الشارع المغاربي – كيف أصبح أيمن إرهابيّا ؟ - بقلم : معز زيود

كيف أصبح أيمن إرهابيّا ؟ – بقلم : معز زيود

12 يوليو، 2019

الشارع المغاربي : حين تنظر إليه، في بدلته البيضاء، يبدو لك شابًا وسيمًا في مقتبل العمر، ولا تشعر إطلاقا بأنّه يُخفي وراء ابتسامته البريئة وملامحه الزاهية كيانا دمويّا متطرّفا. إذن كيف تحوّل الشاب العشريني أيمن السميري، في طرفة عين، إلى وحش يُخطّط لهجمات إرهابيّة، ثمّ يُقْدِم على تفجير جسده إربًا قرب محطة المترو بحيّ التضامن؟!…

لم يعرف أيمن السميري الشهرة إلّا يومين قبل مقتله انتحارًا، ولم يسعه الوقت للاحتفاء بمخطّطاته لدى مستخدمي موقع “فيسبوك” الذين تناقلوا بكثافة صورتيْه اللتين نشرتهما وزارة الداخليّة في موقعها الإلكتروني وفي صفحتها الرسميّة بالموقع الشهير. فبعد محاصرته من قبل قوّات مكافحة الإرهاب، أقدم السميري على تفجير نفسه باستخدام حزام ناسف يرتديه بجوار سياج محطّة المترو على مستوى مفترق “النقرة” بين حيّ التضامن وحيّ التحرير، وغير بعيد عن بيته في حي ابن خلدون المجاور. ومن حسن الحظّ أنّه تمّ اكتشاف كميّات المتفجرات التي أخفاها الإرهابي الشاب بساحة مسجد الغفران، وفق تأكيد الناطق الرسمي باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب سفيان السليطي. والواضح أنّ الإرهابيّون قد قاموا بتصنيعها في مكان آخر قبل أن ينقلها السميري إلى مسجد “الغفران” لإخفائها، غير بعيد عن مواقع العمليّات التي يُخطّط لتنفيذها.
ولا يخفى طبعا أنّ توظيف المساجد لا يزال قائما في بلادنا إلى حدّ اليوم. هذا ما يمكن ملاحظته في الخطب العصماء التي تتُلى كلّ يوم جمعة في بعض المساجد. خطب تشجع على الكراهيّة وتحرّم الحقّ في الاختلاف وتُكفّر المطالبة بالمساواة، وتبذل كلّ ما في وسعها لإبقاء تونس رهينة لنسبة لا تتجاوز 5 بالمائة من البشر في العالم، ترفض الاختلاف وتكرّس النظرة الدونية للمرأة وتؤجّج حالة الاستقطاب الديني… فلا غرابة في مجتمع ذكوري إذن أن يتناسل المتطرّفون كالحشرات التي تلسع وتتلذّذ بامتصاص دماء الآخرين.

العقل المدبّر !
لا يبلغ أيمن من العمر سوى 23 عاما فقط، لكنّه وُصف مع ذلك بأنّه “العقل المدبّر” للعمليّتين الإرهابيّتين في العاصمة بكلّ من شارع شارل ديغول وأمام مقرّ “الوحدة الوطنيّة للأبحاث في جرائم الإرهاب” بمنطقة القرجاني، وفق تأكيد السليطي يوم الأربعاء الماضي.
يتمثّل أوّل استنتاج بخصوص هذا “العقل المدبّر” في أنّ أيمن كان طفلا يافعا لم يبلغ بعد سنّ الخامسة عشر، حين هرب بن علي من جحيم شعار “ديقاج” وتفاصيله يوم 14 جانفي 2011. وحين جدّت حادثة سليمان الإرهابيّة بين أواخر عام 2006 وأوائل عام 2007 كان أيمن يدرس في المرحلة الابتدائيّة، ويمرح في حيّ ابن خلدون بالعاصمة بألعاب الأطفال البسيطة. وهذا ما يعني أنّ أيمن لم يفقه شيئا من سياسة بن علي الاستبداديّة، على خلاف ما يُردّده الإسلاميّون غالبا في وصف الإرهابيّين، بهدف تحويلهم من إرهابيّين إلى مجرّد ضحايا لنظام حاول تجفيف منابع الدين، وفق العبارات المروّجة دائما.
هكذا إذن كشف انتحار أيمن السميري أنّه من أوّل العناصر الإرهابيّة التونسيّة المنتمية لجيل جديد لم يعرف نظام بن علي واستبداده. وهو ما يدعو إلى التساؤل عن الحاضنة التي استقطبت هذا الشاب خلال السنوات الأخيرة. فقد يُخطّط أيّ شاب في سن أيمن ليكون مهندسا أو طبيبا أو ضابطا أو صحفيا أو حِرفيا في مجال ما أو غير ذلك، لكنّه لا يُخطّط قطّ ليكون إرهابيا. أيمن لم يخطّط لبلوغ قدره المحتوم، بل سُحِب سحبا نحو هذا المآل. وعليه فإنّ ملف القضية لا ينبغي أن يُقفل لمجرّد القول إنه العقل المدبّر لجرائم إرهابيّة بلا عقل…
لا ننسى كذلك أنّ وكالة “أعماق” التابعة لتنظيم “داعش” الإرهابي كانت قد أعلنت أنّ السميري مقاتل في تنظيمها المذكور. ومن ثمّة ينبغي استحضار كلّ المعجم الأيديولوجي للتنظيمات الإرهابيّة. فهل يعتقد أيمن السميري حقّا أنّه سيلتقي، بعد انتحاره وإعادة تركيب جسده الممزّق إربًا، بأربعين عذراء من الحور العين الذين لم يمسسهنّ بشر. لا أحد يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال بعد مقتل الشاب المنتحر، ولا حتّى أيمّة المساجد الذين روّج بعضهم لسنوات الثواب العظيم لـ”المجاهدين”، ولم يتردّد الكثير منهم في إصدار فتاوى التكفير ثمّ التفجير… ومع ذلك ينبغي الإقرار، في الآن ذاته، أنّ الإرهابي المنفجر لم ينشأ في وسط يُعلي من قيمة الحريّة والحقّ في الاختلاف والتسامح والتعايش السلمي. وربّما لو تغيّرت دائرة أصدقائه وخلّانه لكان بالإمكان مثلا أن يصبح أيمن مشجّعا متعصّبا لأحد فرق كرة القدم الكبرى. فالتعصّب والتطرّف في المجتمع التونسي نحل وألوان، وكما يصف الإرهابيّون رجال الأمن بـ”الطواغيت” ويجعلونهم في قلب أهدافهم التدميريّة، فإنّ الشباب المتعصّب لفرق كرة القدم يكتبون عنهم في الجدران اختزال “ACAB” الذي يعني أنّ كلّ رجال الشرطة لقطاء أو أوباش، مثلما يفعل الشباب المتعصّب في الكثير من بلاد العالم. والمقصود هنا أنّه عمليّا هناك شعور معلن بالكره إزاء قوّات الأمن، لم تفعل الجماعات الإرهابيّة سوى تغذيته إيديولوجيا وتحويله من مجرّد شعار إلى الفعل الإرهابي…

حاضنة تربويّة واجتماعيّة!
كثيرا ما يُردّد رئيس منظمة الأمن والمواطنة الأمني عصام الدردوري عبارة تقول: “فتّشوا عن الإرهاب في المكاتب قبل الجبال”!. ويمكن أن نضيف استزادةً في معاني هذا القول: لا تفتّشوا عن الإرهاب فقط في المكاتب الحاضنة والمساجد الراعية وزوايا الأحياء الشعبيّة والراقية، بل وكذلك في المؤسّسات العامّة وفي مقدّمتها المؤسّسات التربويّة. فلا يخفى أنّ تضخّم حالة الاستقطاب الأيديولوجي، بعد الثورة، وما صاحبها من استضعاف لمؤسّسات الدولة قد أدّى إلى ضرب المقوّمات المدنيّة للمدرسة العموميّة. وباتت المدارس والمعاهد التونسيّة تُشكّل قواعد متقدّمة للتلقين الأيديولوجي القائم على تعميم “الوثوقيّة” وفرض الطاعة العمياء ورفض الحقّ في الاختلاف… وفي المحصّلة افتقَدَ الكثير من المُدرّسين القدرة على تنمية الحسّ النقدي لدى عموم التلاميذ. فأضحت البرامج التعليميّة، رغم تطوّر مضامينها الحقوقيّة، مفرغة من أيّ معنى أو قدرة على نحت طريق التغيير وتعميق قيم المواطنة…
ودلالة على خطورة ما يجدّ من ممارسات تُعمّق السلوك المتعصّب لنأخذ بعض الأمثلة الحديثة لما يُحاك في مدارسنا. ألَمْ يُقحم مُدرّس لغة عربيّة في بداية العام الجاري اسم النائبة بشرى بلحاج حميدة إقحامًا في نصّ امتحان، مُطالبًا بكلّ وقاحة وتوظيف أيديولوجي ودوغمائيّة مفرطة بإعراب جملة تقول: “تُطالب بشرى بالمساواة في الإرث مطالبة المخطئة”. وخلال الفترة ذاتها في العام الدراسي المنقضي أقدم مُدرّس فيزياء في القيروان على حشر آية قرآنيّة حشرًا في اختبار الفيزياء، بل وطالب تلاميذه باستكمال الآية ذات الصلة، وهو ما ليس من شأنه أو مهامه ولا حقّ له فيه إطلاقا. فقد تعمّد مدرّس الفيزياء إجراء فرزٍ تلمذي لمن يحفظ تلك الآية ممّن لا يحفظها. وكشف بذلك نزعة توظيف أيديولوجي لتحميل اختبار علمي ما لا يحتمل.
والأخطر من هذه الممارسات المعلنة ما بلغني، منذ أيّام فقط، بشأن تجاوزات متفقّد مادّة العلوم الطبيعيّة في أحد مراكز إصلاح امتحان التاسعة أساسي بمدينة كبرى في الشمال الغربي. فقد دعا مدرّسي مادّة العلوم الطبيعيّة المشاركين في إصلاح أوراق الامتحان الوطني إلى تفكّر آية قرآنيّة تتماشى مع وضعيّة علميّة مطروحة في أحد أسئلة الاختبار العلمي…
لا تعدو هذه الأمثلة إذن أن تكون سوى قطرة من فيض ما يتعرّض له أطفال تونس وشبابها من قصف أيديولوجي في عُقر المؤسّسات الرسميّة، فما بالك بما يجري في الفضاءات المغلقة؟!. والواضح أنّ الإسلام السياسي لا يملّ ولا يكلّ في توظيف كلّ مناحي الحياة وتطويع كلّ مؤسّسات المجتمع التونسي لخدمة أجندته، باعتباره قد أثبت مرّة تلو الأخرى أنّه لا يؤمن قطّ بمبادئ الدولة المدنيّة.
ماذا يمكن إذن أن ننتظر من شباب درس في مدارسنا العموميّة دون أن لم يُطالع كتابا واحدا في حياته، بل ويشكّك في صعود الإنسان إلى سطح القمر ويؤمن بأنّ أيّ اكتشاف علمي غير منصوص على حججه في القرآن يُعدّ باطلا ومن اختلاق الدجّالين والماسونيّين دون أن يفهم معنى هذا المصطلح وتاريخيّته أصلا. إنّها للأسف منظومة تربوية واجتماعيّة تكاد تسقط في حالة إفلاس. فقد أضحت مُخرجاتها تنوء بثقل ما تصدره من تضخيم معالم الجهل ونشر الثقافة الاتّكاليّة… وأفضل دليل على ذلك ما يتناقله آلاف التونسييّن، في كلّ لحظة، من صنوف الشعوذة في صفحات الميديا الاجتماعيّة وموقع فيسبوك خصوصا.
أيمن السميري لم يدرس بدوره في سويسرا، وإنّما في مدارس حيّ ابن خلدون وما يحيط به من مرابض شعبيّة في العاصمة، على غرار معظم مدارس البلاد وأحيائها الشعبيّة. إنّه نِتاج مباشر لهذه المدرسة وهذا المجتمع اللذين يُشجّعان بلا هوادة على التعصّب والتطرّف ونبذ الفكر النقدي ورفض الحقّ في الاختلاف، وخاصة الإسهام قصدا أو عن غير وعي في إعداد الدمى للتنفيذ والتفجير…

صدر باسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING