الشارع المغاربي-معز زيود: معز زيّود طرحَ قرار إيداع رئيس حزب «قلب تونس» نبيل القروي في السجن جدلا سياسيّا متعدّد التأويلات. فبعيدًا عن تفاصيل التحقيق الذي يبقى من شأن القضاء وحده، فإنّ هذا «الحدث» الذي طغى على الساحة السياسيّة هذه الأيّام يقتضي من باب الإنصاف فتح ملفّ شبهات الفساد المتعلّقة بغيره من السياسيّين أيضا، ولاسيما بتفعيل كافّة الملفّات التي كشفتها محكمة المحاسبات مؤخرًا…
من الرسائل السياسيّة التي وجّهها إيداع صاحب قناة «نسمة» في السجن أنّ الحسابات السياسيّة للقروي بدت خاطئة تمامًا، إذ أنّ فوز حزبه بكلّ تلك المقاعد النيابيّة لم يُتح له القوّة والحصانة اللتين كان يتصوّرهما. ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ كلّ إستراتيجيّة باعث القناة المذكورة كانت تنبني على الفوز بمنصب رئيس الجمهوريّة، حينما لم يكن اسم قيس سعيّد مطروحا. والمقصود بذلك أنّه لو نجح في تحقيق هدفه الأسمى لقُبرت كلّ القضايا المرفوعة ضدّه إلى أمد غير معلوم سياسيّا. يجب طبعًا ألّا ننسى استعراض القروي لـ»قوّته الهائلة»، في أحد الفيديوهات المسرّبة، ضمن خلافه مع نجل الرئيس الراحل حافظ قايد السبسي الذي يُقيم اليوم في الخارج خشية محاكمته هو الآخر بشبهات فساد، قائلا: «أنا قوي (Je suis puissant)، أنا عندي تلفزة.. لواش عاملها أنا القناة، ماهو باش نحكم فيهم وفي ولديهم». يُذكّرنا ذلك أيضا بما كان يُصطلح على تسميته بظاهرة «شفيق الجراية» الذي كان يتحكّم بطائفة من السياسيّين والنوّاب ويهزأ بقدرة أيّ كان على محاسبته، وغير ذلك من أمثلة التاريخ القريب…
تجاوزات بالجملة
هذه إذن الرسالة الأولى من إيداعه القروي في السجن واستئناف مراحل مقاضاته، فقد كشفت إلى حدّ الآن عن عجز قناته وجمعيّته «الخيريّة» وحزبه وتحالفاته ولوبي الدعاية الأجنبي عن اغتيال مؤسّسات الدولة التونسيّة وتحويلها إلى مجرّد مراع ينهشها المتحكّمون في آليات التلاعب بالعقول والمسيطرون على ماكينات الدعاية السياسيّة.
أمّا الرسالة الثانية، فترتبط بالأولى بدورها، وتتعلّق بمدى استعداد المؤسّسة القضائيّة للمضيّ قُدما في تفكيك ملفّات الفساد المطروحة أمامها، على غرار محاسبة سائر من كشفت محكمة المحاسبات ضلوعهم في تجاوزات انتخابيّة ترقى إلى درجة الفساد والجرائم، لا مجرّد سوء تصرّف وقلّة تقدير.
الجدير بالذكر أنّ محكمة المحاسبات كانت قد أصدرت مؤخرًا تقريرًا عامًا يتفرّع إلى ثلاثة تقارير يخصّ الأوّل «مراقبة تمويل الحملات الانتخابيّة للانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها»، ويتعلّق الثاني بـ»تدقيق التمويلات الخاصّة بالانتخابات التشريعيّة لسنة 2019»، في حين يتناول التقرير الثالث «مراقبة ماليّة الأحزاب». وقد تضمّنت كافّة هذه التقارير توصيفا للتجاوزات التي ارتكبها عدد من السياسيّين وأحزابهم…
ومن أمثلة ذلك عدم التزام عدد من المرشحين للانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، وفق تقرير محكمة المحاسبات، بضوابط تسجيل عمليات تحصيل الموارد الماليّة وتأدية النفقات، إذ لم تشمل العمليات المدرجة بسجالات المرشحين محسن مرزوق والمهدي جمعة وحمادي الجبالي ومنجي الرحوي كافّة المداخيل والنفقات المنجزة من قبلهم. وعلى صعيد مراقبة الأحزاب الفائزة بالانتخابات، ذكرت محكمة المحاسبات أنّ حزب «حركة تحيا تونس» لم يواف المحكمة بما يفيد إعداد قوائمه الماليّة وضبطها. كما لا تحتوي الوثيقة التي أودعها هذا الحزب بعنوان المساعدات والتبرّعات والهبات والوصايا على كافة التبرّعات المقدّمة له، إذ لم يتم تضمينها ما يناهز100 وصل تبرّع. وكشف التقرير ذاته عدم الشموليّة الحسابيّة التأليفيّة لستّة أحزاب هي «الحزب الدستوري الحرّ» و»التيّار الديمقراطي» وحزب «قلب تونس» و»حركة الشعب» و»حزب صوت الفلاحين» و»حزب الرحمة». كما أنّ «حركة النهضة» لم تدل بالميزان المحاسبي وبالسجلات المحاسبية وتقارير مراقبي الحسابات، وفق تقرير المحكمة. كما كشف تقرير المحكمة أنّ قاعدة البيانات المتعلّقة بالمنخرطين في حزب «قلب تونس» تشمل أشخاصا مختلفين حاملين لنفس عدد بطاقة التعريف الوطنية، فضلا عن وجود بعض الأشخاص الذين قاموا بتسديد معلوم الانخراط سنة 2019 أكثر من مرّة.
الملفات الحارقة
والأكثر خطورة من كلّ ذلك يتعلّق بالتمويل الأجنبي لبعض الشخصيات المرشحة وأحزابها. فقد أكّدت محكمة الحسابات وجود قرائن قويّة على تعاقد أشخاص وأحزاب مرشّحة إلى الانتخابات، سواء بصفة مباشرة أو لفائدتهم، مع شركات أجنبيّة قصد كسب التأييد تتقاطع مدد تنفيذها مع الفترة الانتخابيّة، وذلك بقيمة إجماليّة بلغت حوالي 575 ألف دينار، دون أن يتوفّر في شأنها ما يفيد أنّ مصدرها تونسي أو ما يفيد تحويلها عبر البنك المركزي التونسي أو أحد الوسطاء المقبولين لديه لفائدة الشركات الأجنبيّة المعنيّة. وعلاوة عن المرشّح نبيل القروي، تخصّ هذه العقود المرشّحة للانتخابات التشريعيّة ألفة التراس وحزب حركة النهضة المرشح بـ33 دائرة انتخابيّة من بينها 6 دوائر انتخابيّة في الخارج و27 دائرة انتخابيّة داخل البلاد.
ومع ذلك فإنّ أخطر التجاوزات التي أبرزتها محكمة المحاسبات تتعلّق بالتعاقد مع جهات أجنبيّة وبالتمويل المُقنّع للجمعيّات. وتخصّ بالأساس نبيل القروي الذي تعاقد بتاريخ 19 أوت 2019 بقيمة 2.85 مليون دينار، أي ما يعادل مليون دولار أمريكي، بهدف تمكينه بصفته مرشحا للانتخابات الرئاسيّة من كسب التأييد من قبل هياكل دوليّة فضلا عن عقد لقاءات مع الرئيس الأمريكي وكبار المسؤولين الأمريكيّين قبل تاريخ الدورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة. ولا فائدة من الخوض مجدّدا في تفاصيل هذه القضيّة، غير أنّ محكمة المحاسبات خلصت إلى وجود إشكاليّات في علاقة جمعيّة «خليل تونس» بالدعاية الانتخابيّة على مستوى أنشطتها، حتّى أنّ مواردها تضاعفت أربع مرّات بين سنوات 2017 و2019، وذلك «في سياق إنجاز أنشطة لا تتماشى بصفة دقيقة مع نظامها الأساسي».
وللإشارة، فإنّ رئيس كتلة حزب «قلب تونس» كان، في إطار المزايدات السياسيّة، قد وصف مضامين التقرير العام لمحكمة المحاسبات حال إصداره بأنّه مستقى من موقع «فيسبوك»، مفنّدا بذلك صحّة ما ورد فيه!. وهو ما يدخل في باب التشويه السياسي للقضاء الذي يُتوقّع أن يلجأ إليه أيضا قياديّو أحزاب أخرى في حال انطلقت خطوات محاسبتهم على تنصّلهم من الواجبات القانونيّة المحمولة عليهم.
وفي كلّ الأحوال فإنّه من العدالة والإنصاف أن يتولّى القضاء التحقيق في كافّة شبهات الفساد المتعلّقة بالشخصيات والأحزاب الأخرى، حتى لا تندرج قضيّة القروي في باب التعمية السياسيّة المؤقّتة، لاسيما في ظلّ ما نلاحظه اليوم من تجاذبات كبرى وتحالفات مشبوهة وتبادل للتهم في كلّ الاتّجاهات.
ومن ثمّة، فإنّه في حالة تعويم التقرير العام لمحكمة المحاسبات وتركه طيّ أغبرة الرفوف والأدراج وتمطيط الإجراءات القانونيّة والقضائيّة والرمي بمقتضياته وعدم تفعيلها، فإنّ ذلك من شأنه أن يعكس وجود نوايا لقبر الملفّات والتغطية على ما يسود من ضغوط سياسيّة. وهو ما يمسّ في نهاية المطاف باستقلاليّة القضاء ويوجّه أصابع الاتّهام إلى جهات تتدخّل في سير دواليبه وتحويل وجهته وفق مصالحها الضيّقة.
هذا ما لا نريده طبعًا لتونس الجديدة، فالقضاء رغم علاّته الكثيرة وشبهة الفساد التي شملت بعض أطرافه مثل كافّة القطاعات الأخرى، فإنّه لا يزال يُعدّ الملجأ الأخير لمحاربة الإفلات من العقاب وضرب أوكار الفساد لإنقاذ ما تبقّى من مسار الانتقال الديمقراطي المهدّد من شتّى الاتّجاهات…
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 ديسمبر 2020