الشارع المغاربي – قيس سعيّد الظاهرة ! le phénomene kais said / بقلم معز زيّود

قيس سعيّد الظاهرة ! le phénomene kais said / بقلم معز زيّود

20 سبتمبر، 2019

الشارع المغاربي : إنّه بركان الغضب الشعبي ينفجر مجدّدا في تونس كما في أيّام الثورة!. فبعد نحو تسع سنوات، تتسلّح “الأغلبيّة الصامتة” للمرّة الثانية بالشعار نفسه: “الشعب يُريد…”. قيس سعيّد اختار هذه العبارة السحريّة تحديدا شعارًا لحملته الانتخابيّة، وأقنع فئات واسعة من التونسيّين بجدوى شنّ حرب على “السيستام” برمّته، فتلقّفوها وقذفوا بحممها وجوه نُخب متآكلة ومرشّحين حصدوا فشلا ذريعا رغم ضخامة ترساناتهم الماليّة والتعبويّة والدعائيّة. قيس سعيّد ظاهرة انتخابيّة في حدّ ذاته، لكنّها لم تأت أبدا من فراغ…

في ظلّ عجز متناهٍ عن تلبية الحدّ الأدنى من تطلّعات الشباب المهمّش وسائر الفئات المحرومة سواء في الأحياء الشعبيّة بالمدن الكبرى أو المناطق الداخليّة، تعاظم الموقف الشعبي الرافض لمختلف النخب المتحذلقة على المنابر الإعلاميّة من سلطة ومعارضة. “الشعب يريد إسقاط النظام” وجّهت اليوم إذن صفعة شعبيّة غير مسبوقة منذ الثورة إلى مجتمع سياسي هجين متكالب على السلطة وفوائدها. قيس سعيّد كان الوحيد الذي عرف كيف يلتقط هذه اللحظة التاريخيّة المفعمة برغبة جارفة في معاقبة المنظومة السياسيّة السائدة، كاشفا بذلك اختلافه البنيوي عن الطيف السياسي السائد بكلّ ملامحه وعناوينه ورموزه وانتهازييه الكُثْر…

مراجعة المفاهيم!
“الشعبويّة”، رغم شحنتها السلبيّة، باتت بمثابة فنّ الممكن السياسي في مجتمع تونسي أثبت أنّه لا يُشبه غيره من دول الجوار. لم يتوانى سعيّد لحظة عن الحديث باسم شعب يريد تغييرا حقيقيّا. قدّم نفسه على أنّه البديل لنخبٍ سياسيّة ودعائيّة لم تُفلح ما أنفقته من ملايين الدينارات في تلميع صورتها الوصوليّة المترهّلة. عرف أستاذ القانون الدستوري كيف ينصهر في خطاب الثورة “المنسي” في أذهان النخبة.
بات قيس سعيّد في حدّ ذاته معنًى ممتزجا بشعار “الشعب يُريد..”، ولئن تجاهلته منابر الدعاية الإعلاميّة فقد احتضنته الجماهير الصامتة ورفعته في سرّها وعلنها. جئت من رحم هذا الشعب لـ”تطبيق المشروع الحقيقي الذي يُطالب به الشعب التونسي”، هكذا كان يقول ويستطرد أنّ “الدستور الحقيقي هو الذي خطّه شباب الثورة على الجدران.. أنا أمشي في الطريق التي عبّدها الشباب التونسي، وليست خرائط الطريق التي عبّدها رجال السياسة”… خطاب وإن بدا “شعبويّا” صرفا، فإنّه بغضّ النظر عن كلّ التوصيفات قد نفذ إلى قلوب الكثير جدّا من التونسيّين، وصوّره على أنّه “الرجل الأقدر على الإنقاذ” في مواجهة حفنة من “الانتهازيّين”. وهذا ما جعله يحظى بفوز غير مسبوق في الاقتراع العام الذي أثبت نزاهته، رغم كلّ ما شابهُ من تجاوزات.
تفاجأت النخب المتربّعة على عرش المشهد السياسي إذن بالنتائج الباهرة التي حقّقها قيس سعيّد في غياب الحدّ الأدنى من الآليات الدعائيّة والأرصدة الماليّة والتحالفات الانتخابيّة. وفي المقابل لم يكن هذا الانتصار الساحق مفاجأة إطلاقا بالنسبة إلى من صوّتوا له وخصوصا من تطوّعوا من دون أيّ مقابل لتنسيق حملته الانتخابيّة.
ربّما يجهل معظم ناخبي قيس سعيّد برنامجه الانتخابي، وربّما افتتنوا بصوته الجهوري الفصيح الذي يُذكّرهم بعبق من التاريخ غير الواقعي، ويُركّز في بعض مناحيه على “خطاب الهويّة” المنسوج بطلاقة لسان متفرّدة. ومع ذلك فإنّه من المؤكّد أنّ خطابه المنصت إليهم قد أحدث الفارق، حين ولّت سائر النخب السياسيّة وجوهها عنهم. هكذا عاقبت الصناديق الانتخابيّة من صمّوا آذانهم لنداءات الواقع المتكرّرة. وهكذا أيضا بدا قيس سعيّد مثلا أعلى بالنسبة إلى الطيف الأوسع منهم، ما كان بإمكانهم أن يكونوا مثله ففوّضوا أمرهم لمن حمل خطّ الثورة المنسيّة.
ما في شكّ إذن أنّه على الجميع أن يتعلم من تجربة قيس سعيّد. وهو ما ينبغي أن يعتبر به أيضا زملاؤه في الجامعة، وأن يتأمّلوا هذا الفصل السياسي الجديد بعمقٍ كي يمكنهم امتلاك شرعيّة تدريس القانون الدستوري والعلوم السياسية مستقبلا…

حقيقة أصوات النهضة!
انتشرت بعد ظهور الملامح الأوّليّة لنتائج الانتخابات أنّ حركة النهضة تقف وراء الصعود الصاروخي لقيس سعيّد. وتأكيدًا لهذا النزوع طافت بين صفحات “فيسبوك” وثيقة منسوبة إلى النهضة تحت عنوان “هام جدا”، جاء فيها حرفيًا “إلى الإخوة والأخوات أبناء حركة النهضة، الرجاء التوجّه بكثافة إلى مركز الاقتراع والتصويت إمّا للشيخ عبد الفتاح مورو خيار الحركة أو الأستاذ قيس سعيّد”. قد تكون هذه الوثيقة صحيحة طبعًا وقد تكون مفبركة، لكن ما بدا واضحا بجلاء أنّ فوز قيس سعيّد لا يعود إلى مساندة حركة النهضة لأكثر من اعتبار موضوعي. فقد كان قيس سعيّد من المرشحين الذي حاولت حركة في مرحلة معيّنة إلى دفعهم إلى الانسحاب لفائدة مرشحها الرسمي. كما أنّ الأصوات التي حصل عليها مورو قد تعكس حجم الخزّان الانتخابي لحركة النهضة الذي انكمش وتآكل كثيرا مثل سائر الأحزاب الفائزة في انتخابات 2014.
وليس غريبا طبعا أن تكون نسبة معيّنة من أصوات أنصار حركة النهضة قد أسهمت في فوز قيس سعيّد، بحكم مواقفه الراديكاليّة بخصوص القضايا الخلافيّة، ولاسيما قضيّة “المساواة في الميراث” التي يرفضها علنا وبشكل قاطع رغم إدراكه لمعنى الفصل الـ21 من الدستور الذي ينصّ على المساواة التامّة بين المواطنين والمواطنات.
ومع ذلك فإنّ مواقف سعيّد التي تُحسب على أنّها متوافقة تمامًا مع توجّهات حركة النهضة، لا تُخفي أنّه قد صدح مرارًا بمواقف تُخالفها. ومن ذلك أنّه سبق أن دعا إلى “ضرورة محاكمة التونسيّين العائدين من القتال في سوريا وفقا لقانون مكافحة الإرهاب”، مطالبا الحكومة بصريح العبارة بـ”عدم السماح بغسيل الأموال التي يصطحبها هؤلاء العائدون من القتال”. والحال أن حركة النهضة كانت قد نادت بإيجاد السبل الكفيلة بإعادة إدماج هؤلاء.
ولا يخفى أنّ سعيّد قد أعلن مرارا بأنّه لن يكون العصفور النادر التي تبحث عنه حركة النهضة، فقد أكّد في تصريح لـ”الشارع المغاربي”، في شهر جوان 2019، أنّه لم يكن يوما “في سرب عصافير ولن يكون طيرا ولا عصفورا ولا أداة لخدمة أيّة جهة كانت”، ومضيفا أنّ “الوحي نزل على الرسول الأعظم لأوّل مرّة في غار حراء وليس في مونبليزير”.
والجدير بالذكر أنّه من المعروف أنّ “رضا شهاب المكّي” المشهور بكنية “رضا لينين” قد اضطلع بدور قيادي في إدارة الحملة الانتخابيّة لقيس سعيّد. وهو شخص معروف بمواقفه اليساريّة الراديكاليّة منذ أيّام الجامعة. كما أنّ كتابته الفكريّة والسياسيّة اليوم تشهد بأنّه لم ينقلب على مرجعيّاته ومواقفه السابقة رغم المراجعات التي أخذ بها. ومن الصعب جدّا أن يكون قد انبرى يُنسّق تحرّكاته السياسيّة مع حركة النهضة أو حزب التحرير كما يُروّج هنا وهناك…

خطاب السيادة
قيس سعيّد لم يأت إذن من فراغ، وليس استنساخًا لفيلم “الشرطي الآلي” Robocop مثلما يحلو للبعض تلقيبه من قبيل السخرية أو الدهشة والافتتان. ووفق ما تناهى إلينا من معلومات أنّه بدأ حراكه السياسي بشكل جدّي بين صفوف المهمّشين منذ بداية عام 2016. وكان في يوم 20 فيفري 2016 قد حضر الاجتماع التأسيسي للجامعة الشعبيّة بحيّ سيدي حسين الشعبي. لم يتحدّث يومها بتلك الفصحى المحبوكة، لكنّه أبان عن صميم أفكاره. حذّر قيس سعيّد يومها من التمويل الأجنبي للمشروع المذكور ركّز على مفهوم السيادة في القرار، قائلا: لا تأخذوا مليمًا واحدًا من الخارج، سواء من حكومات أو من منظمات دوليّة. واقترح في المقابل جمع دينار واحد من كلّ مواطن، مؤكّدا قناعته بأن يُحقّق ذلك ما يتصوّره البعض مستحيلا… كانت هذه الحادثة بسيطة في مضمونها، لكنّ دلالاتها كفيلة بأن تُفسّر بعضا من شخصيّة نسفت كلّ التقديرات المتوقّعة.
قيس سعيّد لم تصنعه الغرف المغلقة، ولم تتجنّد الترسانة الدعائية للمافيا لدعمه أو تنصيبه. إنّه ليس مشروعا سياسيا مغشوشا، فقد جاء من رحم إرادة شعبيّة للتغيير عصفت رياحها بمنظومة تنكّرت لوعودها وصمّت آذانها لأنين المستضعفين والمحرومين والمهمّشين. ومن المنتظر أن تسنّ قوى الدعاية المافيوزيّة كلّ سيوفها لإثخانه ضربا، باعتبار أنّها تجاهلته ولم تركّز عليه في الدور الانتخابي الأوّل.
لا ينبغي أن يخفى عن الجميع أيضا أنّ القوى الغربيّة والمحاور الإقليميّة ستحاول قدر الإمكان التأثير في الاستحقاق المقبل من أجل الحفاظ على مصالحها ضدّ من يتأبّط خطاب السيادة الوطنيّة قبل كلّ شيء. ومن الأهميّة التذكير في هذا المضمار بما تعهّدت به وزيرة الخارجية الفرنسيّة للسلطات التونسيّة قبل إسقاط نظام بن علي بأيّام بشأن مدّها بمختلف أدوات قمع جماهير الشباب الثائر.
قيس سعيّد شخصيّة ناهضت بخطابها الراديكالي النظام، وأقنعت عن جدارة بأنّها جاءت من خارج “السيستام”، وأنّ الشعب التونسي يستحق هذا المآل. أكّد هو نفسه أنّه لم يسبق له أن دخل خلوة انتخابيّة أو أعطى صوته لأيّ كان. والأكثر من ذلك تصريحه بأنّه لن يُصوّت لنفسه!، بل واعتبر أنّ “السلطة بلاء وابتلاء وامتحان وهَمّ”. فهل ينجح في هذا الاختبار العظيم؟!…

صدر بأسبوعية”الشارع المغاربي” في عددها بتاريخ 17 سبتمبر 2019.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING