الشارع المغاربي – هل يتعظ حكام تونس من التاريخ الدستوري والدبلوماسي التونسي؟/ بقلم: أحمد بن مصطفى

هل يتعظ حكام تونس من التاريخ الدستوري والدبلوماسي التونسي؟/ بقلم: أحمد بن مصطفى

قسم الأخبار

31 يوليو، 2021

الشارع المغاربي: منذ انفجار الصراع العلني على السلطة صلب منظومة الحكم التي افرزتها انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية، لم يتوقف الرئيس قيس سعيد عن التحذير، في تصريحاته العلنية المتكررة وبأسلوبه الايحائي المعهود، من المساعي المحمومة لأطراف داخلية وخارجية تعمل وفقا لتقديره على “تفجير الدولة من الداخل” مؤكدا عزمه على التصدي لهذه المخاطر ومطمئنا الشعب التونسي بانه سيحفظ مصالحه وحقوقه وسيظل منحازا اليه ولأهداف الثورة بموجب صلاحياته الدستورية. اللافت ان الرئيس يصر على تجنب الكشف عن الهوية السياسية للجهات المعنية بهذه الاتهامات الخطيرة التي بلغت حد توصيفها بالخيانة والعمالة والتآمر على امن الدولة وعلى حياة رئيس الجمهورية، لكن كل الدلائل تشير الى انه يقصد بها خصومه السياسيين من الائتلاف الحكومي واللولبيات الداعمة لهم باعتبارها المتحكم الفعلي في السلطة بحكم سطوتها على أجهزة الدولة.

الصراع على السلطة وآثاره المدمرة

بلغ هذا الصراع بين الفاعلين السياسيين مداه واتسعت دائرته بشكل غير مسبوق سيما بعد انفجار الخلاف بين رئاسة الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل على خلفية فشل مساعي الاتحاد الداعية الى تنظيم حوار وطني بإشراف رئاسي للنظر في سبل انقاذ تونس من المخاطر الجمة المحيطة بها جراء المأزق السياسي والدستوري المرتبط بأوضاع اقتصادية ومالية وصحية مأساوية يجمع المختصون على انها تخطت كافة الخطوط الحمر وأضحت خارجة عن السيطرة.

لا بد من التذكير أولا بان تونس تشكو أساسا منذ اندلاع الثورة من ازمة قيادات جلها خائنة لعهودها ومتنكرة لمسؤولياتها فضلا عن كونها خاضعة للإملاءات الخارجية و عاجزة عن كشفها او التصدي لها. فقد ثبت ان حكامنا معنيون فقط بالوصول الى السلطة والاستئثار بها بالاعتماد على الدعم الخارجي مع السعي للحفاظ عليها بكافة السبل غير عابئين بمصير الشعب التونسي وبمصالحه ومقدراته المادية والبشرية. هذا الواقع المرير يستشف من الشلل المستمر لمؤسسات الحكم واهمال واجباتها الدستورية مع إصرارها على التوسع في السياسات التي اوصلتنا الى حالة البؤس الاقتصادي فضلا عن الإفلاس المالي المتزامن مع انهيار المرافق الصحية والعمومية في ظرف ينتشر وباء كورونا بسرعة البرق كالنار في الغشيم في جسم الشعب التونسي المنهك متجاوزا الستة عشر ألفا من الضحايا عدى اثاره الاقتصادية المدمرة. وتشير كل الدلائل الى ان هذه الكارثة غير المسبوقة في تاريخ تونس المستقلة، مرشحة لمزيد التفاقم بنسق متزايد في ظل عجز تام من المنظومة الحاكمة عن تجاوز خلافاتها والتفرغ لحل مشاكل التونسيين والارتقاء الى مستوى التحديات والرهانات الحقيقية التي تواجه تونس.

وسيشهد التاريخ انه، في الوقت الذي يشكو فيه التونسيون من الجوع والخصاصة وتفشي الفقر والأوبئة فضلا عن انهيار ظروفهم المعيشية ومرافقهم الصحية والخدمية مما يعرض الآلاف منهم الى خطر القضاء المحتوم، لم تغير منظومة الحكم قيد انملة من أولوياتها المتمثلة في البحث المحموم لإبرام صفقة بيع جديدة لمقدرات البلاد مع صندوق النقد الدولي تتيح المجال للحصول على قروض إضافية ستساهم في مزيد اثقال كاهل الشعب التونسي بديون كريهة لعقود وأجيال جديدة قادمة. ونشير في هذا الصدد الى تقارير دائرة المحاسبات ومفادها ان تونس مطالبة بحلول 2020-2021 بتسديد 123 قرضا بمعدل مليار دولار سنويا وذلك لا يغطي سوى القروض المبرمة الى غاية 2016.

للتذكير، سبق لي ان بينت في كتاباتي العديدة المستندة الى مراجع علمية وأكاديمية تعنى بمخاطر المديونية ومنها مقالي الصادر بالشارع المغاربي 14 سبتمبر 2018 -وهو بعنوان الحقائق المفزعة لمعضلة المديونية، خطر داهم على سيادة تونس –ان تونس تعتبر منذ سنوات عديدة في حالة افلاس غير معلن باعتبار انها تسدد كل عام مبالغ بعنوان خدمة المديونية تتجاوز القروض الجديدة الممنوحة لها سنويا. وهذا هو الواقع المأساوي الذي تعيشه تونس بدرجات متفاوتة من الخطورة منذ نهاية الثمانينات حيث بلغت التحويلات السلبية الصافية ما بين 1988 و2010 لصالح المقرضين، 6534 مليون دينار أي بمعدل سنوي سلبي يساوي – 284 مليون دينار.

والملاحظ أن دول مجموعة السبع التي تفرض على تونس الاستمرار في هذه المنظومة، هي من أبرز المستفيدين من التحويلات الصافية الموزعة بالنسبة للفترة 1994 2010 بين الدائنين كما يلي: 1340 مليون دينار لصالح الولايات المتحدة الأمريكية و1030 م د لصالح ألمانيا و516 م د لفائدة فرنسا و.6506 م د لصالح اليابان وكذلك 459،8 م د لفائدة إيطاليا. وهذا دون احتساب التحويلات الصافية المدفوعة خلال العشرية الموالية للثورة والمعتم عنها من قبل السلطات الحاكمة وهي مقدرة بـ 2.5 مليار أورو الى غاية سنة 2014 فقط. ورفعا لكل التباس، ندعو الرئاسات والجهات المختصة لنشر كافة الأرقام المتعلقة بالمبادلات المالية والتجارية والخدمية أي ميزان الدفوعات مع هذه الدول ومع البلدان الخليجية عموما المستفيدة أيضا بفوائض كبيرة في مبادلاتها مع تونس.

وللتذكير، أكد محافظ البنك المركزي في آخر تصريحاته المثيرة للجدل ان الاعتمادات متوفرة لمواصلة الإيفاء بخدمة الديون مضيفا ان الحكومة ستواصل إعطاء الأولوية لدفع الأقساط المستحقة بقطع النظر عن الظروف والصعوبات التي تمر بها تونس علما انها شرعت فعلا منذ شهر ماي في تسديد الاف ملايين الدينارات بعنوان خدمة المديونية البالغة 18.5 مليار دينار بعنوان 2021 وهي مرشحة للارتفاع في قانون المالية التكميلي القادم. وإذا اضفنا اليها ما تم تسديده من مبالغ بعنوان سنة 2020 وهي بمقدار 11.5 مليار دينا، تكون منظومة الحكم الحالية قد بلغت أرقاما قياسية في اهدار الأموال العمومية في خرق واضح للفصل العاشر من الدستور الذي يلزم الدولة بالحرص على “حسن التصرف في المال العمومي و”اتخاذ التدابير اللازمة “لصرفه حسب “أولويات الاقتصاد الوطني” مع العمل “على منع الفساد وكل ما من شانه المساس بالسيادة الوطنية”.

حقيقة الامر ان مثل هذه التصريحات الصادرة عن محافظ البنك المركزي وكذلك عن وزير المالية ليست الأولى من نوعها ولكنها الأكثر ايلاما للتونسيين والأكثر استفزازا لكرامتهم سيما وأنها تتزامن مع جهود مضنية لاستجداء المساعدات الخارجية تزامنا مع إقرار رئيس الجمهورية بخسارة المعركة ضد كورونا وتتالي نداءات الاستغاثة من المشرفين على القطاع الصحي المنكوب والمنهار. والسؤال البديهي والحارق المطروح على الرئاسات المتعاقبة، كيف تفتقر الدولة للاعتمادات لتوفير اللقاحات والأوكسجين والمستلزمات الطبية الدنيا لإنقاذ حياة التونسيين وهي تتبجح في ذات الوقت بقدرتها على تامين خلاص الديون العدمية الناجمة في معظمها عن الفساد وسوء ادارة الشأن العام والمالية العمومية طيلة العقد الماضي؟؟؟

ووفقا للمهام الدستورية الموكول الى رئيس الجمهورية بموجب الفصل 72، باعتباره رئيسا للدولة ورمزا لوحدتها، السهر على تقيد الحكومة وكافة اجهزة الدولة ببنود الدستور المتعلقة بالحفاظ على استقلال الدولة واستمراريتها فضلا عن حسن التصرف في الموارد العمومية وصرفها وفقا للأولويات الوطنية التي تقتضي تسخير كافة الإمكانات لإنقاذ الشعب التونسي من انتشار الوباء مع التصدي للأطراف الداخلية والخارجية الساعية لتمرير السياسات المضرة بالمصالح العليا للشعب التونسي.

اسباب تعطيل الدستور وتداعياته الخطيرة على تونس

يبدو ان الصفقات السرية المبرمة في باريس برعاية فرنسية بين راشد الغنوشي والبا جي قائد السبسي قبل انتخابات 2014، لم تقتصر على بعض بنود الدستور وانما شملت أيضا الاتفاق على تقاسم السلطة وإدارة شؤون الحكم بأسلوب “التوافق” مع إعطاء ضمانات للجانب الفرنسي الغربي بالحفاظ على مصالحه من خلال الإبقاء على سياسة التداين والسياسات الاقتصادية الليبيرالية المتصلة بها. وقد أدى ذلك عمليا الى تعطيل الدستور جزئيا او كليا في جوانبه السيادية والمبدئية وكل ما يتصل فيه بالحقوق والحريات وبإرساء دولة القانون والمؤسسات ليحل محله حكم التوافقات والتفاهمات السرية الذي شمل إعطاء ضمانات بعدم اثارة تتبعات قضائية تتصل بحكم الترويكا والتوسع في البرامج “الإصلاحية” مع صندوق النقد الدولي وكذلك في التبادل الحر مع أوروبا.

وهكذا تعطل خيار الولوج الى مرحلة تأسيسية جديدة قوامها احياء مشروع الدولة الوطنية المستقلة استنادا للمبادئ العامة للدستور واهم بنوده المتعلقة بحقوق التونسيين وسيادتهم في بلادهم، كما تعطلت البنود الخاصة بوظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية والزامها بتحقيق التمييز الإيجابي وبضمان حقوق الشعب في التنمية وسيادته على ثرواته ومقدراته وكذلك الزامية التصرف الرشيد في موارده من قبل الحكومة.

والملاحظ ان جل أساتذة القانون الدستوري في تونس، عادة ما يركزون الاهتمام في دراساتهم المقارنة للتاريخ الدستوري التونسي على جوانبه المتعلقة بتوزيع السلطات والنزعة التسلطية للرؤساء المتعاقبين التي دفعتهم منذ حكم الرئيس بورقيبة لإدخال تعديلات عديدة على دستور 1959 بهدف تعزيز قبضتهم على السلطات. وبالنسبة لدستور 2014 تركز الدراسات على نظام الحكم وتأثيراته السلبية على الحياة السياسية وكذلك على العيوب الخلقية للقانون الانتخابي وما افرزه من تشتت وعدم استقرار. لكنها لا تربط انهيار الأوضاع الاقتصادية والمالية بتونس بعدم التزام الحكومات والرئاسات المتعاقبة بواجباتها الدستورية ومنها تفعيل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والتصدي للتدخلات الخارجية وتعديها على السيادة الوطنية.

ما يجدر التوقف عنده في هذا السياق هو الموقف الذي اتخذه رئيس الجمهورية من قضية الحوار الوطني ومن دستور 2014 ودعوته لأول مرة الى النظر في سبل مراجعته او حتى استبداله بالعودة الى دستور 1959 وهو ما يؤكد قناعة رئيس الجمهورية بضرورة إعادة توزيع الصلاحيات الدستورية بما يؤدي لحسم الصراع على السلطة لصالح الرئاسة.

في الحقيقة، ان الوضع المأساوي الحالي بتونس، يعيد الى اذهاننا مراحل مفصلية شبيهة من التاريخ الدبلوماسي والدستوري التونسي يجدر التوقف عندها واستخلاص العبر والدروس منها، ونقصد بذلك التجربة الدستورية لدولة الاستقلال وتجربة دستور 1861 التي أسست لأول ملكية دستورية في العالم العربي في القرن التاسع عشر.

– بعد احتلال الجزائر سنة 1830 تضاعف النفوذ الفرنسي بتونس حيث شرعت باريس في تثبيت وجودها من خلال المعاهدة التونسية الفرنسية الموقعة بتاريخ 8 اوت 1830 المتميزة بشروطها واملاءاتها المجحفة ومصادرة استقلالية الايالة التونسية خاصة في مجال التشريع وسن القوانين التجارية. هذه المعاهدة مهدت لتكريس هيمنة فرنسية متصاعدة على تونس تحولت الى شبه وصاية بعد ارغام إمحمد باي تحت التهديد العسكري الفرنسي البريطاني على توقيع “عهد الأمان” سنة 1857 وهو في الظاهر خطوة إيجابية لصالح التونسيين والمقيمين الاجانب من حيث انه اعلان لحقوق الانسان مستوحى من التجربة الإصلاحية العثمانية. ولكن اهدافه الحقيقية كانت، مثلما هو الحال اليوم بالنسبة لاتفاقية “أليكا”، تقنين الهيمنة الفعلية المطلقة لفرنسا على الأنشطة الاقتصادية والتجارة الخارجية وذلك فضلا عن منحها الحق في ملكية العقارات والأراضي الفلاحية وأيضا الحق في ممارسة كافة الأنشطة الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدمية. وقد ادمجت هذه الامتيازات في دستور 1861 الذي مهد بذلك السبيل للاستعمار الفرنسي المباشر بموجب معاهدة 1881. ومع ذلك اعتبر المؤرخ عزالدين قلوز ان دستور 1861 كان “ثورة حقيقية” من حيث انه أحدث أول ملكية دستورية عربية تضع حدا الى الحكم الفردي وتخضع فيها سلطات الباي الى رقابة سلطة تشريعية وهو المجلس الأعلى القادر على اقالته. لكن التجربة أوقفت بسبب فساد الطبقة السياسية الحاكمة التي عطلت تفعيل الدستور فضلا عن رغبة فرنسا في استمرار الحكم الفردي للباي حتى يسهل التحكم فيه خاصة أنها كانت قد حققت مبتغاها من خلال عهد الأمان الذي ضمن حقوق الأقليات الأوروبية المقيمة بالايالة التونسية.

– اما التجربة الدستورية الأولى لدولة الاستقلال، فإنها كانت منطلقا لمشروع بناء الدولة الوطنية التونسية المستقلة على أساس دستور 1959 الذي اقر النظام الجمهوري وأدرج مفهوم “التعاون الدولي الحر” في التوطئة كتجسيد لرغبة دولة الاستقلال في القطع مع الاستعمار. وقد واجهت تونس استمرار نزعة الهيمنة الفرنسة الغربية على الضفة الجنوبية للمتوسط باستراتيجية “الآفاق العشرية للتنمية” القائمة على إزالة الاستعمار الاقتصادي والسعي لبناء علاقات تعاون متوازنة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية. لكن التجربة عانت من التراجعات والعودة المبكرة الى سياسة الانفتاح الاقتصادي والتبادل الحر المختل التي ترسخت في ظل النظام السابق.

– بعد الثورة تحركت فرنسا مجددا بدعم من مجموعة السبع للحيلولة دون تراجع تونس عن هذه السياسات التي كانت آثارها المدمرة سببا في سقوط النظام السابق، ولا شك ان ما تعانيه تونس اليوم من أوضاع مزرية يعزى أساسا الى للتمسك بهذه الخيارات التي لم تتغير في جوهرها وأهدافها منذ الاستقلال رغم ما شهدت من تغييرات شكلية في أساليب العمل. سنعود لاحقا الى هذا الموضوع من كافة جوانبه السياسية والاقتصادية والاستراتيجية كمساهمة في بحث البدائل الممكنة الكفيلة بإخراج البلاد من المأزق الذي تردت في.

خلاصة القول ان مشاكل تونس تعزى بالأساس الى الأداء المختل للطبقة السياسية الحاكمة وليس الى العيوب الخلقية الكامنة في الدستور الذي لا يعتبر مثاليا ويحتاج بكل تأكيد الى المراجعة في بعض جوانبه، ولكنه يشكل في تقديري مكسبا يمكن البناء عليه للعودة الى احياء مشروع الدولة الوطنية التونسية المستقلة باعتباره السبيل الأمثل لإنقاذ تونس من الخاطر الوجودية المحدقة بها.

نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 27 جويلية 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING