الشارع المغاربي : أعتقد أنّ هذه العبارة سجّلها التاريخ ، وستكون شعار مرحلتنا القادمة: مرحلة تتميّز بخصائص لم يدرك خطورتها سوى البعض ، ولذلك فإنّ صراخهم مكتوم يكاد لا ينتبه إليه الناس. فهل كانت لكم الجرأة في أن تخرجوا قليلا من دوّامة الديناميكية اليومية لتلقوا نظرة متأمّلة لما يحدث في مجتمعنا سياسيا واجتماعيا؟ هل وقفتم ولو قليلا لتقارنوا بين وضعكم اليوم وما كنتم عليه في 2012 أو 2013..؟ تتعجّبون اليوم لما صارت إليه حال الناس من استسلام وتخاذل وإحباط، فهل وقفتم قليلا ونظرتم حولكم؟
نحن اليوم على مشارف حقبة جديدة ، فهل استعدّت لها الأحزاب التي تدّعي أنّها الأقوى والأعرق ؟ هل أسهمت ، ولو بنسبة ضئيلة في تحويل وجهة الخطاب الانتخابي نحو المطالبة بتقديم برامج واقعية وتحاور هواجس هذا الشعب؟؟ طبعا لا.. فالجميع صمّ بكم عمي، وإن تحرّك البعض فلأجل أن ينقد من هو معه في حزبه: فالنداء منحلّ ” كالعهن المنفوش” أو قل هو أشبه بجثّة لم تكرم لتدفن فانقضّت عليها السباع من كلّ صوب تنهش لحمها وتعمل جاهدة على أن تغنم القسط الأوفر منها.. ثمّ ماذا تبقّى منه؟ سوى هيكل عظميّ مبعثر هنا وهناك.. والجبهة الشعبية تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد أن أصابتها حال من الاختناق نتيجة ما مرّت به من إلزام والتزام بمبادئ كان شباب السبعينات يحلمون بها، غير أنّ هذه المبادئ اليوم كبرت في السنّ ولم تعد تستجيب لما يتوق إليه شباب اليوم. وبدل أن تسعى إلى التطعيم والتغيير بما تقتضيه التحوّلات الراهنة قنعت بتحالفات مع اتجاهات إيديولوجية أغلقت في وجه اليساريين منهم كلّ محاولة تتوق إلى التغيير ومحاسبة النفس.. فإذا بنا اليوم نعيش مواجهات لا تعبّر سوى عن طموحات فردية آيلة لا محالة إلى تفكّك هذه الجبهة.. والمجتمع المدني ينتفض من جديد، وعبر بعض الاجتهادات ليلمّ الشمل. لكنّ السؤال الذي لم أجد له جوابا: هل اتعظت هذه المحاولات من التجارب القريبة التي مرّت بها، من مساندة لما قيل لنا عنهم بالمستقلّين فإذا بهم جنود خفاء أو قل جهاز سريّ لبعض الأحزاب التي قامت حتى تطيح بهذه المبادرات؟ ولم يبق من هذا المشهد السوداويّ سوى ما يقوم به الحزب الدستوري الحرّ، وأسوق ملاحظتي باعتباري محلّلة موضوعية لا غير.. فقد أقام هذا الحزب حملته على نقطة واحدة ، وكانت له الجرأة في المناداة بها بل ونشرها، واعتبر أنّ أهمّ برنامج يدعو إليه هو إيقاف طوفان الإخوان الذي تملّك بالمجتمع وصار يتحكّم في أقواله وأنفاسه وحتى فيما يفكّر فيه.. لذلك لاحظنا تململا عند أبي الهول وبدأت مواقفه تتغيّر من احتقار لهذا الحزب إلى تنبيه بأنّه ظاهرة صوتية … إلى مناداته بأن تسحب التأشيرة منه لأنّه صار يهدّد العدالة الانتقالية على حدّ قوله.. هو موقف أحببنا أم كرهنا مغيّب من طرف الجميع دون استثناء.. وحتى إن وجدتَ البعض يعرّج عليه فإنّما تلميحا وفي خجل. وأنا على يقين يوم تلتحم الساق بالساق فإنّ جلّ هذه الأحزاب ستلتجئ إلى الإخوان إمّا لتدعيمها في حملتها الانتخابية، وقد عشنا ذلك في الماضي القريب، أو أن تعلن، في نبرة سيشوبها شيء من اليأس وقلّة الحيلة، أنّ العمل مع الإخوان قدر سلّط على تونس..
فنم يا شعبي.. نم.. إنّ تونس في كلّ ما ذكرت هي بصدد الانفلات منك، وسيأتي لا محالة يوم تستيقظ فيه ولكن هيهات لن تجد تونسك، أتدري لماذا؟ لأنّك في لحظة تاريخية خذلتها رغم صراخها وتوسّلاتها.. ستجد نفسك في ربوع غير ربوعك.. ربوع تلوّنت بالسواد بعد أن كان القاصي والداني ينعتها بالخضراء.. ولن تجد غزلانا بيضاء بل نوقا تسير ” هيدكر”، وستعترضك البنيّات الصغيرات وقد تنكّرن لإنسانيتهنّ فتخفّين وراء حجب.. عندئذ ستعود سريعا لكهفك الذي نمت فيه إمّا للبكاء والعويل أو لطلب نوم جديد أملا في غد مشرق يفصلك عنه برزخ..
لسائل أن يقول لماذا هذه الصورة القاتمة؟ وأين نحن من كلّ هذا؟ ولن نستسلم؟ وأجيبه: ألا تعلم أنّها ” راحت عليك”؟؟ أين أنت ممّا تعيشه تونس منذ 2014 من تغييرات؟ أين أنت ممّا يواجهه المجتمع في كلّ مرّة من اغتصاب لأعرافه .. ومن مسخ لشخصيته؟ تتفرّج وتكتفي بالنقد أو التنديد، والحكومات في كلّ ما يحدث إمّا تخفي رأسها مثل النعامة، أو تسلك سياسة الأصمّ الأبكم معوّلة على الذاكرة القصيرة للشعب.. وفاتك أنّ كلّ جرعة تشربها تسري في عروقك لتخديرك وتعوّدك على الاستسلام.. فإذا بالمرّ عادي إن لم أقل بلسما.. وإذا بالمكروه مقبولا ثمّ محبوبا وويل لمن ينقد.. فهو كافر لا يحبّ الخير لأمّته..
ما قالوا عنه بالتوافق أتى بثماره فإذا بالإخوان قد تمكّنوا منّا تمكنّ الروح من الجسد.. وصار الإعلام الرسمي بوقا ناعقة تغطّي نشاط الرئيس الموازي ، فيصير من الطبيعيّ ، حسب قناتنا الأولى أن تخرج الغنوشي في صورة تنافس صورة رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة، كيف لا وقد صرّح مرارا أنّ هذه الحكومة هي حكومته، ورجاء لا تقولوا أخرج كلامه من سياقه: له أن يستقبل الوفود الأجنبية الرسمية.. ولا تتعجّب يا شعبي إن افتتح الغنوشي الدورة الثانية للملتقى الاقتصادي الأفريقي الذي نظمه المجلس الاقتصادي الأفريقي تحت عنوان : “أفريقيا ، شراكات واستثمار” . لأنّ السياسة الخارجية استوعبت أنّ تونس يمثّلها نصف رئيس ونصف رئيس حزب. وحذار فقد يكون هذا النصف الثاني هو الأنشط.. والأقدر في انتظار ، طبعا، أن يستحوذ هذا الأخير على جميع المسؤوليات.. كلّ ذلك وأنت نائم يا شعبي..
فنم يا شعبي.. نم.. فات الكثير ولم يبق سوى القليل.. وبعد أكتوبر 2019 ، وإذا بقيت على هذه الحال، ولا أعتقد أنّك ستتغيّر فستنالك بركة الإخوان.. و سيوفّق إخوان تونس فيما عجز عنه إخوانهم بمصر.. ستنشأ خلافتهم الضائعة في أذهان أجيالهم.. وتأكّد يا شعبي فأنت لم تُخدَع ، بل كانوا واضحين وصادقين في جميع ما قالوا وفعلوا.. وأكتفي بمثال واحد أذكره لك يا شعبي على سبيل التنبيه اليائس:
عد إلى ما قاله الغنوشي في اجتماعه الأخير بطلبة من جامعة خاصّة بشيكاغو.. والغريب أنّ هؤلاء الطلبة قد سعدوا بلقاء الرئيسين الباجي والشرط التلازمي الغنوشي.. لكن تأمّلوا في الخبر الذي نشرته صفحة حركة النهضة ” وقد تحدث الأستاذ راشد بالمناسبة عن خصوصية التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي ودور حركة النهضة في إنجاح هذه التجربة عبر تبنيها لخيار التوافق مع المكونات السياسية والاجتماعية في البلاد . كما بين الدور الاجتهادي الذي قامت به النهضة في المواءمة والتوفيق بين الإسلام و الحرية والديمقراطية عبر تبني مفهوم الإسلام_الحضاري .” والغريب أنّ كلامه مرّ سلاما وبلسما على الجميع، وهذا دليل على أنّ مشروعه يسير حثيثا نحو الاكتمال والإنجاز.
أتدرون ما معنى الإسلام الحضاري؟ إنّه مصطلح إخواني بحت، أعجب به داعية الإخوان السوري مصطفى السباعي ، وتفنّن في طرزه.. أرميه بين أيديكم ، وأعود إليه بالتحليل في مقال آخر:
لكن ، أسمح لنفسي بتعديل ما طرّزه داعيتهم لأقول لكم : بفضل سياسة الإخواني الغنوشي اجتزنا المرحلة الأولى.. فهل بإمكانكم أن تهتدوا إلى المرحلة التي نحن فيها؟؟
وفي الأثناء… نم يا شعبي.. نم