الشارع المغاربي – معضلة النظام الانتخابي التشريعي وحلّها /بقلم الصادق بلعيد

معضلة النظام الانتخابي التشريعي وحلّها /بقلم الصادق بلعيد

قسم الأخبار

26 مارس، 2021

الشارع المغاربي: من بين المصاعب التي تستوجب التدخل السريع للتغلب عليها مسألة النظام الانتخابي التشريعي. فقد تواتر الحديث حول هذه المعضلة وحول الوسيلة الأفضل لحلها ولإرساء النظام الديمقراطي الذي أراده الشعب واحتضنه الدستور الجديد بصورة واضحة. ومن المعلوم ان التشريع الذي تمّ اقراره في فترة ما بعد الثورة يتمثل في نشر القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء كما تم تنقيحه واتمامه بمقتضى القانون الأساسي عدد 7 لسنة 2017.

إلا أن هذه «المجلة الانتخابية» أفرزت في تطبيقها العديد من النقائص والثغرات تستوجب تلافيها باعتبار ان النص الجاهز للدورات الانتخابية القادمة يجب ان يكون متكاملا ونهائيا سنة كاملة قبل المواعيد الانتخابية القادمة (الفصل 106 من القانون الأساسي لسنة 2014 المذكور).

ويجدر التنبيه الى ان التحليل الوارد بهذا المقال سينحصر في الأحكام المتعلقة بنظام الاقتراع فقط، أي في الفصول 106 و107 و 108. فحسب الفصل 107: «يجري التصويت على القائمات في دورة واحدة، ويتم توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا»؛ واكتمل هذا النظام للاقتراع بما جاء في الفصل 108 الذي يقول: «يختار الناخب احدى القائمات المترشحة دون شطب او تغيير لترتيب المترشحين». وسيأتي لاحقا الكلام حول الفصل 106 المتعلق بتحديد الدوائر الانتخابية.

إنه من المتواتر عند أغلبية المواطنين انهذا النظام الانتخابي هو من بين الأنظمة المعروفة الأقل ديمقراطية باعتبار انه يضع الناخب في موقع الآلة التي تتحرك كما أُمر لها ان تفعل ودون اية حرية في التفكير والاختيار: فعلى الناخب ان يصوت على احدى القائمات مثلما حددت من طرف الأحزاب المشاركة في الانتخابات، ولا حق له في «التشطيب او التغيير في ترتيب المترشحين» (الفصل 108)؛ فليس للناخب الا الاختيار بين حلين: إما المشاركة في التصويت حسب ما املي عليه من القائمات أو مقاطعة العملية الانتخابية والبقاء في منزله؛ والكل يعلم ان الخيار الأخير هو الذي فضلته الأغلبية من المواطنين، وهذا  من شأنه أن ينزع عن العملية الانتخابية كل صفة او رائحة الديمقراطية وترتب عن هذا العزوف افساح المجال أمام كل أعداء الديمقراطية والانتهازيين والانتفاعيين من شتى  الأنواع لاستغلال هذه الفجوة من الحرية لقضاء مصالحهم الخاصة ونشر الفساد في البلاد باسم الديمقراطية بلا رقيب ولا حسيب، بل انهم يدّعون انهم الأنصار الحق للديمقراطية الحقيقية،»واذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون» (البقرة، 2، 11).

إن نظام الاقتراع الحالي افرز في كل المناسبات لتطبيقه نفس النتائج وتسبب في نفس الإشكاليات وفي نفس المخاطر وتسبب خصوصا في نفس الازمات السياسية التي عاشها الشعب التونسي منذ بداية العمل به، أي منذ سنة 2011. ولسائل ان يتساءل لماذا لا يقرر المشرع ابطال هذا القانون وابداله بما هو أحسن منه؟ الجواب هو أن الشق السياسي الذي جنى ربحا كبيرا من ذلك النظام الانتخابي أصر كل مرة على عدم طرح المسألة لمناقشته ولتحويره وعلى ابقائه وتمديده للفترة القادمة وأن يُرجأ الحديث في الموضوع الى مناسبة أخرى. فالتسويف والاعتراض المقنّع على تدارس الموضوع كانا الآلة الناجعة لربح الوقت ولإبقاء الحالة على ما هي عليه.

وليس هذا فقط: فمناصري النظام الانتخابي الراهن ما انفكّوا يتحجّجون بأن تمرير تغيير هذا التشريع الانتخابي صعب للغاية في مجلس الشعب بالأغلبية المطلقة (109 أصوات) لكونه من التشريعات المصنفة «قوانين أساسية»، وبأنه بذلك، قد يصعب جمع كل تلك الأصوات في حالة الاعتراض المتوقع من الحزب الأقوى والحاكم في المجلس الحالي على مثل هذه التوجهات. لكن، في رأينا، هذا التدليل يبدو ضعيفا ومراجعة التاريخ تنير أمامنا الطريق للسعي الى اكتشاف الحقيقة الساطعة. ذلك أن التشريع الانتخابي عدد 16/2014 المنسوب الى سنة 2014 ليس في الحقيقة كذلك، بل إنه أقدم منه بكثير؛ فلقد وقع العمل به منذ بداية ‹الثورة» وبالتحديد، بموجب مراسيم يرجع عهدها الى الاشهر الأولى من سنة 2011 وبمناسبة انتخاب المجلس التأسيسي. وهذه الملاحظة تكتسي أهمية كبيرة باعتبار أن هذه النصوص اعتُمدت في بداية التحول الثوري سنة 2011 تحديدا، ووضعت على جناح السرعة لتمكين إرساء المؤسسات الحكمية الوقتية ريثما يقع انتخاب مجلس تأسيسي تناط اليه مهمة وضع الدستور الجديد في ظرف سنة واحدة. ففي تلك الظروف، لم يكن التنظيم الانتخابي الوقتي ليدوم اكثر من سنة واحدة، كان من المؤمل منها ان تفسح المجال لإرساء هياكل دستورية قارة ومؤهلة للقيام بالوظائف الحكمية المناسبة. إلا ان الأمور لم تجرِ في الاتجاه المأمول، فاحتكرت الأطراف السياسية القادمة من المريخ الحكم في البلاد وانتهزت تطبيق النظام الانتخابي المؤقت بل النظام المنتهية صلاحيته لإقحام المنظومة الاسلاموية في التنظيم الدستوري الجديد للبلاد، وأدارت شؤون البلاد على أساس منطق «الغنيمة» لصالحها ولصالح حلفائها ومواليها فكانت الطامة الكبرى…

اليوم وقد ثبت فساد هذا النظام الانتخابي المؤقت وثبت بتطبيقه التأزم الفظيع للوضع السياسي في البلاد، بات من الضروري التفكير بصفة جدية في ابطاله من عدمه وفي ابداله بنظام آخر أكثر ‹ديمقراطية› واقرب من التعبير الاسلم عن إرادة الشعب. ومن المعلوم انه تمّ التفكير في اقتراح مثل النظام الأفضل للانتخابات قبل إقرار النظام الحالي: ففي جوان 2011 (نعم: جوان 2011)، قمنا بمعية زميلين لنا في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، هما السيد هيكل بن محفوظ والسيد قيس سعيد، باقتراح النظام الانتخابي للتصويت بالأغلبية في دورتين، وهو النظام الانتخابي الأكثر تداولا في الأنظمة الديمقراطية العريقة؛ ومع تعبيرنا عن اسفنا لعدم ملاقاة هذا الاقتراح آنذاك اذانا صاغية من طرف السياسيين، فإننا نناشد اليوم المجتمع المدني وكذلك اهل القرار السياسي والسلطان بإعادة التفكير والتأمل في مراجعة هذه المسألة المحورية علّهم يهتدون الى اعتماد  قرار افضل من الاختيار السابق. وإنّا ونحن نقدم هذا المشروع المحوري، نود اثراءه بما جاء من الاقتراحات الجديدة التي تسعى الى ادخال اكثر ديمقراطية وشفافية في الدورات الانتخابية القادمة، خاصة أن واجب تلافي ما حصل من هفوات وزلات مؤسفة في التجربة الراهنة يكتسي أهمية مصيرية لمستقبل البلاد.

أول اقتراح نعرضه في هذا المجال، يتعلق بواجب مراجعة موقع المرأة في المشهد السياسي. فحسب ما تُجمع عليه الاغلبية الساحقة من مواطنينا لم تتحصل المرأة التونسية على المرتبة السياسية المتلائمة مع تفوقها السياسي والثقافي في البلاد، وبالتالي فإنه يتعين انصافها بمراجعة حضورها وموقعها في سياسة البلاد؛ وهذا الإصلاح لا تفرضه التحولات الاجتماعية والثقافية الموضوعية فحسب بل إنه تمّ اقراره بصورة واضحة في دستور 2014، الذي جاء بتزكية مبدإ المساواة بين الجنسين (التوطئة تدعو الى «المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات»، والفصل 21 يقول: «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء امام القانون من غير تمييز» والفصل 34 يقول: «تعمل الدولة على ضمان تمثيلية المرأة في المجالس المنتخبة».

وخلافا لما يدّعي البعض، فإن تحقيق هذه المساواة ليس بالعسير خصوصا على مستوى «المجالس المنتخبة» التي ذكرها الدستور: فقد اقترحنا القاعدة التي تحقق التساوي بين الجنسين في الانتخابات بوضع مبدإ التصويت على أساس الترشحات الثنائية – أي رجل وامرأة – لا الترشحات الفردية؛ وبفضل هذا الإصلاح، يمكن تحقيق انصاف المرأة وفسخ تقاليد اللامساواة البائدة بصورة نهائية وبكل جدارة.

وباتصال مع هذا التحوير المفصلي، يتعين مراجعة مبدإ تقسيم الدوائر الانتخابية المعمول به حسب الفصل 106 من المجلة الانتخابية الذي يقول: «يتم تقسيم الدوائر الانتخابية ويضبط عدد مقاعدها بالاستناد الى قانون يصدر سنة على الأقل قبل الموعد الدوري للانتخابات التشريعية». فبما ان القائمات المترشحة ستكون حسب اقتراحنا، ثُنائية – كل قائمة تكون اجباريا مكوّنة من رجل وامرأة– يترشحان لمقعدين اثنين، فإنه يتعين مراجعة التقسيم الحالي للدوائر لتتسع كل دائرة لضعفي التقسيم المعمول به حاليا (60.000 مواطن)، فتضمّ كل دائرة 120.000 مواطن، مع مراعاة ما سيعرض في الفقرة التالية.

وفي اتصال ثان مع هذا التحوير، فإنه يحسن إعادة النظر في عدد المقاعد المفتوحة للانتخابات: لا شك ان عدد أعضاء مجلس نواب الشعب الحالي – وهو 217 نائبا – ثقيل ومكلف بصورة ويتجاوز المعدل النيابي المعمول به في اغلب الديمقراطيات الحالية: فبالمقارنة مع المثال الفرنسي (65 مليون شخص يمثلهم 450 نائبا، ما يعطي معدل نائب واحد لكل 144.000 شخص)، فإن المعدل التونسي الحالي (11 مليون مواطن يمثلهم 217 نائبا، ما يعطي معدل تمثيل بـ: 44.000 مواطن لكل نائب واحد)، أي ما يقرب من خمس مرات بالنسبة للمثال الفرنسي. وسينتج عن التقليص في عدد النواب لا تخفيف مالي كبير فحسب بل إنه وخصوصا سيحدث تقليصا هاما في عدد المترشحين بالحد من الترشحات ‘الفضولية’– كما هي الحال، اليوم – ويضيف نسبة مهمة لنجاعة العمل البرلماني بما ينجر عن ذلك من الترفيع في المستوى الثقافي والسياسي للمترشحين.

إن هذا العرض لتحوير النظام الانتخابي الحالي يعتبر بمثابة تتمّة لمقال نشرناه يوم 5 فيفري الماضي في هذه الصحيفة؛ لكن، من المتوقع ان يتواصل الجدل حول هذه المسألة قريبا مع بعض الحدة في المواجهة بين الأطراف، مثلما يبرُز ذلك من المناقشات الحادة التي بدأت تدور في المداخلات العديدة للأحزاب السياسية بالبلاد. ونحن نتابع هذا الجدل والتطورات التي ستنجر عنه وسيكون لنا فيه حديث.

*نُشر بصحيفة “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 23 مارس 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING