الشارع المغاربي – دستور «الجمهورية الجديدة»: دستور كل المخاطر والانحرافات! بقلم : الاستاذ‭ ‬الصغير‭ ‬الزكراوي

دستور «الجمهورية الجديدة»: دستور كل المخاطر والانحرافات! بقلم : الاستاذ‭ ‬الصغير‭ ‬الزكراوي

قسم الأخبار

19 أغسطس، 2022

الشارع المغاربي: عادة ما نُعرّف الدستور بأنه ذلك النص الذي ينظم السلط ويضمن الحقوق والحريات ويرسي دولة القانون. بمعنى آخر الدستور يحمل تصورا متكاملا للدولة وهويتها واختياراتها الأساسية. فالدستور في نهاية المطاف، هو عقد اجتماعي يضبط لعقود شروط العيش المشترك.

في تونس، وخلال الربع الربع الأول من القرن 21، انفرد الرئيس قيس سعيد بصياغة وثيقة بنفسه ولنفسه سماها دستور 25 جويلية 2022. وهو دستور يؤسس كما يريد صاحبه لـ”جمهورية جديدة” تقوم لا على دولة القانون فحسب وإنما على مجتمع القانون. كما يقوم فيها نظام الحكم على الفصل بين الوظائف منتهجا معالجة مقاصدية. فهل تستجيب هذه الوثيقة للمعايير الحديثة لوضع الدساتير ولما يجب أن تتضمن هذه الدساتير من أحكام ومبادئ؟

I- أسلوب أحادي غير ديمقراطي

في وضع الدستور

توضع الدساتير اليوم بإتباع أساليب ديمقراطية. ويقصد بالأسلوب الديمقراطي ذلك الأسلوب الذي يجسد إرادة الشعب وحده في وضع الدستور، باعتباره صاحب السيادة في الدولة ومصدر السلطات.1

ومن هذا المنطلق، توضع الدساتير إما عن طريق جمعية تأسيسية تفضي إلى انتخاب مجلس تكون مهمته الأساسية وضع دستور للدولة مثلما جرى  خلال سنة 2011 في تونس، وإما عم طريق استفتاء تأسيسي، يقوم بمقتضاه مجلس نيابي أو لجنة حكومية معينة أو حاكم فرد بإعداد مشروع دستور يقع عرضه لاحقا على الاستفتاء.ويستفاد من التاريخ الدستوري تلاشي المنحى الفردي في كتابة الدساتير ووضعها.

لقد ولّت وبلا رجعة تلك الأساليب غير الديمقراطية في وضع الدساتير والتي تتخذ شكل منحة. ففي إطار هذا الأسلوب غير الديمقراطي، يتفرد الحاكم بوضع وإصدار الدستور دون مشاركة الشعب.

وغالبا ما يمنح الحكام دساتير لشعوبهم في ظل الأزمات وتحت الضغط. ويزخر التاريخ الدستوري بعدة أمثلة تتنزل في إطار الدساتير الممنوحة منها على سبيل المثال الدستور الفرنسي الصادر سنة 1814 والدستور التونسي الصادر سنة 1861 والدستور المصري الصادر سنة 1923.

وفي إطار المسار المسقط  على الجميع الذي حدد أهم محطاته دون تشاور، قرر الرئيس سعيّد بعد حوالي سنة من المناورات والمخاتلات إحداث الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة تتولى بطلب منه تقديم اقتراح يتعلق بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة، ويقدم هذا المشروع إلى رئيس الجمهورية2.

وقد تولى العميد الصادق بلعيد رئاسة هذه اللجنة الذي اضطر في ظل رفض أغلب المكونات الفاعلة المشاركة في حوار وطني شكلي نتائجه معلومة قبل أن يلتئم، أن يشرف على إدارة هذا الحوار بمن حضر ناهيك أن أشغال اللجنة الاستشارية القانونية التي تتكون من عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية بالجمهورية التونسية والتي تتولى إعداد مشروع الدستور لم تلتئم.

وفي خضم هذا التمشي العبثي، قدم العميد الصادق بلعيد  يوم 20 جوان 2022 مشروع ” دستور الجمهورية الجديدة ” إلى رئيس الجمهورية. وبمقتضى الأمر عدد 578 المؤرخ في 30 جوان 2022 تم نشر مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية موضوع الاستفتاء المقرر ليوم الاثنين 25 جويلية 2022. ولقي هذا المشروع نقدا لاذعا لما انطوى عليه من أخطاء على مستوى الصياغة وعلى مستوى التصورات العامة لكتابة الدساتير. وفي محاولة لتدارك الأمر خاصة بعد أن بادر العميد بلعيد بنشر مشروع الدستور الذي قدمه إلى رئيس الجمهورية3، صدر أمر رئاسي عدد 607 لسنة 2022 مؤرخ في 8 جويلية 2022 يتعلق بإصلاح أخطاء تسربت إلى مشروع الدستور المنشور بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 578 المشار إليه أعلاه.

إن اللافت في هذا المسار الطويل الذي فرضه قيس سعيد، هو أن يعتمد على أسلوب سلطوي يستفرد فيه بكتابة “مشروع دستور” على المقاس، خارقا بذلك كل المعايير الدولية المعتمدة في وضع الدساتير. وتقتضى هذه المعايير الدولية أن تصاغ الدساتير وتكتب في إطار الأساليب الديمقراطية التي لم تعد محل جدل. ويبدو أن عرضه على الاستفتاء لإضفاء مشروعية عليه باء بالفشل بحكم المشاركة الضعيفة التي كشفتها نتائج الاستفتاء4.

إن هذه الأسلوب غير الديمقراطي في وضع الدستور يفرغ الديمقراطية من محتواها لأن الشعب ولئن شارك وصوت بنعم على مشروع الدستور، فإن مشاركته كانت صورية تفضي في نهاية المطاف إلى إضفاء مشروعية على عمل الحاكم. وقد أطلق الفقيه Georges Burdeau على هذا النوع من الاستفتاء صفة الاستفتاء الدكتاتوري5.

وإمعانا في تمشيه الإنفرادي على مستوى وضع الدستور، فرض الرئيس قيس سعيد تصوره في هندسة المنظومة الدستورية بتكريس نظريات ومفاهيم ومضامين تبدو غريبة على الدساتير في هذا الربع الأول من القرن 21.

II- مضامين غريبة عن الدساتير الحديثة

يتضمن دستور 25 جويلية 2022 مضامين وأحكاما تبدو غير منسجمة وغير متناسقة مع ما يجب أن تتضمن الدساتير الحديثة.

1- دستور يتجاهل نظرية الفصل بين السلطات والتوازن بينها

ترمي نظرية الفصل بين السلطات إلى الحيلولة دون تمركز السلطة في يد الحاكم، يقول مونتسكيو في هذا الإطار:

C’est une expérience éternelle que tout homme qui a du pouvoir est porté à …en abuser…Tout serait perdu si le même homme ou le même corps des principaux et des nobles ou du peuple exercerait les trois pouvoirs, celui de faire des lois, celui d’exécuter les résolutions publiques et celui de juger les crimes ou les différends des particuliers.

كما أكد “أن هناك تجربة ثابتة تتمثل في أن كل من يملك السلطة يميل إلى إساءة استعمالها”، لذلك ” ينبغي بحكم الأشياء أن توقف السلطة السلطة الأخرىIl faut que par la disposition des choses le pouvoir arrête le pouvoir.

ويعني فصل السلطات عن بعضها وتوزيها اختصاص كل منها بإحدى الوظائف الثلاث بالدولة: الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية.

 فالفصل بين السلطات في الدولة وتوزيعها بين هيئات متعددة ومستقلة بحيث تمارس كل منها اختصاصاتها، يفضي إلى الحد من سلطات الأخرى وذلك عن طريق الرقابة المتبادلة بينها والتي تمنع استبدادها والمس من الحريات الفردية.6

في تصور قيس السعيد، يقوم نظام الحكم على الفصل بين الوظائف. فهو يرى في ما يرى، أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات يفوضها لمن يريد من الهيئات رئيسا كان أو برلمانا أو هيئات.

 ومن هذا المنطلق ميز الدستور بين الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية. ولكن اجتناب استعمال السلطة في الدستور لا يعني نفي السلطة. ذلك أن السلطة هي أجهزة وهياكل أسند لها الدستور صلاحيات. فالوظيفة هي ممارسة سلطة اختصاصاتها. وبهذا المعنى هناك سلط في هذا الدستور.

2- دستور يمهّد لتأسيس دولة دينية

لم يكتف قيس سعيد بإلغاء الفصل الأول التاريخي من دستور 1959  الذي نص على أن” تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”، ولا بإلغاء الفصل الثاني من دستور 2014 المتعلق بمدنية الدولة دون تقديم أي تفسير، بل كرس فصلا فتح به باب الفتنة7.  إنه الفصل 5 من الدستور الذي ينص على أن ” تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى أن على الدولة وحدها أن تعمل، في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”.

هذا الفصل مثير للجدل يعيد البلاد إلى إشكالات القرن التاسع عشر، وهي إشكالات تجاوزتها الحركة الإصلاحية التونسية. ومن مساوئ هذا الفصل أن جعل من الدولة وحدها من يحدد الفهم الصحيح لمقاصد الإسلام التي هي في حقيقة الأمر مقاصد الشريعة. وبذلك يكون قيس سعيد قد أرسى دعائم الدولة الدينية بمعنى الدولة التي تجعل غايتها العمل على تحقيق مقاصد الشريعة. ومن هذا المنطلق، من سيمنع الدولة من المطالبة بمراجعة بعض القوانين التي لا تتلاءم مع مقاصد الإسلام؟

3 – دستور يرسي نظاما رئاسويا يمهد لولاية الفقيه

كرّس دستور 25 جويلية 2022 نظاما موغلا في الرئاسوية. وهو كذلك، لأنه يأخذ من النظام البرلماني ويأخذ من النظام الرئاسي كل ما من شأنه أن يعزز موقع رئيس الجمهورية الذي يصبح بمقتضاه حجر الزاوية في هذا النظام. فرئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة، ويسهر على تنفيذ القوانين، ويمارس السلطة الترتيبية العامة، وله أن يتخذ في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، التدابير التي تحتمها حالة الاستثناء.

 والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فرئيس الجمهورية يمارس الاستفتاء التشريعي المباشر والاستفتاء الدستوري المباشر والحال أنه لا توجد أية دولة ديمقراطية في العالم يتم فيها الاستفتاء مباشرة دون المرور عبر البرلمان. وبالتالي فإن رئيس الجمهورية ينتصب بالاستفتاء التشريعي سلطة تشريعية، وبالاستفتاء الدستوري سلطة تأسيسية. أما الحكومة فهي رهينة إرادته، يسميها ويقيل اعضاءها دون شروط كما أنها محصنة من لائحة اللوم باعتبار أن لائحة اللوم الموجودة في الدستور صورية لأنه يجب تقديمها من قبل الغرفتين أي مجلس النواب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.

وفي هذا النظام، ورغم جسامة الصلاحيات التي يمارسها لا يتحمل رئيس الجمهورية أية مسؤولية، سواء كانت سياسية أو جزائية.

4 – دستور نسف استقلالية القضاء

في الأحكام ذات العلاقة بالقضاء، تم نسف ضمانات استقلال القضاء. فتسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهورية بناء على ترشيح من مجلس القضاء المعني، في حين نص الفصل 106 من دستور 2014 على أن القضاة يعينون بناء على الرأي المطابق. وإجمالا وبخصوص القضاء فقد تمت العودة إلى دستور 1959.

5 – دستور وضع دعائم النظام القاعدي

حرص محرر الدستور على وضع الدعائم الأساسية للنظام القاعدي ومنها خاصة التنصيص على سحب الوكالة وعلى إحداث مجلس وطني للجهات والأقاليم كغرفة ثانية إلى جانب مجلس نواب الشعب.

ويتكون المجلس الوطني للجهات والأقاليم من نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم. وتعرض عليه وجوبا المشاريع المتعلقة بميزانية الدولة ومخططات التمنية الجهوية والإقليمية والوطنية لضمان التوازن بين الجهات، فضلا عن أنه يصادق على قانون المالية. وعبر هذا المجلس والمجالس البلدية والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم سيتم تشييد البناء القاعدي.

صفوة القول ومجمله. من المعايير المتعارف عليها في جودة الدساتير تناسق أحكامها La cohérence. وإذا كان دستور 2014 دستورا مفخخا ومحكم الأقفال والإقفال، فإن دستور ” الجمهورية الجديدة”  يزخر بالتناقضات. فمحرّر هذا الدستور يريد أن يؤسس “جمهورية جديدة” يحكمها القانون ويتجاهل مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها، ويريد دولة تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام في ظل نظام ديمقراطي.

كما ينطوي هذا الدستور على مخاطر وانحرافات تتمثل بالأساس في تهديد الحقوق والحريات وفي التأسيس لنظام سلطوي غاشم ما انفك يتمدد شيئا فشيئا بانتهاج سياسة الأمر الواقع واعتماد أسلوب المخاتلة في تمرير “مشروع البناء القاعدي”.

إن هذا الدستور الذي صاغه سعيد بنفسه ولنفسه يصدر عن مرجعية ماضوية تتجاهل مكتسبات الحداثة والقيم الكونية، لن يعمر طويلا. فدوامه لن يتجاوز العمر السياسي لصاحبه. وبعض مكونات المجتمع بادرت، على غرار ائتلاف صمود، بالمطالبة بتنقيح الدستور، هذا الدستور الذي لم يدخل بعد حيز النفاذ8.

——————-

1 – محمد رضا بن حماد، القانون الدستوري والأنظمة السياسية، مركز النشر الجامعي، طبعة رابعة محينة ومزيد عليهأ، تونس، 2021، ص.297.

2 – مرسوم عدد 30 لسنة 2022 مؤرخ في 19 ماي 2022 يتعلق بإحداث ” الهيئة الوطني الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”.

3 – لمن أراد أن يقارن من مشروع قيس سعيد ومسودة دستور بلعيد، أنظر، الصباح، 5 جويلية 2022، ص. 7 وما يليها.

4 – الصغير الزكراوي، قراء في نتائج الاستفتاء على مشروع الدستور: كل هذا كل هذا من أجل هذا؟،الشارع المغاربي، العدد 321، الثلاثاء 9 أوت 2022، ص. 6.

5 – ورد ذره في:محمد رضا بن حماد، القانون الدستوري والأنظمة السياسية، مرجع سابق، ص. 301.

6 – محمد رضا بن حماد، القانون الدستوري والأنظمة السياسية، مركز النشر الجامغي، طبعة رابعة محينة ومزيد عليهأ، تونس، 2021، ص. 67.

7 – يراجع، – د. نائلة السليني، الفصل 5: “إن هي إلا نار موقدة، الشارع المغاربي، العدد 318، الثلاثاء 19 جويلية 2022، ص.4.

عبد اللطيف الهرماسي، الدين والدولة والدستور، المغرب، 21/07/2022 و 22/07/ 2022.

8 – طعن استئنافي يتيم رفعه حزب أفاق تونس في الحكم الذي صدر ابتدائيا برفض الطعن شكلا، وبالتالي فإن الدستور سيدخل حيز التنفيذ يوم 28 أوت 2022.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 16 اوت 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING