح هنا أنّ قرطاس لم يطلع هذه الهيئة على أي شيء ذي شأن وأهميّة، باعتبار أنّها تتحرّك ضمن حدود صلاحياتها. وهو ما يثير تساؤلات بشأن ما يمكن فهمه من هذا التدخّل غير المدروس، حتّى وإن كانت له أهداف إنسانية نبيلة.
معقل للتجسّس!
ما لا يرقى إلى الشكّ أنّ الجواسيس الأجانب لا يمكنهم أن يصولوا ويجولوا في البلاد، في مدنها وأريافها وحدودها الممتدّة طولا وعرضا من الشمال إلى الجنوب، لولا دعم داخلي يُقدّمهُ إليهم عملاء خونة أو مرتزقة أو مجنّدين مرتزقة. فمهما كانت الدرجة الاحترافيّة للجواسيس، فإنّه من الصعب جدّا أن يعملوا في بلاد غير بلادهم من دون الاستعانة بعملاء من درجة ثانية خبروا الأرض وأهلها وأجهزتها وكلّ ما لها وما عليها.
حوادث الجوسسة المكشوفة في تونس، خلال الأعوام الأخيرة كثيرة جدّا، ويمكن أن نشير إلى ما اشتهر منها، على غرار ما نُشر، في فيفري 2018، عن شبكة تجسّس يُشرف عليها رجل أعمال فرنسي، وتورّط فيها عدد من كبار مسؤولي الدولة. كما رُوّج آنذاك أنّ أحد عملاء الشبكة تمكّن من زرع منظومة معلوماتيّة في مؤسّسات سياديّة عليا في مقدّمتها قصر رئاسة الجمهورية بقرطاج، غير أنّ السلطات القضائيّة نفت جانب التجسّس، معلنة أنّ القضيّة تتعلّق بـ”جرائم للارتشاء والرشوة وتبييض وغسيل أموال تورّط فيها عدد من إطارات الدّولة وطرف أجنبي”. ثمّ آلت القضيّة إلى النسيان…
ولا يخفى أيضا أنّ رجل الأعمال شفيق الجراية قد أوقف، منذ أواخر شهر ماي 2017، بتهم “الاعتداء على أمن الدولة الخارجي” والخيانة و”وضع النفس تحت تصرّف جيش أجنبي زمن السلم”. وقد شكّل رجل الأعمال المذكور ظاهرة في حدّ ذاته، حتّى أنّه لم يكن يتورّع من إعلان علاقته الوطيدة بعبد الحكيم بلحاج زعيم الجماعة الإسلاميّة المقاتلة في ليبيا سابقا. وهو مثال لمن يعتقد أنّ كلّ شيء يُمكن أن يُباع ويُشترى وأنّ نشاط التجسّس واختراق المؤسّسات السياديّة للدولة مجرّد مهنة كغيرها، وأنّه لا معنى إطلاقا للوطنيّة أمام المصالح الماليّة…
ولا ننسى كذلك ما حفّ بعمليّة اغتيال جهاز “الموساد” للشهيد محمد الزواري أمام بيته بمدينة صفاقس، يوم 15 ديسمبر 2016، من إعداد استخباراتي ورصد طويل المدى داخل تونس وخارجها، وجُنّدت فيه آنذاك فتاة تونسيّة للقيام بالإعداد اللوجستي… ثمّ احتفى الصهاينة في وسائل إعلامهم بتلك الجريمة، باعتبارها استهدفت مهندسا وعضوا بارزا في كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لمنظمة “حماس” الفلسطينيّة.
كما نظر القضاء التونسي، أواخر عام 2017، في قضيّة خليّة تجسّس روسية ضلع فيها دبلوماسيّان روسيّان تمكّنا من تجنيد أربعة موظفين تونسيّين يعملون بأربع بلديات في بنزرت والعاصمة (باب سويقة والمنزه والعوينة) بهدف الاستيلاء على وثائق رسميّة وقواعد بيانات بلديّة تخصّ المواطنين وإدارات مهمّة مقابل مبالغ ماليّة. وفي حين أُفرج عن المتهميْن الروسيّين ميخائيل سالوكوف (كان نائبا لمدير المركز الثقافي الروسي) وكيامران راجيموف (دبلوماسي) نظرا إلى تمتّعهما بالحصانة الدبلوماسيّة، فقد نال الموظفون التونسيّون أحكاما سجنية تتراوح بين 8 و15 سنة.
ويُوضّح هذا المثال أنّ من يحظى بالحصانة يصعب ملاحقته قضائيّا بالنظر لا فقط إلى الاتفاقيات الدوليّة ولكن خصوصا بالنظر إلى علاقات المصالح التي تربط تونس بالدول الكبرى خصوصا. وفي الآن ذاته فإنّ الأمر يختلف بالنسبة لمن يحمل الجنسيّة التونسيّة كما هو الحال بالنسبة إلى موظفي البلديات الذي زُجّ بهم في السجن بأحكام نافذة أو كذلك بالنسبة إلى قضيّة منصف قرطاس، رغم حساسيّة الموضوع باعتباره يتمتّع بتغطية الأمم المتحدة. ومع ذلك فإنّ السلطات التونسيّة قد قدّمت تأويلها الذي يكسر حجّة هذه “الحصانة”، ويبقى مدى صمودها أمام الضغوط الدوليّة والدبلوماسيّة السريّة المتوقّعة بشدّة خلال هذه الفترة. وقد رأينا كيف طالبت آمنة القلالي مديرة مكتب منظمة “هيومن رايتس ووتش” بتونس، في تصريح للغرض، بالإفراج عن قرطاس، دون أدنى اعتبار لحيثيّات الملف والتهم الموجّهة إلى ذي الشبهة. فمن دور ممثلة هذه المنظمة الأمريكيّة أن تدافع عن حقوق الإنسان وتناهض كلّ الانتهاكات المحتملة في هذا المضمار، لكن الدعوة إلى إطلاق سراحه من دون معرفة الملف وكأنّه سجين رأي لا تجوز، لاسيما أنه حظي بالضمانات القانونية وأوّلها التواصل مع محاميه والهيئات الحقوقيّة، على خلاف ما جاء في تصريحها.
وإجمالا فإنّ الإشكال الأكبر يكمن في حشر الخلافات السياسيّة والأيديولوجيّة وما يرتبط بها من مصالح ظرفيّة في قضايا ذات درجة عالية من الخطورة وفي مقدّمتها تلك التي تهمّ الأمن القومي للبلاد. ومع ذلك لا ينبغي أن ننتظر مآلا واضحا لقضايا الجوسسة، لكنّ القبض على العملاء والجواسيس يُوجّه رسالة إلى العالم بأنّ الدولة يجب ألّا تترك أمرها لتلاعب الدول الأخرى وعملائها كما تبتغي وتشاء…
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير .