الشارع المغاربي – لا خيار إلا العودة إلى مشروع بناء الدولة الوطنية المستقلّة بحقّ /بقلم أحمد بن مصطفى

لا خيار إلا العودة إلى مشروع بناء الدولة الوطنية المستقلّة بحقّ /بقلم أحمد بن مصطفى

قسم الأخبار

27 مارس، 2021

الشارع المغاربي: في ذاكرة الأمم الحية ذات الجذور الحضارية الراسخة في القدم رصيد من الزعامات والمرجعيات الفكرية التي تركت بصماتها المؤثرة في التاريخ، ويمكن ان تشكل مسيرتها النضالية وتجاربها القيادية مصدر إلهام لشعوبها خاصة في المراحل الفارقة والمفصلية في تاريخها مثلما هو الشأن بالنسبة لتونس التي بلغت أوضاعها السياسية والاقتصادية حالة غير مسبوقة من الشلل وانسداد افق الحل. وقد تعددت الدعوات الداخلية والخارجية لإجراء حوار وطني يمكن من وضع خارطة طريق للخروج من الازمة السياسية والدستورية والاقتصادية المتداخلة مع مديونية منفلتة ومؤذنة بانهيار قد يكون وشيكا للتوازنات المالية للدولة. 

في تقديري ان الازمة الحقيقية التي تشكو منها تونس منذ أكثر من ثلاثة عقود هي في جوهرها ازمة خيارات كبرى وازمة قيادات بعضها فاقد للحس الوطني ارتأى ان يتنكر لمشروع دولة الاستقلال بخضوعه الى الضغوط الفرنسية الأوروبية الغربية الهادفة إلى ربط مصير تونس بمنظومة العولمة والتبادل التجاري المختل وذلك من خلال ادماجها شبه القسري بمشروع توحيد القارة الأوروبية في إطار الاتحاد الأوروبي.

وقد شكل الحرص الفرنسي الأوروبي على ادماج تونس منذ استقلالها في هذه المنظومة، احدى العقبات الكأداء التي اثرت سلبا في مسار بناء الدولة الوطنية التونسية خلال مراحل تأسيسها الأولى والى يومنا هذا، سيما وان الهدف الأسمى للمشروع الأوروبي هو تجاوز مفهوم الدولة الوطنية وإقامة اتحاد أوروبي يضاهي الكيانات الاقتصادية الكبرى ومسيطر على محيطه بثقله الاقتصادي وبمؤسساته الاتحادية الرديفة للنظام الاتحادي الأمريكي.

وبقطع النظر عن الحصيلة السلبية للتعاون التونسي الأوروبي في جوانبه الاقتصادية والتجارية والمالية مما يقتضي اخضاعه للتقييم والمراجعة، فان تونس مدعوة في تقديري للتحسب من التناقض الجوهري في الأهداف بين مشروع توحيد القارة الأوروبية ذات الجذور الحضارية الغربية، وتطلع الشعب التونسي لبناء دولته الوطنية المستقلة المسخرة لخدمة مصالحه والساعية لإدماجه اقتصاديا في محيطه العربي والإسلامي وفقا لمقتضيات الدستور.

 وفي هذا الصدد ارتأيت الاستئناس بتجربة دولة الاستقلال، في تعاطيها مع الشريك الأوروبي من خلال تسليط الأضواء على سعى الرئيس بورقيبة و رفاقه طيلة عقدين من الزمن الى اقامة علاقات تونسية أوروبية متوازنة و مفيدة للجانبين دون التفريط في اولوية استرداد مقومات السيادة وبناء أسس الدولة التونسية الحديثة ، في حين خضعت تونس، في ظل النظام السابق وبعد الثورة، للضغوط الأوروبية الغربية الهادفة لإدماجها في الاتحاد الأوروبي على قاعدة التبادل التجاري والاستثماري غير المتكافئ مما أدى الى ضرب مفهوم الدولة  الوطنية في الصميم والتفريط في العديد من مكتسبات الاستقلال.  

المشروع الأوروبي في خدمة الهيمنة الفرنسية على تونس

يجدر التذكير بان الدولة الوطنية اصطدمت بعد الاستقلال برغبة فرنسا في الحفاظ على المكاسب المتصلة بالعلاقات السياسية والاقتصادية العضوية التي نسجتها مع تونس ومع الضفة الجنوبية للمتوسط ابان الاستعمار وذلك عبر إبقائها في منطقة الفرنك والاتحاد الديواني الفرنسي. ويعزى هذا الموقف الى   حرص فرنسا على الاحتفاظ بعلاقات خاصة ووثيقة سياسية واقتصادية وامنية مع مستعمراتها القديمة باعتبار حاجتها لمواصلة الاستفادة من أسواقها ومن مواردها وثرواتها المادية والبشرية والطبيعية في إطار إعادة البناء والاعمار.  هذا فضلا عن حاجتها، للإبقاء، لأسباب امنية واستراتيجية، على جنوب المتوسط ضمن دائرة نفوذها ونفوذ الكتلة الغربية الحريصة، في أجواء الحرب الباردة، على مواجهة الاطماع التوسعية للكتلة الاشتراكية في المنطقة المتوسطية.

 وإزاء تمسك الرئيس بورقيبة بمبدأ الاستقلال التام، عملت فرنسا بدعم أوروبي على ربط تونس والدول المغاربية استراتيجيا بمشروع الوحدة الأوروبية وذلك من خلال إبرام اتفاقيات شراكة بينها وبين المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي بعثت سنة 1958 على قاعدة احداث منطقة أوروبية غربية متوسطية للتبادل التجاري الحر تمكنها من الحفاظ على مكانتها وحضورها الإقليمي والمتوسطي، خاصة وأنها فقدت موقع الزعامة والسيطرة على الصعيد الدولي وأضحت ضمن دائرة النفوذ التابعة للولايات المتحدة الامريكية. وقد شكلت هذه السياسة البديل الملائم الكفيل بتمكين فرنسا من الحفاظ على مصالحها ومكانتها الخاصة في المنطقة المغاربية بعد فشلها في مساعيها الرامية للإبقاء على استعمارها للجزائر والحفاظ على تونس ضمن منطقة نفوذها الحصرية.

 هذا التناقض في المقاربات تزامن مع تنكر فرنسا لتعهداتها بنقل مقومات الاستقلال والسيادة الى تونس بشكل منظم عبر المفاوضات مما أدى الى اتخاذ قرارات سيادية احادية بهدف بسط سيطرة الدولة التونسية على القطاعات الاستراتيجية الحيوية، ومن ذلك استعادة السيادة المالية والبنكية لتونس والحد من تبعيتها الاقتصادية والتجارية والمالية المفرطة ازاء فرنسا. وتجسيدا لذلك تم احداث البنك المركزي التونسي والعملة الوطنية التونسية كما تم «تونسة» المرافق والخدمات الأساسية في مجال النقل والكهرباء والماء والاتصالات وغيرها.

 وقد مهدت هذه الخطوات للشروع، مطلع الستينات، في معركة الجلاء العسكري والزراعي تزامنا مع تبني خيار التخطيط الاستراتيجي كمنوال للتنمية من خلال إقرار الآفاق العشرية للتنمية التي جسدت رؤية الرئيس بورقيبة ورفاقه للنمط التنموي والمجتمعي لتونس المستقلة ولدور الدولة المركزي في إنجازه وتحقيق أهدافه الاستراتيجية المتمثلة في إزالة الاستعمار الاقتصادي وبناء اقتصاد انتاجي موجه للنهوض بالإنسان التونسي وتامين حقوقه الاقتصادية والاجتماعية الأساسية في الصحة والتعليم. وقد تبنى البنك الدولي هذه الاستراتيجية وقبل بتمويلها باعتبارها مشروع مجتمعي واقتصادي متكامل يؤسس لمسار بناء الدولة التونسية الحديثة.

التناقض في الأهداف بين الاتحاد الأوروبي ودولة الاستقلال

 على صعيد متصل انطلقت المفاوضات مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية وفقا لمقاربة جديدة تدعو لمراعاة مصالح الجانبين والتفاوت الشاسع بينهما من حيث الحجم الاقتصادي والتطور التكنولوجي، مما يقتضي إقامة علاقات متوازنة ووضع إطار للتعاون الشامل يستجيب لهذا الهدف ولا يقتصر على التبادل التجاري مع مراعاته للأولويات التنموية التي حددتها استراتيجية الآفاق العشرية للتنمية.

وقد اثرت الاجواء المتوترة والصدامية التي طغت على العلاقات التونسية الفرنسية الى منتصف الستينات، والخلافات الجوهرية حول طبيعة الإطار التنظيمي المستقبلي للعلاقات التونسية الأوروبية على المفاوضات التي افضت الى التوقيع سنة 1969 على اتفاق غير مرضي بالنسبة لتونس بسبب طابعه التجاري البحت وتبنيه لمبدأ التبادل الحر فضلا عن تجاهله لمشاغل وأولويات تونس التنموية.

  لذلك حرصت تونس على تدارك هذه الاختلالات اثناء المفاوضات التي افضت الى التوقيع سنة 1976 على «اتفاق للتعاون» يغطي مختلف جوانب التعاون التونسي الأوروبي فضلا عن كونه يستجيب نسبيا، من حيث مضامينه ومرتكزاته القانونية واسسه المبدئية، الى رغبة تونس في إضفاء المزيد من التوازن والعدل والانصاف على العلاقات التونسية الأوروبية. وقد شكل هذا الاتفاق منعرجا في مسيرة المفاوضات والعلاقات التونسية الأوروبية اعتبارا لشموله لمجالات التعاون المتعددة المدرجة ضمن المخططات التنموية لتونس في القطاعات الإنتاجية وغيرها. وبقطع النظر عن حصيلة هذا الاتفاق والظروف الداخلية والخارجية التي أدت الى تعثره، فانه يظل وثيقة مرجعية يمكن البناء عليها، وهي تعكس قدرة القيادة التونسية في المرحلة التأسيسية الأولى، على التعاطي بندية مع الجانب الأوروبي رغم التفاوت في موازين القوة وذلك بناء على رؤية واضحة ومنسجمة مع الخيارات الاستراتيجية الكبرى لدولة الاستقلال.

والى جانب السعي لإضفاء التوازن على العلاقات التونسية الأوروبية، أدخلت تونس إصلاحات كبرى على المنظومة التشريعية الموروثة القائمة على التمييز لفائدة الأجانب ومن ذلك قانون تأميم الأراضي الفلاحية وقانون الصرف والتجارة الخارجية لسنة 1976 الذي جاء لتوفير الحماية للصناعة وللقطاعات الإنتاجية التونسية فضلا عن تعزيز السيادة المالية وتحصين العملة الوطنية وحماية البلاد من التهريب. كما ابرمت العديد من الاتفاقيات التجارية والمالية لتنويع الشراكات الخارجية لتونس للحد من تبعيتها إزاء أوروبا ومن ذلك بنوك التنمية ومشاريع التعاون المحدثة مع عدة دول عربية وخليجية.

ورغم الانتكاسات والتراجعات التي تخللت مسيرة البناء، في المرحلة التأسيسية الاولى، فان القيادات التي تداولت على السلطة خلال تلك الفترة ظلت وفية اجمالا الى الثوابت والاهداف الاستراتيجية لدولة الاستقلال في المجال التنموي وفي إدارة ملف العلاقات التونسية الأوروبية.  كما تعاملت بحكمة مع الازمات الكبرى التي اصطدمت بها ومنها خاصة الازمة الاقتصادية وازمة المديونية لمنتصف الثمانينات وذلك رغم لجوئها الى التمويلات المشروطة لصندوق النقد الدولي. والجدير بالذكر ان المديونية التونسية، رغم ارتفاعها الملموس، فإنها ظلت تحت السيطرة ورصدت أساسا لتمويل سبع مخططات تنموية علما انها كانت تقدر بأقل من 5 مليار دينار أواخر عهدة الرئيس بورقيبة في السلطة.

في المقابل، شكلت العشرية الماضية -التي من المفترض ان تكون مرحلة تأسيسية ثانية مستندة الى أولوية تحقيق اهداف الثورة وإعادة بناء مؤسسات الدولة المستقلة وفقا لمقتضيات الدستور – امتدادا لمنظومة حكم النظام السابق وتوسعا في خياراتها الاقتصادية والدبلوماسية الكارثية المسؤولة عن الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي المتفاقم الذي تتخبط فيها تونس.

ملاحظات واستخلاصات

– العودة الى مشروع الدولة الوطنية المستقلة باعتماد التخطيط الاستراتيجي لبناء اقتصاد انتاجي ومندمج في محيط تونس العربي والإسلامي مع العمل على إقامة علاقات عادلة ومتوازنة مع أوروبا هو في تقديري السبيل الأمثل للخروج من الازمة الخانقة وانقاذ تونس وكيان الدولة من التهديدات والاخطار المحدقة بها.

– هناك تناقض جوهري بين تطلع الشعب التونسي لبناء الدولة الوطنية التونسية الوفية لهويتها ولجذورها العربية الإسلامية، وما يجسده الاتحاد الأوروبي من مشروع ثقافي ومجتمعي منحدر من الحضارة الغربية ومناهض مبدئيا لاستقلال الدول المحيطة مع سعيه للهيمنة الاقتصادية عليها وتجاهله للخصوصيات الثقافية والحضارية لبلدان الضفة الجنوبية للمتوسط ولمشروع ادماجها وتوحيدها. 

–  عملت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بدعم فرنسي أوروبي غربي على ترسيخ سياسة النظام السابق الرامية إلى خدمة المشروع الأوروبي على حساب المشروع الوطني التونسي، وذلك بالخضوع للبرامج المشروطة لصندوق النقد الدولي واعتمادها لترسانة قانونية تكرس تهميش التونسي في بلاده  ومزيد التفريط في ثرواته المادية والبشرية مع مضاعفة الامتيازات الممنوحة للمستثمر الاجنبي  مما أدى إلى ضرب أسس الدولة التونسية المستقلة والتفريط في مكاسبها الاجتماعية والصحية والتعليمية فضلا عن اغراقها في التبعية المالية وتعريضها الى مخاطر الإفلاس و التفكك.

*أحمد بن مصطفى – ديبلوماسي/ وسفير سابق

  • نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 23 مارس 2021

اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING