الشارع المغاربي – لا بد من مصارحة الشعب بحقيقة العجز التجاري وفضيحة التوريد العشوائي/ بقلم: جمال الدين العويديدي

لا بد من مصارحة الشعب بحقيقة العجز التجاري وفضيحة التوريد العشوائي/ بقلم: جمال الدين العويديدي

قسم الأخبار

11 يونيو، 2021

الشارع المغاربي: «الشعب الذي ينسى تاريخه محكوم عليه أن يعيد أخطائه أ أكثر من مرة». كان من المفروض على دولة الاستقلال تخصيص محور دراسي بيداغوجي في التعليم العمومي للتركيز على دور المديونية في انتصاب الاستعمار في القرن التاسع عشر حتى ننبه أجيالنا من مخاطر المديونية على مستقبل البلاد. حول هذا الموضوع، كوريا الجنوبية التي تعرضت للاستعمار الياباني (1910-1945) دأبت منذ الخمسينات على تلقين التلاميذ يوميا عبر ترديد «هدفنا تحقيق نمو في مستوى اليابان في بداية القرن الوحد والعشرون» وهي على ذلك الدرب إلى اليوم.

لم نتفاجأ ممّا يحصل في هذه الأيام العصيبة ونحن نشاهد الوطن يُجر إلى الاستسلام للعُهدة الخارجية من جديد، تحت سيطرة الترويكا الرهيبة المتكونة من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي بزعامة فرنسا والبنك الأوروبي، نتيجة الأزمة المالية الخانقة التي تتزامن مع انسداد سياسي قوّض كيان الدولة. لم نتفاجأ لأننا سبق أن قدمنا التحذيرات المتعددة منذ عدة سنوات من مغبة دفع البلاد إلى الإفلاس. حيث بينت كل التحاليل المعمقة والتي نشر أغلبها في الشارع المغاربي أن تونس تُستدرج نحو مديونية رهيبة حُبكت خيوطها من أطراف خارجية وبتواطؤ داخلي بطريقة مُحكمة.

كيف تم استدراج البلاد إلى الإفلاس

المسار الذي أوصل البلاد إلى هذا الوضع انطلق بتدمير القطاع المنتج الذي أسسته دولة الاستقلال على مدى ثلاثة عقود. وذلك إثر التوقيع على اتفاقات شراكة غير متكافئة مع الاتحاد الأوروبي. تدمير الصناعات المحلية تم تعويضها بالتوريد المفرط الذي أدى إلى انهيار العملة الوطنية وانتشار البطالة. ثم تم إغلاق بنوك التنمية التي لعبت دورا رائدا في بعث النسيج الصناعي والسياحي الوطني. وبالتزامن تم التفويت في العديد من المصارف المحلية عبر الخصخصة لفائدة البنوك الأجنبية (خمسة منها فرنسية). ثم تدرج الأمر نحو تحييد مؤسسة مالية وطنية بمستوى البنك المركزي عن سلطة الدولة وهي التي أخرجت تونس في سنة 1958 من فلك الفرنك الفرنسي «la zone franc « إلى الدينار التونسي الذي كرس انعتاق الوطن.

لقد تم استدراج الدولة التونسية بتواطؤ من الداخل لتجريدها من كل الآليات المالية الضرورية لتحقيق أهدافها في إنجاز البنية التحتية وتوفير مرافق عمومية راقية في التعليم والصحة والنقل وتمويل القطاعات المنتجة التي تخلق القيمة المضافة والثروة مثلما دأبت عليه منذ الاستقلال.

الغريب في الأمر أنه في الوقت الذي فرطت فيه السلط التونسية في القطاع المالي نجد الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة اللبرالية في العالم تُشرع منذ أكثر من عشرين سنة لمنع دخول رؤوس الأموال الأجنبية في المصارف المالية. فقد أصبح لرئيس الجمهورية والكونغرس الحق المطلق في إبطال أي صفقة تتم في هذا المجال. وكذلك الشأن في قطاع الطاقة والنقل البحري والبري والجوي وقطاع الاتصالات وقطاع التكنولوجيا المتطورة التي تعتبرها الولايات المتحدة قطاعات إستراتيجية من شأنها أن تهدد الأمن القومي للبلاد.

لذلك استغرابنا يبقى في محله عندما نرى كيف تم سحب السلطة الوطنية عن البنك المركزي تحت شعار رنان وماكر يحمل عنوان «استقلالية البنك» الذي تم بواسطته تعويم الدينار وتدمير المؤسسات بنسبة فائدة مشطة ليس لها من راد من قبل السلطة الحاكمة في البلاد.

حتى نعي ما يجري اليوم لابد من عرض تسلسل القوانين المتعلقة بالبنك المركزي وأهدافه التي اتُخذت بنسق سريع في سنة 1958 لتكريس الاستقلال المالي والاقتصادي الحقيقي للبلاد:

• 19 سبتمبر 1958 إصدار القانون عدد 90 لسنة 1958 المتعلق بإنشاء وتنظيم البنك المركزي التونسي.

• 18 أكتوبر 1958 إصدار القانون عدد 109 لسنة 1958 المتعلق بالإصلاح النقدي. إحداث وحدة نقدية جديدة: الدينار.

• 3 نوفمبر 1958 دخول البنك المركزي التونسي حيز النشاط وطرح الدينار التونسي للتداول.

• 30 ديسمبر 1958 انسلاخ الدينار التونسي عن الفرنك الفرنسي وخروج العملة الوطنية من منطقة الفرنك.

بالمقابل نعرض أهم ما جاء في تغيير القانون الأساسي للبنك المركزي في سنة 2006 وخاصة في القانون عدد 35 المؤرخ في 25 أفريل سنة 2016 بين في الفصل 25 المطة 4 الذي ينص على أنه:

– لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة.

في الوقت الذي كان البنك المركزي سابقا يُقدّم تسهيلات للخزينة العامة بطريقة مُقننة ومضبوطة، وليست عبثيّة كما يوحي البعض، تعدّ في حدود %10 من مداخيل الخزينة للسنة السابقة سعيا لتوفير السيولة الضرورية للتعجيل بتنفيذ ما جاء في قانون المالية من إنجازات وتفاديا لكل التعطيلات. هذه المهمة أصبحت منذ أفريل 2016 في عُهدة البنوك الخاصة التي تتصرف فيها بنوك أجنبية زيادة على البنوك العمومية الثلاثة المتبقية التي بالمناسبة ضغطت الأطراف الخارجية (صندوق النقد الدولي بالوكالة لفائدة الاتحاد الأوروبي) لخصخصتها منذ سنة 2013 والتي نالها ما نالها من شيطنة ومن اتهامات سوء الحوكمة سعيا لضمها للقطاع الخاص حتى يتم انتزاعها من سلطة الدولة نهائيا.

بمقتضى هذا القانون أصبحت هذه البنوك تقترض من البنك المركزي بنسبة فائدة مديرية مشطة بلغت %6,75 (وهي اليوم في حدود %6,25) تضاف عليها نسبة فائدة البنوك التي تصل إلى %5. في وضع عالمي تتراوح فيه نسبة الفائدة المديرية بين صفر بالمائة في البنك الأوروبي و%0,25 في الولايات المتحدة الأمريكية و%1,5 في المغرب و%2 في الأردن.

وهو ما أثقل كاهل الخزينة العامة وعطّل تنفيذ مشاريعها. كما عطّل الاستثمار الداخلي ودمّر المؤسسات العمومية والمؤسسات الخاصة الصغرى والمتوسطة بجميع أصنافها زيادة على تعطيل نشاط كل الحرفيين والمهنيين. وكذلك عامة المواطنين حيث أصبحت عقود القروض السكنية والشخصية تتضمن بندا ينص على أن نسبة الفائدة يتم تعديلها حسب متغيرات معدل سعر السوق النقدي (TMM).

هذا المسار دفع البلاد إلى ركود اقتصادي أجهض المسيرة التنموية وفسح المجال لانتشار ظاهرة السوق الموازية عبر التهريب بما أن الاستثمار والنشاط المشروع أصبح حكرا على أقليات استولت عل كل القطاعات. خاصة أنه في إطار تقليص دور البنك المركزي في دفع التنمية الاقتصادية الوطنية تم إصدار مناشير قام من خلالها بالضغط على البنوك لاتخاذ احتياطات مُشدّدة لتصنيف القروض البنكية غير المستخلصة بدون أي اعتبار لوضع البلاد. حيث تنصلت الدولة من كل التزاماتها تجاه المؤسسات الوطنية العمومية والخاصة. لقد تم استعمال كل الآليات الضرورية لفسح المجال للبنوك للاستعداد لتمويل حاجيات الخزينة العامة بكل أريحية والعزوف على تمويل القطاعات المنتجة المحلية خاصة في الفلاحة والصناعة.

انهيار قيمة الدينار أثقل المديونية العمومية الخارجية

لقد لعبت مسألة تعويم العملة الوطنية بدعوى منطق السوق في دولة نامية لا تملك القوة الاقتصادية الضاربة والقوة العسكرية الرادعة دورا كبيرا في إغراق البلاد بديون…حسابية شبه افتراضية.

من ذلك فقد جاء في التقرير المُتعلّق بالمديونية العمومية الصادر عن وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار في سنة 2020 أن «تراكم تداعيات انهيار الدينار مقابل العملات الأجنبية (اليورو والدولار الأمريكي أساسا) على الديون الجارية في المدة (2016-2017-2018) فاق مبلغ 18,746 مليار دينار. نتيجة لذلك ارتفعت نسبة المديونية إلى %78,2 من الناتج المحلي الإجمالي في أواخر سنة 2018 بعدما كانت في حدود %55,42 في أواخر سنة 2015. عندما نعلم قيمة هذه النسبة في تصنيف حالة الاقتصاد الدول في العالم وتأثير هذا التصنيف في إمكانية الاقتراض من السوق المالية من عدمه، نتفهم مدى أهمية قيمة العملة الوطنية عندما تكون مرتفعة في تحصين التوازنات المالية الخارجية للبلاد.

انطلاقا من هذا المثال يبدو جليا أن الخروج من أزمة المديونية يمر حتما عبر العمل على اتخاذ الإجراءات السيادية الجريئة لتعزيز قيمة الدينار. من ذلك اتخاذ القرار بالرجوع إلى» سعر الصرف الثابت « المعدل عبر سلة عملات أساسية. للتذكير نلاحظ أن المغرب عمل على تثبيت سعر الدرهم ليكون ملاصقا لسعر اليورو وقد نجح نجاحا باهرا في ذلك حيث عرف الدرهم انخفاضا طفيفا جدا منذ أواسط التسعينات إلى اليوم مما جنب المغرب مزيد الإغراق للمديونية الخارجية للبلاد.

تعزيز سعر الدينار في هذا الوضع الاستثنائي يمر حتما عبر ترشيد التوريد بوصفه مصدر النزيف الذي دفع إلى المزيد من الضغط على طلب العملات الأجنبية مما يؤدي حتميا إلى ارتفاع سعرها مقابل انهيار قيمة الدينار. وبحكم أن الميزان التجاري يشكو من عجز مرتفع جدا وصل إلى 31,1 مليار دينار في سنة 2019 و23,7 مليار دينار سنة 2020 وهو على هذا النسق في سنة2021 فكان لابد من التوجه للتداين الخارجي لكي تفي الدولة بخلاص التزاماتها مع المزودين الأجانب.

من الغريب في هذه البلاد التي تعيش هذه الحالة من الإفلاس الذي يهدد سيادة وكيان البلاد أن تجد نيابات السيارات الفاخرة جدا لا يقل سعر الواحدة من 350 مليون دينار تعرض في القاعات الفاخرة جدا أيضا في أحياء البحيرة وغيرها. قرابة المليار دينار من توريد السيارات في الثلاثة أشهر الاولى من هذه السنة. كان من باب الأولى والأجدى أن تستعمل في تمويل مشروع يضمن مقاومة التصحر الصناعي في البلاد لخلق مواطن الشغل وخلق القيمة المضافة وتزويد السوق المحلية لتحسين الميزان التجاري. غير أن اللوبيات الناشطة في هذه الميدان قالت كلمتها لأنها متغلغلة في مفاصل السلطة والأحزاب السياسة.

مطلوب من وزارة المالية ومن البنك المركزي الكشف عن حقيقة العجز التجاري

اليوم وقد حصحص الأمر ووصلت البلاد إلى حافة الإفلاس وأصبحت مهددة في سيادتها ندعو كلا من وزارة المالية والبنك المركزي التونسي إلى مصارحة الشعب التونسي والكشف عن حقيقة العجز التجاري في النظام العام المتعلق بالمؤسسات المقيمة والمعتمد عالميا منذ 2010. كشف هذه الحقيقة يعتبر حركة وطنية ترفع الغطاء عن تزوير تستفيد منه بلدان الاتحاد الأوروبي بما فيهم فرنسا التي تدعي زورا وبهتانا ان مبادلاتنا التجارية معها تفضي إلى فائض إيجابي لتونس مما يعتبر استخفافا لابد من وضع حد له اليوم قبل الغد.

هذا التصويب سوف يكون له تأثيرا كبيرا في كشف ضحالة المنوال التنموي الذي يعتمد على المناولة لصالح البلدان الأوروبية والذي اعترفت بفشله في تحقيق التنمية في بلادنا كلا من البنك الدولي في تقريره الصادر في سنة 2014 وكذلك وكالة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الاقتصادية «CNUCED» حول اقتصاد الدول الافريقية مطالبة بضرورة مراجعة دور الاستثمار الخارجي والعمل على مقاومة التصحر الصناعي.

لذلك إنقاذ البلاد من هذه الازمة الخطيرة يستوجب دعم شعبي قوي لفرض إجراءات سيادية أولها سحب القانون المتعلق بالبنك المركزي والعمل فورا على ترشيد التوريد وحماية المنتوج الوطني بالنظر للضرر الفادح في توازناتنا المالية الخارجية والعمل على استرجاع نشاط المؤسسات المتضررة التي تعد بعشرات الآلاف وهي قادرة على خلق القيمة المضافة والتشغيل بصورة سريعة.

الحل لن يكون إلا تونسيا والكفاءات الوطنية قادرة على تقديم برامج جريئة وذات مصداقية للتفاوض بكل جدارة عن المصالح الوطنية. نقاط الضعف للبلدان الدائنة التي تغلغلت في الإدارة الوطنية وفي مؤسساتنا السيادية جلية ويمكن الاعتماد عليها لفرض وجهة نظر تضمن حقوق الشعب التونسي. لذلك دعوة لرئيس الحكومة بعدم التسرع وتسليم مؤسسات وثروات البلاد قربانا للجانب الفرنسي الذي يعاني من أزمة مالية وأزمة مديونية كما يتبين من عديد الدراسات. اتفاقيات في الزراعة في الأراضي التي أممتها دولة الاستقلال برئاسة بورقيبة في سنة 1964 هي صفعة في لشهداء وزعماء التحرير. إذا ما أضفنا الموانئ والمياه والطاقات المتجددة فماذا تركتم لتونس؟

إذا ما اضفنا إذعان حكومتكم لتنفيذ سياسة تقشف تعتمد الزيادات المشطة ورفع الدعم وهي سياسة لا تنفع في شيء كما يدل عليه المثال اليوناني وغيره في عديد البلدان خاصة أن الأحزاب التي تمثل حزامكم في مجلس نواب الشعب قد تنصلت من قراراتكم. فماذا تترقبون من إجراءات غير شعبية وغير مسنودة سياسا سوف تكون عواقبها وخيمة على الأمن والسلم الاجتماعي في البلاد؟

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 8 جوان 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING