الشارع المغاربي-محمد الجلالي: بعد مرور أكثر من تسعة عقود لا تزال شبهة الاستيلاء على 30 ألف هكتار من أراض بولايات زغوان وباجة وسليانة تلاحق عائلات كانت نافذة خلال حقبة الاستعمار الفرنسي وفترة ما بعد الاستقلال على غرار عائلة الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية الأسبق ومحمد شنيق الوزير الاكبر زمن البايات وعائلة احمد المستيري الذي تقلد أكثر من حقيبة وزارية بين سنتي 1958 و1971 وعائلات شلبي والنيفر وجعيط والعبدلي والشاهد والبكوش بما دفع المتضررين الى رفع عديد القضايا للمطالبة باسترجاع املاكهم وبتعويضات معنوية في حدود 100 مليون دينار وغرامات مالية عن الضرر المادي الذي لحقهم.
اللافت في القضية التي قد تكون الاطول والاقدم في تاريخ تونس حسب شكايات المتضررين أن المتهمين بالسطو على ملك الغير استغلوا هشاشة امرأة تدعى فاطمة بالخير وضعفها للسطو على ملكها الذي حصلت عليه بالتحبيس من والدها معتمدين وفق نفس الشكايات على وثائق مفتعلة وأخرى مدلّسة ومطوّعين أجهزة الدولة لطمس الحقيقة وتعطيل تحقيق العدالة.
حق شرعي فاستيلاء
أبا عن جد سعى ورثة فاطمة بالخير حفيدة الولي الصالح بالخير الحناشي منذ ثلاثينات القرن الماضي لاستعادة آلاف الهكتارات من اراضيهم الممتدة بين ولايات زغوان وباجة وسليانة معتبرين ما كان يعرف سابقا أحباسا على ذمة جدهم حقا شرعيا استولت عليه عشرات العائلات النافذة زمن الاستعمار الفرنسي وخلال حكم الرئيسين الاسبقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
يوم 28 جانفي 1966 وبعد اصدار اللجنة الجهوية لحل الاحباس قرارا يقضي بتسجيل وقف باسم عديد العائلات من بينها العائلات سالفة الذكر، تقدمت عائلة بالخير الحناشي باعتراض قانوني على القرار تكفّل به المحامي السابق لدى محكمة التعقيب بتونس ريمون شمامة.. وفي 26 سبتمبر 2022 رفع الشاب أمين العشي الذي يمثّل الجيل التاسع من عائلة بالخير شكاية الى وكيل الجمهورية متهما المرحوم الباجي قائد السبسي وكل من سيكشف عنه البحث بالتدليس والاستيلاء على ملك الغير واستغلال النفوذ.
بين سنتي 1966 و2022 تتالت القضايا وتراكمت التفاصيل دون ان يشهد الملف حلا جذريا قد يطوي صفحة الماضي ويكشف حقيقة كل الادعاءات.
يقول أمين العشي وهو يقلّب عشرات الوثائق التي يعود بعضها الى اكثر من 80 سنة: “القضية لا تخرج عن استغلال عائلات نافذة زمن الاستعمار الفرنسي وبعد الاستقلال الإمساك بزمام الادارة تارة وبالحكم طورا آخر للاستفراد بجدتي ووضع يدها على أرضها وتسجيل ملكيتها باسماء افرادها”.
ويضيف: “كان يفترض ان يتم عند صدور قانون حل الاحباس تقسيم اراض باسم جدنا بالخير الحناشي بين حفيدته والدولة الا ان من أشرفوا على عملية تسجيلها سطوا على حقوق الكل فافتكوا اراضينا وحرموا الدولة من استغلال املاكها”.
نسخة بلا أصل
امين العشي يؤكد ان ظهور أسماء جديدة لا علاقة لها بورثة جدته في الرسوم العقارية للاراضي دفع جده ثم عمه الى الاعتراض على التسجيل وأن ذلك ادى الى تجميد الاحباس الى حدود سنة 2001 مشيرا الى ان التجميد حرم الورثاء من استغلال العقار والى ان ذلك لم يمنع المستولين عليه من التصرف فيه والانتفاع به.
ويوضح “ما حدث معنا ان من كلفته وزارة الاوقاف في ثلاثينات القرن الماضي بحل الاحباس هو من اشرف اساسا على حرماننا من استغلال اراضينا واعني هنا محمد شنيق الوزير الاكبر زمن البايات والذي تفاوض مع فرنسا على استقلال تونس.. شنيق وغيره ممن ذكرت اسماؤهم في الرسم العقاري الشهير سعوا الى التحوز على املاك الدولة في الاحباس فلهفوا معها كل الاراضي التي تعود الى جدنا بلخير الواقعة بين ولايات باجة وسليانة وزغوان”.
أما عن طريقة الاستيلاء على الاراضي فيشير المتحدث الى انهم تسللوا عبر احد الجيران مبينا انه استغل علاقة المصاهرة مع شنيق لافتعال وثيقة مدلّسة وتغيير اسم جدته من فاطمة بنت بالخير الحناشي الى فاطمة زوجة رجب خزندار دون الاشارة الى اسمها الثلاثي.
ويتابع” : من غرائب الدهر ان المستولون على الارض ذكروا في نفس الوثيقة المفتعلة ان الجدة تنتسب الى عائلة شلبي المجاورة لعائلتنا وهو ما يدحض كل ادعاءاتهم”.
في ذات السياق يشير احد محاميي عائلة بالخير في مرافعة تعود الى سنة 2001 إلى أن مستغلي الاراضي دون وجه حق اعتمدوا عند تسجيل العقار بأسمائهم على نسخة بلا أصل رغم أن اجراءات التسجيل لا تتم إلا بعد الاستظهار بالاصول.
ويشدد المحامي حسب مرافعة حصلت “الشارع المغاربي” على نسخة منها على ان المستولين حاولوا اتهام عائلة بالخير بالتعويل على تشابه في الأسماء بين جدتهم فاطمة بالخير وفاطمة بية التي يدعون انتسابهم اليها للتأكيد على احقيتهم في العقار موضوع النزاع.
امين العشي يؤكد من جهته ان الارض موضوع النزاع مسجلة منذ سنة 1500 زمن الدولة الحفصية باسم جده بالخير الحناشي وان عائلته لم تحصل على الاراضي من المستعمر الفرنسي ولم تتحوز عليها ابان الاستقلال لافتا الى ان كل الحكام الذين تعاقبوا على تونس لم يجرؤوا على افتكاك املاكهم الى ان جاء وزراء محسوبون على دولة الاستقلال فغيروا الملكية وتصرفوا في ما لا يملكون.
ويتابع “حتى خلال فترة الاحتلال الفرنسي اجرت سلطات الاستعمار تدقيقا في اراضينا وسجلتها باسم عائلتنا. كما حصلت نفس السلطات بالقوة على توكيل اجباري من جدنا دون ان تفتك منه الاراضي مع العلم اننا نملك نسخة من هذا التوكيل الاجباري”.
ويشير أمين الى أن العائلة رفعت سنة 1993 شكاية في التدليس ومسك واستعمال مدلس والى ان قاضي التحقيق طالب الاطراف المتنازعة بتقديم وثائق الملكية مؤكدا ان عمه استظهر بالإثباتات وانه تعذر في المقابل على الخصوم تقديم اي اثبات.
ويواصل “ما راعنا إلا انه تم اصدار قرار يقضي بحفظ القضية لعدم كفاية الحجة واللافت ان القاضي الذي أصدر القرار آنذاك اصبح بعد ذلك من الاثرياء والنافذين”.
قرار بلا تفعيل
يقول أمين العشي “أكبر دليل على أحقيتنا في الارض هو القرار الصادر عن الرئيس الاسبق الحبيب بورقيبة بتمكيننا من 30 ألف متر مربع من الاراضي الفلاحية.. قرار بقي بلا تفعيل.. وحتى حين راسلنا سنة 1998 وزارة املاك الدولة لاضافة حجة وفاة جدتي اكدت الوزارة ان الارض تعود لنا ناصحة ايانا برفع قضية في الغرض”.
سنة 2022 أعاد امين العشي رفع قضية بالمرحوم الباجي قائد السبسي وكل من سيكشف عنه البحث مشيرا الى انه لمس بطأَ غير مفهوم في تناول الملف والى ان ذلك يثير الريبة. وإلى انه أودع قبل ذلك ملفين واحد لدى هيئة الحقيقة والكرامة وآخر لدى هيئة مكافحة الفساد دون جدوى.
أمين استغرب من عدم تحرك اجهزة الدولة منذ عشرات السنين للتعاطي بكل جدية مع كل القضايا التي رفعها افراد عائلته والتثبت من ادعاءاتهم قائلا “لو تكفلت الدولة بالملف وطالبت الجميع بتقديم ما يثبت ملكيتهم للاراضي محل النزاع لاكتشفت انهم لا يتحوزون على أية وثيقة ملكية لها ولاستعادت آلاف العقارات العمومية”.
وتساءل “كيف تم رفع التجميد عن الاراضي المحبسة؟ وعلى أي أساس أصبحت الارض على ملك كل من ورد اسمه في الرسم العقاري؟ وان كانت القضايا التي رفعناها من قبيل الإدعاء بالباطل على كل افراد العائلات النافذة الواردة اسماؤهم في الرسم العقاري لارضنا لماذا لم تتم محاسبتنا خلال فترات حكم بورقيبة وبن علي وفي اوج نفوذ المستولين على أراضينا؟
قد يبدو ملف الاستيلاء على ارض الولي الصالح بالخير الحناشي مجرد نزاع مدني او حتى عقاري لكن ثقل الاسماء الواردة فيه وتقلدها مسؤوليات سياسية خلال تغير وضعية العقار ودخول اقاربهم على خط المالكين تطرح أكثر من سؤال عن استغلال النفوذ خلال الاشراف على عملية حل الاوقاف وتطويع هياكل الدولة للاستيلاء على ملك الغير مع العلم ان قدم القضية وتعدد الاطراف المعنية بها حال دون تمكن الجريدة من الاتصال بكل الاسماء المذكورة والتي يبقى حقها في التوضيح او الرد مكفول ومتاح.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جويلية 2023