الشارع المغاربي – تونس‭ ‬بين‭ ‬سقوط‭ ‬نخبتها‭ ‬السياسيّة والتفوّق‭ ‬العالمي‭ ‬لكفاءاتها‭ ‬العلميّة‭!‬/ بقلم: معز زيود

تونس‭ ‬بين‭ ‬سقوط‭ ‬نخبتها‭ ‬السياسيّة والتفوّق‭ ‬العالمي‭ ‬لكفاءاتها‭ ‬العلميّة‭!‬/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

19 أغسطس، 2022

الشاارع المغاربي : يبدو أنّ قدَرَها أن تغرق غالبًا في التناقضات والمفارقات. تسبح دائما “ما بين الجنّة والنار”، دون أفق جليّ لتصل إلى شاطئ الأمان. هذا حال تونس بوجهيْها المتنافريْن: تألّق عالمي باهر ومُبهر، لا فقط على مستوى بعض الرياضات الفرديّة، وإنّما خصوصا على صعيد الإنجازات العلميّة. وفي المقابل ترزح البلاد في ركام من البؤس على الصعيد السياسي بشتّى آفاته وانعكاساته…

قبل سقوطه بأيّام معدودة، استقبل الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي السبّاح الأولمبي أسامة الملّولي في مطار تونس قرطاج للتأكيد على اهتمام رأس الدولة برفع الراية الوطنيّة في المحافل العالميّة، بعد حصول البطل التونسي على ميداليّة ذهبيّة جديدة في بطولة العالم. كانت البلاد تشهد آنذاك غليانا اجتماعيّا في معظم الجهات. وكانت النُخب السياسيّة المنكمشة -مثل السلطة- في حالة ارتباك وذهول، يبدو اليوم أنّه كان يعكس مُذّاك انخرامها وعجزها عن التأثير الإيجابي في الشأن العام. وفي الأثناء، اعتلت هذه النخب السياسيّة المنابر وأحكمت سيطرتها على دوائر الحكم والمعارضة، لكنّها في الآن ذاته حرصت حرصا شديدا على اختلاق صراعات جديدة لا نهاية لها، أدّت إلى قضم كلّ المكاسب السابقة للدولة التونسيّة وتفتيتها شيئا فشيئا. فبرهنت بذلك على فشلها التّام الذي يفسّر أوضاع بلاد تردّى مشهدها السياسي إلى قاع بلا آخر…

نُخبة السقوط

لا يخفى كذلك أنّ مرحلة السقوط الشامل التي سجّلتها البلاد على كافّة الأصعدة، خلال السنوات العشر الماضيّة، إنّما تكشف للقاصي والداني أنّ نظام بن علي عرف كيف يُحقّق العديد من المكاسب الاقتصاديّة والاجتماعيّة ويحافظ خصوصا على التوازنات الماليّة للدولة. وفي المقابل فإنّ نظامه كان يتّسم بتغييب منهجيّ لأيّ نفس ديمقراطي وتعدّدي، فضلا عمّا كان ينخره من فساد واستبداد.

توقّفنا عند هذه الإشارات لتبيان عمق التناقضات التي ما فتئت تشوب البلاد وأهلها. فجرّاء إعادة إنتاج الممارسات السياسيّة القميئة نفسها، لا نجد تعبيرًا بليغًا لتوصيف مدى سقوط النخب السياسيّة النافقة في معارك وهميّة أو صراعات لا هدف لها إلّا التموقع أو الفوز بغنائم ذاتيّة وتحقيق مصالح شخصيّة أو حزبيّة أو أيديولوجيّة فجّة. ليست هذه التوصيفات من قبيل اللغو الذي يندرج ضمن “ترذيل” النخب السياسيّة في البلاد، مثلما يتباكى هذه الأيّام شقّ من السياسيّين على أفضال الديمقراطية الزائفة التي كانت تسود قبل 25 جويليّة 2021 أو حتّى كما يتفانى خصومهم في تلميع صورة الحاكم بأمره اليوم، علّهم يفوزون ببعض فتات السلطة الآمرة الناهية. يكفي للدلالة على وضاعة المشهد السياسي في البلاد وما تخلّلهامن عمليّات تشويه واتّهامات متبادلة ما أنزل بها الله من سلطان، أن نشير إلى عشرات التسريبات، المتداولة من 2011 إلى 2022، لفيديوهات مصوّرة أو صوتيّة لأبرز الفاعلين السياسيّين، من جماعة الغنوشي وقائد السبسي وسعيّد على حدّ السواء. وما يُدركه الجميع أنّنا لا نحتاج أصلا لتسريبات، حتّى نُثبت هول السقوط الذي تسبّبت فيه النخب السياسيّة عموما، لا فقط سائر الحكومات المتعاقبة بعد الثورة…

الغريب في الأمر أنّه في هذا الزمن التونسي البائس نفسه، تتالى بين الأسبوع وما يليه بعض الأخبار المفرحة التي تُزيح عن الأنفس كوابيس الغمّ والكدر ومشاعر الإحباط، ولو للحظات عابرة، وفي مقدّمتها طبعا الإنجازات العلميّة التي حقّقتها كفاءات تونسيّة شابّة شكّلت في معظمها نِتاج المدرسة العموميّة والجامعة التونسيّة، ثمّ اقتطف ثمارها الغير…

علامات تونسيّة فارقة

الأمثلة كثيرة جدّا، ويمكن الإشارة في هذا الحيّز الضيّق إلى بعضها. فها هي الشابّة الجامعيّة التونسيّة “ندى الرداوي” المتخصّصة في مجال الكيمياء والبيولوجيا البشريّة، وتحديدا في “بيولوجيا الحمض النووي”، تفوز مؤخّرا بجائزة أفضل بحث علمي في ألمانيا، بفضل عملها في مجال تقصّي الأمراض النادرة ومن بينها “تشخيص سرطان الدم بعد فترة العلاج”، بالإضافة إلى بحوثها الموجّهة إلى المشاكل البيئيّة ومصادر الطاقة البديلة وخاصّة المحروقات البيولوجيّة. أليس من الفخر لهذه البلاد إذن أن تكون ابنتها ندى الرداوي أوّل امرأة على النطاقين العربي والإفريقي تفوز بهذه الجائزة العلميّة المرموقة، متفوّقةً بذلك على باحثين من دول عديدة أخرى عريقة في هذا المجال. آمال هي أيضا أوّل تونسيّة تحصل على شهادة الدكتوراه في مجال الكيمياء من جامعة ميونخ التي تأسّست منذ عام 1472. ومن علامات تفوّقها أنّها ثمّنت تجربتها العلميّة بتأسيس شركة ناشئة متخصّصة في إدارة المرافق البيئيّة. تقول ندى في حسابها بشبكة “لينكدين” (Linkedin): “إلى جانب العلم، أجدني ملتزمة بالتعليم والبيئة وحقوق المرأة. فقد أطلقت مبادرة “القراءة من أجل المستقبل” بهدف إحداث مكتبات في المدارس بالقرى التونسيّة. التغيير في المجتمع لا يمكن أن يتحقّق إلّا عبر التعليم”…

مثال آخر يُثلج القلب، رغم حرارة الطقس الحارقة المشوبة بإحباطات المشهد السياسي في البلاد. يتعلّق بالشاب مهدي الماكني الذي لم يكن فقط صاحب المرتبة الأولى في دفعته بالمدرسة العليا للتقنيات بباريس (École Polytechnique de Paris)، وإنّما شارك أيضا في المسابقة الدوليّة للرياضيّات المنتظمة من 2 إلى 8 أوت الجاري، ليفوز بالميدالية الفضيّة، علما أنّ مهدي سبق أن فاز بالميداليّة الذهبية سنة 2018 في الأولمبياد الإفريقي للرياضيات حين كان يدرس بالمعهد النموذجي بصفاقس.

الأمثلة كثيرة جدّا لهذا التفوّق العلمي التونسي، ومن المفرح مثلا الإشارة كذلك إلى البروفيسور معز ليميّم عميد مدرسة الأعمال بجامعة جنوب فلوريدا الذي انتخبه محافظو جامعة فلوريدا الشماليّة العريقة، أواخر جوان 2022، ليكون رئيسها الجديد.

وهل علينا أن نغفل أيضا عن أنّ عالم الرياضيّات التونسي البروفيسور محسن الحريزي الأستاذ بمعهد علوم الرياضيّات بجامعة نيويورك وعضو الأكاديميّة الأمريكيّة للفنون والعلوم قد فاز، في جانفي 2022، بجائزة الملك فيصل العالميّة للعلوم.

وفي أواخر شهر جوان 2022 أيضا فاز المنتخب التونسي للرياضيّات بالميداليّة الذهبيّة في الأولمبياد الإفريقي للرياضيّات المنتظم بالمغرب، متحدّيا بذلك منتخب الرياضيّات المغربي الذي سبق أن فاز بالدورات الثلاث السابقة لهذا الأولمبياد القارّي، في حين حازت جنوب إفريقيا المرتبة الثالثة. وفي هذا الأولمبياد نفسه، فازت الشابّة التونسيّة ياسمين زاهي، ابنة الـ17 عاما والتلميذة بالمعهد النموذجي بقفصة، بلقب “ملكة الرياضيّات في إفريقيا”.

وفي السياق ذاته تقريبا، كشفت دراسة أصدرها معهد الإحصاء بمنظمة اليونسكو، أواخر شهر جويلية 2022، أنّ 55 بالمائة من الباحثين في تونس هنّ نساء، لتنفرد الباحثات التونسيّات بالمرتبة الأولى على الصعيد الإفريقي. والحال أنّ السياسيّين التونسيّين المرضى بالتاريخ البائد مازالوا يعتبرون المرأة مجرّد “مُكمّل” للرجل. وبما أنّها ليست أكثر من مجرّد “نصف”، فإنّه لا يحُقّ لها في الميراث مثلا إلّا نصف حظّ أخيها الذكر. وهو للتذكير ما لا تُصرّ عليه حركة النهضة فحسب، بل يُساندها في ذلك أيضا الرئيس قيس سعيّد المتمسّك بمقولة عدم المساس بـ”صريح النصّ”، لاسيما أنّه حذف في دستوره الجديد “مدنيّة الدولة” واستبدلها بالأمّة الإسلاميّة ومقاصدها. يدلّ ذلك، شئنا أم أبينا، على أنّه لا معنى في ذهنيّة الدولة التونسيّة الراهنة وقوانينها للتفوّق العلمي للنساء على الرجال ولتألّقهنّ في تونس وخارجها. مؤسف إذن أنّ العدالة والمساواة في هذا المجال لن تتحقّق على المدى القصير، في ظلّ جحافل النُخب السياسيّة الانتهازيّة الحاليّة، على غرار أشباه “التقدّميّين” و”الحداثيّين” و”اليساريّين” في مجلس نوّاب الشعب المنحل الذين تملّصوا من اقتناص فرصة تاريخيّة حين كانت الظروف مواتية لتقويم اعوجاج تاريخي وإنساني لا يزال يكبّل المجتمع التونسي على عكس كافّة دول العالم، باستثناء البلاد العربيّة والإسلاميّة المتأبّطة بسُنن التخلّف والتمييز وجلد الذات بظلمات التاريخ بدلا من الاستنارة بمآثره…

يحدث هذا، وفي فترة مقبلة سيُتابع التونسيّون بشكل مباشر إحدى بنات تونس، من ضمن خمس طيّارات من سلاح الجوّ الوطني، وهي تُحلّق عاليا في رحلة سفر مكوكيّة إلى فضاء الكون…

ألا تبوح أمثلة هذا التفوّق العلمي وما يُقابلها من تخلّف سياسي وحتّى إعلامي بحدّة المفارقات التي تشهدها تونس العظيمة في إحدى أعسر مراحلها التاريخيّة الحديثة؟! وكي لا ننسى، علينا أن ندعو كذلك وسائل إعلامنا -الغارقة معظمها حتّى النخاع في ترويج الرداءة والتفاهة- إلى الالتفات إلى عباقرة تونس داخل الحدود ووراء البحار. وربّما يمكنها أن تختزل الطريق عبر الاستنارة بما ينشره عن هؤلاء المتفوّقين مثلا موقع تونس الناجحة «Successful Tunisia».

أستذكر هنا اسم كِتابٍ للقيادي الفلسطيني الراحل خالد الحسن، عنوانه “عبقريّة الفشل”. أي نعم، فنخبنا السياسيّة عموما لم تتفوّق في تحقيق نصيب وافر من العبقريّة إلّا في مُراكمة الفشل على صعيد الخيارات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة… وفي المقابل ليس مطروحًا على هذه النخب المكتنزة بشحوم الانتهازيّة أن تهتمّ، ولو عرضًا، بالعباقرة الحقيقيّين الذين أنجبتهم هذه البلاد. وعندها عليها أن تخرس تمامًا، وألّا ترفع عقيرتها بالصراخ السياسي الزائف عن النزيف الموجع لهجرة تلك الأدمغة الوطنيّة وهروب أبنائنا العباقرة المتألّقين إلى الخارج، كي تحتضنهم وتغتني بهم أعتى جامعات العالم المستنير!…

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 اوت 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING