الشارع المغاربي: طُلب من روسّو فيلسوف السياسة بامتياز أن يصف لبعض الحكّام نظاما سياسيّا «أنيقا» يطبقونه في بلدانهم، وكان جوابه أن لا وصفة جاهزة تصلح لكلّ الشعوب مهما كان لحكامها من نوايا الإخلاص لأوطانهم… ورأيي يوافق رأيه تماما. ذلك أنّ الشعوب كبذور النبات، والأوطان كأصناف التربة. فبذور القمح لا تطرح أرزّا، وما ينبت في هذه الأرض لا ينبت بالضرورة في أخرى… كذلك الديمقراطية لمن يحسب أنّها الوصفة السحرية لبلوغ مصاف الدول المتقدمة، إن لم تتوفر شروطها لصالح الشعوب فإنّها تلتحق بقائمة الخزعبلات الشعبوية والمطايا الجاهزة للركوب…
فإن سأل أحدهم عن مزيد الإيضاح قلنا في خمس نقاط:
أوّلا أنّ الديمقراطية التونسية التي جعلها البعض أقدس المقدسات هي ديمقراطية مزيفة باعتبار أنّ أهمّ الوعود الانتخابية تتبخر في الهواء بمجرّد الوصول للمنصب المترشح له، بل أكثر من ذلك ينطلق الفائز بالمنصب في التجاوزات القانونية طولا وعرضا معوّلا على الحصانة البرلمانية التي ستمنع عنه يد العدالة وهو الذي طالما مجّد العدالة وحقوق المواطنين في حملاته الانتخابية…
ثانيا أنّ هؤلاء الفائزين يقولون بأنّ الثورات على الديمقراطية محرّمة بحيث أنّها تسقط حقّ انتفاض الجائع والخائف والمهدد ومن اغتصبت حقوقه (على يد من جاءت بهم الديمقراطية). ذلك أنّ من جاء به الصندوق ليس مطالبا بتوفير الخبز والدواء للناس بقدر ما هو مطالب بضمان أبدية ذهاب الناس للانتخاب …! لا داعي لأن نشترط أن تكون العملية الانتخابية نزيهة وشفافة طبعا… فمن عانى من الدكتاتورية يصير بإذن الله تعالى «محصّنا» من أن ينتهج نهج الدكتاتوريات … أليس جعل الديمقراطية أقدس المقدسات دليلا على ذلك ؟! يعني كفى بالديمقراطية مكسبا للجائع والسقيم والمهدد وذو الحقّ المهضوم والمقهور والمضطهد وغيرهم… ووفق الاستثناء التونسي يهون جوع نصيب من الشعب أو حتّى هلاكه مقابل رسوخ الديمقراطية… ولتذهب إلى الجحيم مساعي الاكتفاء الذاتي من الغذاء في ضلّ الديكتاتورية… المسألة مسألة مبدأ … ألا نرى كشعب تغمره سعادة الديمقراطية كم يحرص فريق الحكم على التوافق والحوار وتماسك «الحزام السياسي» ؟! ألم نرى كم من التشكيلات الوزارية مرّت على المنصّة ؟! ولكنّ المشكلة في كلّ مرّة هي عدم تناغم «لون» الحزام السياسي مع أحذية قادة الأحزاب «الفائزة» في «أعراسنا الديمقراطية»…؟! فهل يعقل أن يقبل المواطن الصالح – شبعان كان أم جائع- أن يمرّ لون الحزام هكذا دون أن يناسب الأحذية… ؟! كلّا وحقّ الديمقراطية التونسية !!!
ثالثا أنّ فئة الذين يحكمون تونس منذ الثورة وكلّهم سعادة بالديمقراطية الاستثناء ، فهؤلاء نجيبهم بأنّ التونسي لا يسعه أن يشاركهم تلك السعادة لأنهم لم يشاركوه مكاسبهم المترتبة عن ديمقراطيتهم كما رأيناهم يمارسونها بعد الثورة. إذ كان من نصيبهم «الغنائم» المادية والأدبية بينما كان من نصيب التونسي إفلاس دولته على أيديهم.
رابعا أنّ فئة من التونسيين وقد رأت ضعف الدولة فلم تقصّر في إحضار العصيّ للضرب على رجلين ترتجفان… فقد تكتلوا جماعات واستنبطوا التنسيقيّات والنقابات والرابطات والجمعيّات والاتحادات والحراكات… ويبدو أنّ القائمة مرشحة لأن تطول بما ستجود به قريحة المستبشرين بضعف الدولة من أبناء الوطن كي يغنموا المكاسب قبل إغلاق الحنفية العمومية… معتصمين حول منشآت النفط أو الفسفاط أو مرفق القضاء أو التعليم أو الأمن…
خامسا أنّ كلّ هذا المشهد هو تحت أنظار القسم الأكبر من الشعب المصدوم الذي خذله المدّعون والكذّابون والمتاجرون بكلّ مقدّس والمرتزقة الراقصة على الحبال لا تعرف لهم لون ولا صفة.
(….) بعد تلك النقاط الخمسة نقول: إنّ الاستثناء التونسي من الحاكمين من برلمانيين وأصحاب الوظائف السامية في الدولة، والمحكومين من الغانمين ممّا أفاء به عليهم ضعف الدولة، هذا الاستثناء من الفريقين قد فاق كلّ التوقعات وتجاوز كلّ القياسات. إذ أنّ «الأفراد» الحاكمة بدعم من البرلمانيّين، تغيّر فريق الحكم من الوزراء كما تغيّر عارضات الأزياء فساتينها… ما المشكل ! ؟؟؟ فكلّ فستان هو لمجرّد العرض ولن ترتديه لوقت طويل… لقد دخلنا كتاب غينس للأرقام القياسية… أرقام قياسية في العبث بالدولة التونسية وبمصير شعب بأكمله هو الشعب التونسي إذ تداول عليها منذ 2011 تسع رؤساء وزراء بالإضافة إلى نحو 400 اسم رُشّح أو تقلد منصب وزير أو كاتب دولة، وإن كان هذا الشعب في جزء هامّ منه مسؤولا عن هذه المجموعة «المشرّفة» التي تحكمه… والتي «تنير» وجهه أمام أنظار العالم…
صرنا أشبه بالأضحوكة وإنّ شرّ البلية ما يضحك…
أمّا فريق التنسيقيات ونحوها فالنضال النضال بالإضراب المفتوح حتّى مطلع الفجر من ليلة القدر بإمضاء الاتفاقيات مع ممثلي الدولة…!
حقّا لا ندري أين نهاية المطاف. خاصّة مع مناداة جهات لخروج أنصارها مجموعات ضدّ أخرى من الخصوم بدعوى معاضدة الدولة… ونودّ أن نسألهم: ماذا لو خرج أنصار الدولة زمن بن علي يعاضدون دولتهم… على الأقلّ كان عدد الجياع والعراة والخائفين أقلّ بكثير مما هو اليوم، فهل كان ذلك سيعتبر عملا من صميم الوطنية أم كانوا سيصنفون ضمن قائمات الخونة للثورة «المجيدة» فتنصب لهم المحاكمات الشعبية…؟؟؟
لم يعد هناك الكثير ممن نرجو رشده ممن يمسك بمقاليد الحكم اليوم وأكثرهم ليسوا في الواجهة بل «من وراء حجاب»… وإن أقررنا بأنّ عدد من الأفراد الصالحين من الوزراء قد مرّ بين هذه الجماعة المتلوّنة، إلّا أنّ خريطة الطريق الممسوكة بيد أحد «الكبار» تنصّ على وجوب الولاء لتوجيهات الخريطة أوّلا… ويأتي الباقي بعدها إن كان هناك بقية. وعلى ذلك الأساس فإنّ التركيبة الحالية بمن تجمّعوا حول «الخريطة» بعلم بعضهم وجهل وطمع البعض الآخر، فإننا نذكّر الإسلاميين بأنّ فوزهم في انتخابات أكتوبر 2011 كان بسبب توق جلّ التونسيين إلى تونس تطعم أبناءها وتشكر ربّها الكريم. فقد وعد أولئك الإسلاميون عندما رشحوا أنفسهم للحكم إن فازوا بتعليم التونسيين أرقى أساليب الشكر والذكر لله الحيّ القيوم إذ كان ما يعيبون على الأنظمة السابقة في أبرز مما يعيبون التقصير في تعليم الناس طاعة الله…
ثمّ التحق بهم في انتخابات 2019 فرقة ثانية من الإسلاميين أصحاب «الكرامة» على أن يتداركوا ما فرّط فيه إسلاميّو الدفعة الأولى من «الحزم» في عدد من المسائل الدينية كتصحيح المفهوم الخاطئ حول الأمهات العازبات حيث يقتضي «فقه الأتقياء» تسميتهنّ بـ«الفاجرات»… ويضيفوا إلى ذلك الفقه العظيم شيئا من الكرامة باسترجاع الثروات المنهوبة كالنفط والملح …إلخ.
وحيث أنّ على المنصّة الشرفية اليوم شريك ثالث هو القلب النابض بالعطف والشفقة على المحرومين من أبناء الوطن فإنّه لم يدّع تصحيح مسار القبلة ولا جاء بيده سبحة… بل جاءنا بقناة للمرح والحبور لإسعاد العائلة. وبعد كلّ هذا التقديم فإننا لا نرى من صلاح حال الدين شيئا ولا حلّ صاحب الكرامة مشاكل الأمهات العازبات بتصحيح «التسمية» بشأنهنّ ولا صحح الاتفاقيات بشأن الثروات المنهوبة، والأهمّ من كلّ ذلك أنّ الجوع زحف على تونس زحفا مريعا بفضل هؤلاء بما أوغلوا في التعامي عن مصلحة الشعب التونسي أكثر مما فعل الذين من قبلهم وانشغلوا بلون «الحزام السياسي»… لهؤلاء جميعا نقول: نحيلكم على الله الحقّ الذي فصّل الكتاب تفصيلا حيث يقول جلّ ذكره في سورة الماعون:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴿١﴾ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴿٢﴾ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿٣﴾ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿٦﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿٧﴾
صدق الله العظيم هو حسبنا ونعم الوكيل.
نهلة عنان (كاتبة وناشطة في المجتمع المدني)
نُشر بصحيفة “الشارع المغاربي” الصادرة يوم 2 مارس 2021